أهم معلم من معالم الحداثة العربية هو النخبوية، فلا يستطيع أحد إنكار تحقق هذه الحداثة وتمظهرها في المؤسسات العامة والأكاديمية. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونجاح حركات التحرر العربي في نيل الاستقلال بعد حروب التحرير التي حصدت ملايين الشهداء العرب، وجدت حركات التحرر العربي نفسها وجهاً لوجه أمام مسؤوليات جسيمة في التعامل مع السلطة والحكومات الوليدة، مسؤوليات لم تألفها خلال الحقب الثورية، فالثورة والتحرر شيء وقيادة الدولة والمجتمع شيء آخر، واستطاعت هذه الدول الناشئة أن تحل مسألة الشرعية منذ البداية حيث أن شرعيتها كانت تستمد من الشرعية الثورية، وشكلت الشرعية الثورية غطاءً معقولاً مكنت هذه الحكومات الناشئة من بسط نفوذها على مفاصل الدولة والمجتمع، وأصبح قادة الثورة والتحرير وقادة الانقلابات على الأنظمة القديمة يتربعون على قمة الهرم السلطوي بسلطات تنفيذية وتشريعية تكاد تكون مطلقة.
لم تتأخر هذه الحكومات عن الإفصاح عن خطها الفكري الصريح والذي اتخذ في أغلبه الخط القومي العروبي الذي طبع المشروع النهضوي العربي بطابعه منذ البداية. ولكي تتمكن هذه الدول القومية الناشئة أن تحكم قبضتها على السلطة قامت بإنشاء مؤسسات حداثية استطاعت أن توظف العلم الحديث والتكنولوجيا والتقنيات الحداثية في الإدارة والعلوم والإنسانية، ما جعل هذه المؤسسات كالجيش والمخابرات والشرطة والتعليم العالي تبدو وكأنها التجلي الحقيقي للحداثة الغربية في مجتمعاتنا العربية. واهتمت هذه الدول القومية بخطط التنمية والإصلاح الاقتصادي والزراعي وخطط التعليم وخاصة إرسال البعثات الدراسية لدراسة كافة العلوم النظرية والعملية والعلوم الإنسانية ونظم الإدارة المتقدمة، وارتبط الإنجاز على الصعيد التنموي على الدوام بالشعارات القومية في التحرر من التبعية الغربية وامتلاك العلم والحداثة لإنجاح المشروع النهضوي العربي، وكان من الواضح أن هذه الدول استطاعت أن تنشئ دولاً حديثة واستطاعت أن تستقطب إلى جانبها كافة النخب المثقفة والكفاءات العلمية وتزجها في عملية التحديث الشاملة، كل هذا يحسب ويسجل لصالح هذه الدول حيث كانت التنمية هي الهاجس الأول في خططها واهتماماتها، وقد أدى كل هذا إلى نتيجة متوقعة وهو التحالف بين القوى القومية والنخب العلمانية، وأصبحت النخب العلمانية تشكل العمود الفقري للمؤسسات الحداثية وخاصة الجامعات ومؤسسات البحث العلمي. وهكذا تزاوج القومي والعلماني في المشروع النهضوي العربي كأمر واقع أفرزه عصر التحرر، ولقد نوّهنا منذ البداية أن الحداثة كانت نخبوية بمعنى أنها لم تتعدّ النخب الثقافية والعلمانية.
هكذا عُزلت الجماهير العربية سواء بقصد أو بدون قصد وأقصيت عن المشاركة الفاعلة في صيرورة النهضة والحداثة، وترتب على هذا أمر في غاية الأهمية وهو استحواذ النخب العلمانية والمتحالفة مع القوى السياسية القومية على مغانم وثمرات الحداثة التي لم تتأخر في الظهور،، ولا بد من التنويه هنا أن القوى القومية السياسية استأثرت بالسلطة استئثاراً تاماً ولم تشارك النخب العلمانية في هذه السلطة، وكان هناك أشبه بالاتفاق غير المعلن بالمشاركة فقط بالغنائم دون أن توضع مسألة السلطة (وخاصة قمة الهرم السلطوي) موضع بحث، حيث بقيت السلطة متركزة في ما يسمى بمجلس قيادة الثورة كما هو واضح في مصر والعراق والجزائر وسوريا، وهكذا بقيت التنمية السياسية محيدة تماماً وخارج حسابات السلطات ولم يقم أي مشروع تنمية سياسية في أي قطر عربي في هذه الأوقات المبكرة من المشروع. وهكذا نشأت طبقة نخبوية استأثرت بالمكاسب، وتضخمت هذه الطبقة حتى أصبحت طبقة واضحة المعالم تقف مقابل الجماهير الأخرى المحيّدة إلى أبعد حد، إن الجماهير العربية العريضة بطبقاتها العمالية والفلاحية لم تستطيع أن تواكب عمليات التحديث مما جعلها تبقى خارج دائرة الحداثة الناشئة. لقد حققت الحداثة إنجازات مهمة وخطيرة في الدول الناشئة النخبوية، ولعل أهمها هو النصر الجزئي الذي تحقق في حرب أكتوبر عام (1973) الذي جعل دولة النخبة تسكر حتى الثمالة وهي فرحة بانتصاراتها، وأصبحت النخبة تهلل وتبشر بعصر جديد من الانتصارات الكبرى المترافق مع المد الأيدلوجي الثوري العروبي.
ولكن دولة النخبة لم تفطن إلى أمر خطير وهو أن أي حركة نخبوية مهما عظُمت فإن مصيرها الفشل إذا لم تمتد لتصبح حركة جماهيرية يشترك فيها كافة طبقات الشعب، ولم تتأخر النتائج السلبية للنخبوية بالظهور، فلقد أصبحت الجماهير العربية العريضة تقف في جهة ودولة النخبة وتحالفاتها العلمانية في الجهة الأخرى، وبما أن الجماهير العربية العريضة لم تستطع أن تواكب صيرورة الحداثة منذ البداية فهي وجدت نفسها مرغمة ولا خيار بديل أمامها سوا الفكر الديني الإسلامي، وهكذا بدأت الجماهير العربية بإستجماع ورصّ صفوفها وتوظيف الفكر الديني الإسلامي لمواجهة قهر وتسلط دولة النخبة واستئثارها بالمغانم وترك الجماهير تعاني الفقر والحرمان والتهميش، نحن نستطيع أن نرصد بدايات المد الديني منذ أواسط السبعينات وظهور القوى الإسلامية على الساحة السياسية بكل وضوح، وقد صاحب المد الديني الإسلامي تيار من العنف والتطرف مما يثبت تحليلنا السابق بأن هذه القوى الدينية انبثقت من رحم المعاناة والإقصاء والحرمان والفقر، ولم تجد هذه الجماهير أيدلوجية بسيطة تتبناها أفضل من الفكر الإسلامي الذي يتسم بالبساطة وهو في متناول عقل أي مواطن عربي بسبب التراكم الحضاري والتربوي والتعليمي. ولقد نفر المواطن العربي خصوصاً من الحداثة وصعوبة وتعقد المنظومة الفكرية المعرفية للحداثة والعلمانية فأدى به المطاف إلى إنكارها ومعاداتها، وهكذا ظهر إلى العلن في نهاية السبعينات التنظيمات الدينية المتطرفة والتكفيرية بالإضافة إلى التيارات الدينية المعتدلة التقليدية والتي كانت من ثمرات النهضة العربية الأولى وامتدادا لها مع التذكير بأن النهضة الأولى كانت إسلامية الطابع والتي انبثقت في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وهكذا لم تجد التيارات الدينية الجديدة كبير عناء في الانتشار والعمل داخل الجماهير العربية نظراً لوجود أرضية مناسبة خلقتها أجواء وظروف النهضة الأولى، وقد أدى نجاح الثورة الإسلامية في إيران إلى إعطاء جرعة تنشيطية عالية للتيارات الدينية العربية، وأصبح النموذج الثيوقراطي الإيراني هو الحلم الذي يراود الجماهير العربية العريضة التي تقودها التيارات الدينية.
ولقد تنبه مفكرونا إلى هذا الوضع الجديد الذي أفرزته الدول النخبوية وذهب بعضهم إلى نهاية الشوط في التشاؤم، وتنبئوا بأن هذا الوضع سيؤدي قريباً إلى نشوب الحرب الأهلية في المجتمعات العربية، فلقد تحدث برهان غليون في كثير من التشاؤم في نهاية السبعينات عن حرب أهلية وشيكة وتحدث غليون عن واقع عربي خلق ولا زال يخلق كل شروط هذه الحرب، والحقيقة أن هذه النبوءة لم تتأخر في التحقق فلقد بدأت في لبنان في أوضح صورها والتي صورها غليون بالحرب بين حلف الحداثة العربية من جهة والأكثرية الشعبية من جهة أخرى، ويبدو أن هناك قناعة راسخة لدى حلف الحداثة العربية أن الجماهير العربية المتخلفة أصبحت تقف عائقاً أمام المشروع الحداثي العربي، ويعتقد برهان غليون أن حرب عام 73 كانت الحد الفاصل بين مرحلة ماضية قد ولت ومرحلة جديدة ذات خصائص وقوانين صراع جديدة قد بدأت، ولقد كانت حرب عام 73 أقصى ما يمكن أن يقدمه المشروع الحداثي النخبوي العربي ولقد شخص برهان غليون المأزق الذي وصله المشروع النهضوي العربي بمصطلح القطيعة، ولقد كان هناك وجهين واضحين لهذه القطيعة أولهما: القطيعة التي أحدثتها هذه النخب الحداثية مع الجماهير، وثانيهما: القطيعة التي أحدثتها الحداثة النخبوية مع تراث الماضي باعتباره متخلفاً واستبداديا ورجعياً.
لقد كانت هذه القطيعة بوجهيها هي السبب الذي أدى إلى تقويض هذا المشروع الحداثوي، وجاءت الحرب الأهلية التي اندلعت في الجزائر كتحقق أخر لهذه النبوءة فلقد التفت الجماهير العربية حول الجبهة الإسلامية في الانتخابات البرلمانية وحصدت الجبهة معظم أصوات الجماهير وهكذا نشأ وضع جديد يتمثل في الاستحقاق الانتخابي الذي حصلت عليه الجبهة، وقيام السلطة العلمانية بإلغاء هذه الانتخابات ونتائجها مما جعل الجبهة تلجأ للعنف والتطرف لمحاربة السلطة والقوى العلمانية المتحالفة مع هذه السلطة وربما يكون النموذج الجزائري بالغ الوضوح حيث أن القوى الإسلامية المتطرفة بادرت إلى تصفية الرموز الثقافية العلمانية في المجتمع في إشارة واضحة للحرب على العلمانية، وأصبحت الثقافة العلمانية تحت طائلة العقاب والقتل والتهديد وعصفت بالمجتمع الجزائري موجة من الرعب والعنف واللاإستقرار وتعويق التقدم والتنمية وهجرة الكفاءات العلمية (العلمانية) والرموز الثقافية والليبراليين إلى خارج الوطن هرباً من قطع الرؤوس ، ولا زالت هذه الحرب في أوجها ولا تنذر تطوراتها بنهاية وشيكة وجاءت الحرب الأخيرة التي نشبت بين حركة حماس وحركة فتح كتحقق أخر لهذه الثورة تأتي أسبابها ونتائجها في هذا السياق، فلقد استأثر التيار الثوري الفتحاوي عبر أربعة عقود بكل الإمكانيات الاقتصادية وأموال الدعم العربي المقدمة للشعب الفلسطيني والتي تقدر بعشرات المليارات كما استأثر منتسبو حركة فتح بالوظائف العامة، ويعلق المفكر الفلسطيني هشام شرابي على الحال الذي انتهت إليه حركة التحرر الثوري الفلسطينية قائلاً أن هذه الحركة حصلت على أموال وإمتيازات لم تحصل عليها أي حركة تحرر في العالم عبر التاريخ، ولقد استأثر أقطاب ورموز هذه الحركة بالأموال سواء لمصالح حزبية ضيقة أو لمصالح شخصية في أغلب الأحوال، وكانت النتيجة كارثة على الشعب الفلسطيني الذي وصل إلى الانهيار الاقتصادي الشامل والفقر والمجاعة والقهر والحرمان مع تمتع النخب الثورية بإمتيازات وتخصيصات مالية تفوق كل تصور. وارتدت الجماهير العربية الفلسطينية والتفت إلى جانب حركة حماس الإسلامية وأعطتها ثقتها وأصواتها الانتخابية في خطوة كانت مفاجئة للجميع وذلك كرد فعل جماهيري غاضب ضد النخب الثورية واستئثارها بالسلطة والمال الذي وصل حد التخمة، ولقد وصف المفكر هشام شرابي منظمة التحرير في أكثر من مناسبة بأنها أصبحت شركة لا تمت للنضال الجماهيري وطموحات الشعب بصلة، وربما تكون القطيعة بين الجماهير الفلسطينية والنخب الثورية نهائية وكاملة وغير قابلة للمراجعة الأمر الذي أدى وسيؤدي مستقبلاً إلى المزيد من الصراعات والتناقضات التي ستهز أركان المجتمع الفلسطيني.
إن مؤشرات الصراع السابق نجده واضحاً كل الوضوح في المجتمع المصري مع وجود فارق مهم هو الوعي النسبي الذي يمتاز به المجتمع المصري مقارنة بالمجتمعات العربية الأخرى، فالنهضة العربية بنسختيها الإسلامية والقومية إنطلقت من مصر، وربما يكون هذا العامل قد أدى إلى تأخر ظهور الصراع وأبعد شبح الحرب الأهلية في مصر. ولكن استئثار النخبة الثورية وحلفائها بالسلطة والأموال أجج هذا الصراع، ما أدى إلى انبثاق التيارات الإسلاموية بكافة أشكالها المتطرفة والمعتدلة في داخل الجماهير العربية كرد فعل طبيعي تجاه إقصائها وحرمانها من الكعكة التي قسمت في وقت مبكر وفي غفلة منها. ونتيحة لذلك، فقد شهدت مصر في هذه الحقبة تنامي وتصاعد نفوذ التيارات الإسلامية مدعومة من الجماهير ومتسلحة بالفكر الإسلامي المتجذر في نفوس الناس على المستويين الواعي واللاواعي.
لقد أدت الأخطاء الفادحة التي ترافقت مع المشروع القومي العلماني في العراق إلى تقويض هذا المشروع بفعل التحالف الداخلي المناهض لهذا المشروع مع القوى الخارجية التي تضررت مصالحها الاقتصادية والسياسية. وانتهى الأمر بالجماهير العربية في العراق للوقوع في قبضة التيارات الدينية الطائفية، وما نشاهده اليوم في العراق هو نظام ثيوقراطي مقنع بقناع ديموقراطي ليبرالي، لقد أدت الإفرازات الكارثية للمشروع النخبوي القومي العلماني في العراق إلى استعداء الكثير من القوى والطوائف التي وجدت نفسها محرومة من نصيبها من مغانم التحرر الوطني، ولم تجد هذه القوى حرجا من التعامل مع الشيطان لإجهاض هذا المشروع.
لقد أوحى تحليلنا السابق أننا نقف ضد المشروع الحداثوي، وهذا بالطبع شيء غير عقلاني، فإن كافة المفكرين الذين نقدوا المشروع الحداثي العربي لم يحاربوا الحداثة بالمطلق، بل أنهم حاربوا النسخة العربية من الحداثة والتي جاءت ممسوخة ومشوهة. لقد أقدمت النخب الحداثية على استيراد منتجات الحداثة الغربية فقط وذلك خدمة لأحكام قبضتها على المجتمع والدولة عن طريق هذه المؤسسات الحداثية، وبهذا المفهوم تصبح هذه الحداثة حداثة زائفة لا تأخذ إلا بالقشور ويصفها غليون في أكثر من مناسبة بالحداثة الحثالة، وهكذا جاءت النسخة المشوهة من الحداثة لكي تمنع الحداثة الحقيقية والتي لا تستطيع هذه النخب أن تواكب صيرورتها إذا ما امتدت لتصبح عملية تحديثية جماهيرية حقيقية كما حدث في الغرب، لقد تم التحايل على المشروع الحداثي العربي بتقديم نسخة مزيفة لهذه الحداثة كخطوة إستباقية لصد أي حداثة حقيقية.
ولقد تنبه أغلب المفكرين إلى خطورة القطيعة مع التراث والذي دعا إليه دعاة العلمانية والحداثية النخبوية، فنرى أن أغلب المشاريع النهضوية التي يطرحها المفكرون أصبحت ترتكز بالكامل على قراءة التراث وهذا واضح لدى الجابري وأركون حيث يحضر التراث بقوة ويصبح محوراً ومنطلقاً لأي مشروع نهضوي حتى الماركسيان تيزيني ومروة لم يستطيعا أن يتجاوزا التراث في سعيهما لبلوره مشروع نهضوي عربي.
وربما يبقى الوجه الأخر من القطيعة، وهو القطيعة بين النخب والجماهير، ضمن المسكوت عنه ولم يتكلم عنه مفكرونا إلا على استحياء كما نجد لدى الجابري، لأن هذا الموضوع يحيل بشكل مباشر وفاضح إلى الصراع الطبقي الذي يمور في المجتمعات العربية، والذي يحجم أغلب مفكرينا عن الخوض فيه نظراً لوجود حساسية عالية تجاه المفاهيم والمصطلحات الماركسية، ولوجود قناعة تامة لدى مفكرينا بأن الفكر الماركسي قد انتهى وتقوضت مفاهيمه ومصطلحاته وأصبح الحديث عنه شيئا من الماضي وربما الرجعية والنمطية. ولكننا لا نتوانى عن القول أن هناك مؤشرات للصراع الطبقي الذي ينخر المجتمع العربي، وهو صراع في أوضح صوره في البؤر المتفجرة كما في لبنان والعراق والجزائر وفلسطين، ونود التنويه أن سقوط المعسكر الاشتراكي لا يعني بتاتاً سقوط وتقويض المفاهيم والمقاربات الماركسية النافذة لحركة أي مجتمع.
الباحث الفلسفي والناقد الأدبي مجدي ممدوح