في صفحة محمد العطار من جباليا نقرأ في العشرة الأخيرة من شهر أكتوبر ٢٠٢٤ ، عن ارتقاء أخيه الشاب الممرض مصطفى المتزوج وله ثلاثة أطفال ، ونقرأ عن إصابة أخيه الثاني أحمد ، وأيضا عن الطفل الناجي .
حين طلب جيش الاحتلال ، في جباليا شمال قطاع غزة ، إخلاء من بداخل مستشفى كمال عدوان ، تحركت سيارات الإسعاف من المستشفى وهي تنقل أما وضعت مولودها قبل ساعتين من الإخلاء ومعها مرافقة أخرى . بعد خمسين مترا من تحرك سيارة الإسعاف استهدفها الجيش الإسرائيلي ، بشكل مباشر ، ليرتقي جميع من كانوا بداخلها .
لم تنته المعاناة ، فبعد مرور ٢٤ ساعة مرت فرق الإنقاذ الدولية بمكان الاستهداف ، فسمع أفرادها صوت بكاء بين الجثث المتفحمة التي تأكلها الكلاب داخل السيارة . كان الصوت صوت الوليد الجديد ؛ طفل الشهيدة ” رغدة البسيوني ” وعناية الله به أنه لم يخدش ولم تقترب منه الكلاب ” وهو بصحة جيدة ، لكنه أضحى يتيما وعمره يوم .
في الفترة نفسها قرأنا على صفحات الناشطين من شمال قطاع غزة عما فعله الجيش الإسرائيلي أيضا بأهالي مخيم جباليا حتى يجبروهم على المغادرة . حفر الجيش حفرتين وضع النساء في واحدة والأطفال في ثانية وترك دباباته تثير الغبار حولهما ، ثم صار يخرج النساء ويأمرهن بالتقاط أي طفل والمضي به حتى لو لم يكن الطفل طفلها . وماذا لو لم يلتق الطفل فيما بعد بأمه الحقيقية ؟ وماذا لو ربته المرأة التي التقطته ؟!
أعرف في المخيم الذي نشأت فيه حكايات مشابهة إلى حد ما . عرفت رمزي منذ ستة عقود ولم أعرف أن أباه ارتقى في اللد في العام ١٩٤٨ ، ولم أسأل لماذا يكنى عمه الذي رباه ب ” أبو هشام ” ، لا ب ” أبو رمزي ” ، فرمزي أكبر من هشام ، وقبل سنة عرفت القصة . ارتقى والد رمزي فاقترن أخوه بزوجته وربى ابن أخيه / ابنها . كم قصة تشبه هذه ستشهد غزة في قادم الأيام ؟!
قبل الحادثة المذكورة في أول المقال حدثت قصص كثيرة مشابهة لأطفال نجوا واستشهدت عائلاتهم ومنها قصة الأختين تولين وتوجان . قصت تولين حكايتها ، وأختها صامتة حزينة إلى جانبها ، بأسلوب بسيط واضح دون أن تتعثر ، على الرغم من فظاعة ما ألم بهما .
كانت تولين عندما قصف بيتهم تتناول وجبة الفاصوليا والرز إلى جانب أختها ، فيم بقية الأسرة تتناول طعامها في مكان قريب . عندما طلبت منها أختها الشراب ذهبت لإحضار كأس لها وثان لأختها ، وفجأة تم القصف ، ولما كانت قريبة من الشباك فقد أخذت تنادي وتم إنقاذها وأختها ، وستعرف لاحقا أن أمها واباها وأخاها مازن وأختها تايلا قد ارتقوا . تقيم الأختان الآن في بيت جدتهما . عندما استبد بي الفضول لمعرفة أسرتهما بحثت في الفيس بوك وعثرت على صفحة الأم ؛ صفحة ( أم مازن ) ولكن المعلومات لم تسعفني .
في السنوات الأخيرة قرأت ثلاثية إلياس خوري ” أولاد الغيتو : اسمي آدم ونجمة البحر ورجل يشبهني ” وأنجزت حولها كتابا وعشرات المقالات وربطتها بنصوص روائية أسبق منها . وقرأت أيضا رواية أكرم مسلم ” بنت من شاتيلا ” والتفت فيهما إلى الطفل الناجي ، وكتبت مقالين في الموضوع استعرضت فيهما الظاهرة في أعمال أدبية فلسطينية سابقة ، وفي مقالي عن أولاد الغيتو ذهبت إلى أبعد من الرواية الفلسطينية ، متتبعا الفكرة في الأدب العالمي والرواية العربية أيضا .( أنظر : الطفل اللقيط وسؤال الهوية في الرواية العربية ، الأيام ٢٥ / ٩ / ٢٠١٦ و أكرم مسلم ” بنت من شاتيلا ” ، الأيام ٤ / ٨ / ٢٠١٩ ) .
تناص إلياس خوري بوعي كامل مع رواية غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا ” ( ١٩٦٩ ) لدرجة أن آدم المؤلف الضمني لأولاد الغيتو وصف لنا مشاعره حين قرأ الرواية قائلا :
” الشعور بالحزن الذي ضربني حين قرأت رواية غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا ” .. ولوهلة اعتقدت أن الروائي الفلسطيني يتكلم عني … ” .
مات آدم وربته منال ولم يكن يعرف شيئا عن أبيه البيولوجي .
هل نعثر في روايات عربية وفلسطينية أخرى على أطفال فلسطينيين نجوا أو سرقوا وربوا ممن تبناهم ؟
هنا أشير إلى رواية رضوى عاشور ” الطنطورية ” ورواية سوزان أبو الهوى ” بينما ينام العالم أو صباحات جنين ” .
تأتي رضوى في روايتها على مذبحة شاتيلا وصبرا وتحكي عن الطفلة التي تبناها الطبيب الفلسطيني أمين كما لو أنها ابنته ( ينظر الفصل ٢١ ” هدية أمين ” ص ١٧٧ ) ، أما سوزان أبو الهوى فتكنب عن نكبة ١٩٤٨ وسرقة جندي إسرائيلي عقيم لا ينجب طفلا من أمه ويربيه ليغدو مثل خلدون في رواية غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا ” .
النكبة تتكرر فصولها وتتكرر أحداثها وتتشابه قصصها ونحن نقرأ ما نعتقده في الروايات معادا مكرورا ، لا لأن الروائيين والروائيات يتناصون مع روايات سابقة وحسب ، وإنما لأن تجاربنا وحكاياتنا في الواقع تتكرر أيضا .
النكبة مستمرة ورحم الله الروائي إلياس خوري صاحب كتاب ” النكبة المستمرة ” .
أ. د. عادل الاسطة