تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: أم سـعـد الـفـلـسـطـيـنـيـة فـي لبنان تتناسخ في غزة ل أ. د. عادل الأسطة

في متابعة أشرطة الفيديو التي تنشر – ويصور فيها مواقف المرأة الفلسطينية في غزة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ – ما يلفت النظر ويذكر بنساء فلسطينيات كتب الروائيون والروائيات عنهن، فصرن حاضرات أبدا في الذاكرة يسترجعهن المرء كلما شاهد شريطا تتحدث فيه امرأة غزية بعنفوان وشموخ وإباء وكبرياء وتحد وجرأة متناهية. وأنا هنا لا أزعم أن النسوة الغزيات كلهن مسطرة واحدة أو نموذج واحد، فهناك أمهات لم يقددن من صخر وحديد صلب؛ أمهات لهن قلب يرق ويذوب ألما وحسرة على من يفقدن من أزواج أو أبناء أو آباء أو إخوة أو أخوات أو أحفاد، فقد شاهدنا أشرطة فيديو كثيرة تبكي فيها المرأة من فقدت، ووالدة الطفل يوسف «أبو شعر كيرلي أشقر» وكتابات د. آلاء القطراوي التي فقدت أطفالها الأربعة، شاهدة ودليل على ذلك. إنها تقطر ألما وحزنا.

في ٢٣/ ٤/ ٢٠٢٤ أدرجت على صفحتي شريط فيديو لامرأة من بيت حانون، شمال قطاع غزة، تعبر فيه عن موقفها مما يجري وتسرد لنا حوارا بينها وبين ضابط إسرائيلي قال لها، إن أبناءها وأنسباءها كلهم مخربون، فردت عليه تشير بإصبعها إلى الخراب الشامل الذي أحدثه جيشه في غزة:

  • إيش بتقول. أبنائي وأنسبائي كلهم مخربون، وهذا الخراب والدمار إيش بتسميه.
    وعندما سألها:
  • لماذا فعلتم ما فعلتم في ٧ أكتوبر ورميتم دولة إسرائيل بالطوب وبيتكم من زجاج.
    أجابته إجابة شجاعة جدا:
  • إنكم رجمتمونا عشرات المرات بالقذائف والطائرات والصواريخ، أفلا يحق لنا أن نرجمكم مرة واحدة بالطوب؟!
    لم تجبن المرأة ولم تصمت، ويبدو أنه قدر شجاعتها فطلب من جنوده أن يحضروا لها الماء لتشرب.
    رفضت المرأة فهي صائمة، وكان رمضان انتهى، وعندما استغرب أعلمته أنها تصوم الستة البيض، وشتمت رئيس الوزراء الإسرائيلي وعبرت عن تحديها وإصرارها على العودة إلى بيتها في بيت حانون.
    والصحيح أنني شاهدت شريط الفيديو أكثر من مرة، معجبا بجرأتها وشجاعتها ورخامة صوتها، وملاحظا تعابير وجهها وشموخها وثقتها الكبيرة بنفسها. لقد ذكرتني بالنسوة اللاتي كتب عنهن الروائيون والروائيات ابتداء من غسان كنفاني في روايته «أم سعد» مرورا بوليد الهودلي في روايته «فرحة» وليس انتهاء برواية وداد البرغوثي «البيوت»، وقد كتبت عنهن مقالا موسعا نشرته في مجلة الدراسات الفلسطينية تحت عنوان «من أم سعد إلى أم عسكر: من المرأة المكافحة إلى المرأة المقاومة».
    كما ذكرتني المرأة ببعض قصص كتبتها استوحيتها من تجارب مررت بها في شبابي، وجعلتني أوازن بين ما كنت عليه شابا وما صرت إليه منذ عقود، ووجدتني أكرر المقولة:
    «لا تثق بمن هو فوق الثلاثين».
    تذكرت قصة «عند الحاجز» من مجموعتي «فصول في توقيع الاتفاقية» (١٩٧٩)، وقصتي «ثلاثة أيام حزيرانية في حياة يوسف. م» (١٩٨٦)، ونصي «خربشات ضمير المخاطب» (١٩٩٧).
    في العام ١٩٧٩، كنت مدرسا في مدرسة العقربانية الإعدادية، وكان علي أن أركب باص أريحا للوصول إليها، وغالبا ما كان هناك حاجز قرب معسكر الباذان يوقفنا جنوده يسألون عن هوياتنا، وقد يكون بين الجنود جندي نزق كاره لنا يريد إذلالنا. حدث مرة أن طلب جندي، مثل هذا، أن ننتظم في صف مستقيم تماما، ويبدو أنه لاحظ خروجي عن الصف فجاء يصرخ وأراد اعتقالي، كما لو أنني أملك سلاحا حادا، علما بأنني كنت أقرأ في كتاب. هل أردت يومها، بعدم الانصياع له، تحديه؟
    هذه الحادثة كانت محور قصة «عند الحاجز» المذكورة.
    في العام ١٩٨٦، كتبت قصة «ثلاثة أيام حزيرانية في حياة يوسف. م»، وقد استوحيتها من قصة اعتقالي طفلا، قبل العام ١٩٦٧. في حينه كان علي أن أزود بيتنا بالماء من عين المخيم، وكنا ننتظر ساعات طويلة حتى يأتي دورنا ونعبئ تنكات الماء قبل أن يغلق أبو عوض جربي – المسؤول عن فتح الخزانات وإغلاقها – الماء. عندما جاء دوري، حضرت الممرضة زكية ومعها إبريقا فخار، ووضعتهما فورا تحت العين غير مراعية الدور، فما كان مني إلا أن بصقت فيهما، ليجن جنونها وتذهب إلى مخفر الشرطة المجاور وتشكوني وتحضر معها الشرطي ليعتقلني. يومها ضربني بالقشط وطلب مني أن أنظف مخفر الشرطة، ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي ضربني فيها شرطي أو اعتقلني.
    في أثناء حرب حزيران ١٩٨٢، كنت في عمان، لكي أناقش رسالة الماجستير، واتفق أن كانت أمي هناك وأرادت أن أغير لها موعد حجزها لتعود إلى الضفة، وكان مركز الحجز في جبل الحسين. ولما لم أحضر ورقة الحجز السابق معي اقترحت على المسؤول أن يحجز جواز سفري لديه حتى أحضرها في الغد، فرفض، ما جعلني «أنرفز» وأشتم وأتهم، ولم تمر الأمور.
    هاجمني الشرطي فدافعت عن نفسي وأمسكت بقميصه ففلت منه زر، وهنا شاط غضبا ونادى على زملائه الذين لم يقصروا وقرروا أن يقدموني إلى المحاكمة بحجة شتم الملك، ولم أكن شتمته. التهمة جاهزة.

هل أنا اليوم ذلك الذي كان؟
منذ عقود، صرت مثل سعيد متشائل إميل حبيبي. صرت أواجه القهر والظلم والتمادي بالصمت والتغابي والتهكم و … وشتان بين موقفي وموقف تلك المرأة الفلسطينية الجريئة الواثقة من نفسها العائدة إلى بيت حانون.

أ. د. عادل الأسطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *