إنَّ الفشل العسكري والسياسي الذي مُني به الجيش الإسرائيلي والانهيار الداخلي والأزمة التي تعصف بحكومة الكيان الصهيوني منشأه فشل إستخباراتي بحت، رغم إنفاق ميزانية ضخمة على شبكة الإستخبارات في سبيل حماية المستوطنين وحماية دولتهم على مدار ٧٥ عامًا من قيامها على أرض فلسطين التاريخية.
وإن هذا الفشل مردهُ الغرور والغطرسة وحالة الرفاهية السياسية التي عايشها الكيان وخاصة بعد إتفاقيات السلام مدريد وأسلو وادي عربة وغيرها، والتي جعلت منه يغط في سبات عميق وأعمت بصيرته عن أي تطلع فلسطيني أو عربي لمواجهة مشروعية وجوده (المشروع الصهيوني). فهذه حقيقة لا يمكن استغفالها.
لم يكن متوقعًا حجم المفاجآت التي راحت تتهاوى كالضربات على رأس الهرم السياسي في إسرائيل، مثل تزايد عمق الشرخ والخلاف بين المعارضة والحكومة وتزايد عدد الأصوات المطالبة بوقف الحرب ورحيل نتنياهو. وما نشهده من حالة الإنقسام والتشرذم والخذلان، التي يعيشها أقوى تشكيل في الجيش الصهيوني مايسمى بلواء غولاني من الضربات التي قسمت ظهر الجيش وأجهزت على عتاده وقتلت أعدادًا كبيرة في صفوف الجنود والضباط والمرتزقة.
إن هذه الحرب المستمرة على الشعب الفلسطيني أثبتت للجميع مما لاشك فيه قدرة وفعالية المقاومة الفلسطينية على الصمود وإدارة الأزمة، والتصدي بحزم أمام المحاولات الرامية لتهجير الفلسطينيين وإقتلاعهم من أراضيهم سواء في الضفة والقطاع. كما أثبتت للمرة الألف أن حلم الدولة الفلسطينية ليس مستحيلًا في خضم هذا السيل العارم من التضحيات اللامتناهي للفعل المقاوم والقدرة على إدارة دفة الصراع لوقت أطول على غير المتوقع. أليس قرار الصمود باستطاعته أن يقود المقاومة إلى استنزاف للقوى البشرية والعتاد العسكري والتحصينات للعدو على الرغم من الفارق الكبير للتسليح والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والدعم الأمريكي والموقف الدولي المؤيد؟ إلا أنه رغم كل هذا الدعم استنزفت المقاومة المحتل و كل قواه البشرية وأنهك العدوان الغاشم على غزة قطعات الجيش، الذي تكبد الخسائر والهزيمة في شوارع وأحياء القطاع. وحالة التأهب المستمر لدفاعاته في تل أبيب وغيرها من المدن جراء صواريخ المقاومة تظهر مدى الضعف والهشاشة في تحقيق أي تقدم على جبهات متفرقة، لو حدث ذلك على حساب الأسرى الذين يموتون جراء القصف العشوائي.
بالطبع، كلها أسباب تصب في مصلحة المقاومة، تُرمي إلى تحطيم وتمزيق هيبتة. الأمر الذي سيجعل من جيشه المتغطرس يتردد في أي عدوان أو مواجهة مستقبلية ويُضعف أمام أي مواجهة مع جيوش المنطقة، فيما لو حدثت على المدى القريب. إذاً، ما قورنت بحجم الخسائر التي تلقاها من حركة حماس والفصائل الفلسطينية ذات التسليح المتواضع والإمكانيات البسيطة مقارنة بالجيوش النظامية.
دون أن ننسى حالة القلق المتزايدة التي يعيشها المحتل من تفاقم الحرب واشتداد الصراع، خاصة في جنوب لبنان والضفة الفلسطينية، والتي أصبحت تؤرق المحتل. إن تنامي قدرات المقاومة المتزايد جعل قيادة الاحتلال تتخبط وتلقي بالتصريحات المتضاربة على أكثر من مستوى حول اغتيال شخصيات قيادية فلسطينية في الخارج والداخل، مما ينم عن حالة التشتت والفشل التي يعيشها. فهي تناقض الواقع على الأرض وخاصة بعد عملية طوفان الأقصى البطولية، التي ساهمت في تفكيك بنية المحتل الاستيطانية.
الفعل المقاوم أفضى إلى نظرية الفشل الإلكتروني والتكنولوجيا، والمعلومات المغلوطة التي كانت تنقل منافية للواقع ولاتمت لها بصلة. عملية طوفان الأقصى أسقطت رهان العدو على المؤسسة العسكرية والأمنية في حفظ الأمن والاستقرار. أكثر من ٨٢ يومًا منذ بدء العدوان، لم يتحقق هدف مما كان يطمح له المحتل لا أعاد الأسرى ولا أمضى في القضاء على المقاومة. بل، من وجهة نظري، تم ما يلي:
- رفع الحكومة الإسرائيلية سقف الأهداف وفي مقدمتها القضاء على حركة حماس وتقليص قدراتها الصاروخية وإضعاف إمكانياتها العسكرية. إلا أن هذه الأهداف أخذت تتلاشى.
- قضية الأسرى، إذا كانت إسرائيل جادة حسب زعمها، كيف ستعيدهم أحياء؟ وهذا إن تحقق هدف القضاء على حماس. وهذا الأمر يحتاج لإجابات، كيف ومتى؟
- تواصل القصف العشوائي لتدمير كل شيء. حكومة العدو تعلم أن الأسرى ورقة رابحة بيد المقاومة، فأرادت بشتى الوسائل أن تفوتها على المقاومة. هذا ماتؤكده الغارات المتكررة والقصف العنيف بآلاف الأطنان بالقنابل الغبية التي لا تبقي ولا تذر.
أثبتت الأحداث السابقة أن حكومة العدو تغلب مصلحتها الشخصية على كما ذكرت سابقًا في مقالي في بداية الحرب وعلى مصلحة مستوطنيها، الذين تركتهم عرضة لضرباتها تحت حجة القضاء على حماس. وإن هذه الحكومة فقدت الثقة وما زالت الرغبة ملحة في كسب المزيد من الوقت لإعادة الهيبة الضائعة وعقدة الثمانين عام التي يعيشها المحتل، كلها أسباب أفقدته القدرة على التركيز.
صمود وبقاء المقاومة على الأرض وفي الأنفاق شكل تحدِّ من نوع آخر وعقبة نفسية أمام جنوده، جعلته يفكر في خطوة للتراجع. السؤال الذي يفرض نفسه هل توقفت إسرائيل عن اغتيال القيادات الفلسطينية في تاريخها الإجرامي الطويل؟ لو عدنا إلى الوراء، لوجدنا إسرائيل اغتالت العشرات بل المئات من القيادات والمناضلين، فهل توقفت مقاومة الشعب الفلسطيني على مدار ٧٥ عامًا وألغت وجودها؟ بل كانت على غير المتوقع دحضت توقعات العدو بإنهاء وجودها والقضاء على مصادر التسليح والدعم للمقاومة، كلها حجج واهية. كانت المقاومة دائمًا قادرة على التكيف والتموه في أقسى الظروف، مما أكسبها قدرة على إخفاء إنجازاتها.
طورت ونظمت صفوفها، تمتعت بالانضباط، وأعدت المفاجآت ضغطت باتجاه فرض إرادتها في كل معركة خاضتها مع المحتل. لقد استطاعت كسب ثقة الشارع الفلسطيني والتأييد الشعبي، وفي كل أرجاء العالم على أن لها الحق في الدفاع عن الحقوق المشروعة، في مقدمتها الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
وخاصة بعد كل المحاولات الفاشلة من قبل العدو وأدواته في المنطقة لجرها إلى مستنقعات ضحلة لا طائل منها. الهدف وراءها تشويه صورتها، فهي تمثل الشعب الفلسطيني وإظهارها بمظهر المتسلق والمتطفل على أحلام الشعوب سيشوه صورة المقاومة ومن وراءها المشروع التحريري كامل.
نُقلت المعركة إلى أوساط الشارع الإسرائيلي المتجذر بالخلافات أصلًا الذي يعج بالفوضى والتناقض. المعركة اليوم ستحسم لصالح المقاومة التي أدارت بحكمة وهدوء في وقت يعد هو الأطول على مدار الصراع، وهيأت الظرف الملائم لمراكمة التجربة الفلسطينية وتشكيل جبهة مقاومة شاملة تضم الجميع. على خلاف ماتريده أمريكا سلطة في غزة فقط، وحلقة مفرغة من المفاوضات لإضاعة الوقت. بل تركت المقاومة الباب مفتوحًا للجميع لكي يستنهض الهمم ويشارك في إعادة اللحمة وضخ الدماء للمقاومة من جديد.
الكاتب والباحث محمود النادي