في نهاية سبعينيات القرن العشرين أخذت أنشر في جريدة الفجر رسائل تحت عنوان ” رسائل من المخيم ” ، ولما كنت موظفا في وكالة غوث اللاجئين فقد نشرتها باسم مستعار تارة باسم عادل الراوي وطورا باسم أحمد الزعتر .
في واحدة من هذه الرسائل التي كتبت تحت التأثر برواية إميل حبيبي ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل “( ١٩٧٤ ) كتبت عن الطفولة وضمنت الكتابة مقاطع شعرية لمحمود درويش ” ملوثة يا كؤوس الطفولة ” و” نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبيا ” وعندما درست ” جداريته ، التفت إلى كتابته عن الطفولة فيها وكتبت مقالا من أحد عشر مقالا عنوانه ” الطفولة : لم أكن ولدا سعيدا ” تتبعت فيه طفولة الشاعر في أشعاره .
شيء من طفولتي الشخصية أوردته في كتابي ” حزيران الذي لا ينتهي : شظايا سيرة ” ( ٢٠١٦ ) ، وقد صدر عن الرقمية للنشر .
في الحرب الدائرة على غزة قتل ويتم وتشرد عشرات آلاف الأطفال الفلسطينيين ، وعاش الأطفال كلهم أهوالا تشبه أهوال يوم القيامة التي قرأنا عنها في النص القرآني ، وما سبق دفع ببعض الناشطين إلى الترفيه عن الأطفال الأحياء والتخفيف من مآسيهم والأخذ بيدهم ، من خلال الأغاني وعرض الأفلام السينمائية و … و … .
والظاهرة اللافتة في الحرب هي تحول قسم كبير من الأطفال إلى باعة في الشوارع ، فلا مدارس ولا رياض أطفال ولا دورات تدريبية ولا بيتا واسعا ولا نوادي ولا … لقد انعدمت الحياة وصار الشغل الشاغل للناس هو أن يبقوا على قيد الحياة يوفرون الرغيف الذي عز والطعام الذي شح وندر .
هكذا هام أطفال في البراري يحتطبون أو يبحثون عن نبتة ما ، ووقف آخرون في الشوارع ينادون على بضاعة لا تسمن ولا تغني من جوع ، وذهب آخرون إلى شاطيء البحر يسبحون ويلهون بالرمل .
كل ما سبق أعادني من جديد إلى نصوص أدبية فلسطينية وإلى مظهر من مظاهر الحياة في المخيمات الفلسطينية في بداية ستينيات القرن العشرين .
ولأن المشاهد التي تستحضر شبيهتها كثيرة ، و” لأن الشجا يبعث الشجا ” ولأن غزة كلها انطبق عليها قول الشاعر متمم بن نويرة الذي وقف على قبر أخيه مالك يذرف الدموع السوافك فقال ” فهذا كله قبر مالك ” ، فإنني سوف أتوقف أمام مشهدين اثنين :
أولهما مشهد الطفل الذي وقف في العراء وقد عرض على تنكة فارغة بعض ظروف شيبس ينادي عليها : الشيبس الشيبس ياللا الشيبس .
وثانيهما هو الأطفال في الخيمة جلوسا على الأرض يشاهدون فيلما سينمائيا .
أعادني مشهد الطفل ، ومثل الطفل عشرات ، إلى قصة غسان كنفاني ” كعك على الرصيف ” التي كتبها في الكويت ، في العام ١٩٥٩ ، يسترجع فيها قصة معلم في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين في دمشق مع أحد طلابه .
حميد طفل فلسطيني ماتت أمه وفقد أخاه الكبير في حادث مصعد ، فجن الأب وكان على حميد طالب المدرسة أن يمسح الأحذية وأن يبيع الكعك على الرصيف ، لكي يرعى أباه وأختيه ، ثم يذهب إلى المدرسة ، وفيها ينام ، لأنه في الليالي يظل ينتظر رواد السينما حتى يخرجوا منها فيشتروا منه الكعك .
يهتم المعلم الذي كانت نكبة ١٩٤٨ أجبرته ، ذات يوم ، على مسح الأحذية أيضا ليعيش ، يهتم بأمر حميد الذي كان أحيانا يكذب ليخفي حقيقة وضعه على معلمه ، ومع ذلك ظل المعلم يشعر مع حميد :
” لقد استطاعت صورته أن تحفر نفسها في عظم رأسي قبل عام واحد ، حينما رأيته في تلك الزاوية بالذات – كنت احتل هذه الزاوية قبل عشر سنوات ، حينما كانت المحنة على أشدها ، وكانت طريقتي في مسح الأحذية تشبه طريقته إلى حد بعيد ، كان الحذاء بالنسبة لي هو كل الكون : رأسه وكعبه قطبان باردان ، وبين هذين القطبين كانت تتلخص دنياي ” .
وأما المشهد الثاني فقد أعادني إلى حياتنا في مخيم عسكر في ستينيات القرن ٢٠ وبداية سبعينياته .
افتقدت المخيمات في تلك الفترة ، وما زالت ، إلى دور السينما ، ولم تكن التلفزيونات دخلت البيوت . كان أبناء المخيم القادرين إن أرادوا الذهاب إلى السينما يصعدون الحافلة إلى مدينة نابلس ويدخلون إلى دور السينما ويشاهدون الأفلام ، وغالبا ما تم ذلك في الأعياد ، وغالبا ما تيسر للرجال دون النساء وللشباب دون الشابات ، وأرجح أن أكثر أهل المخيم لم يذهبوا إلى السينما ، وإن شاهدوا أفلاما فهي تلك التي يتم عرضها في المخيم .
كانت وكالة غوث اللاجئين تتيح للناس هذه الفرصة مرة في كل عام أو في كل عامين . يتم الإعلان عن ذلك وتعميمه ، فيجتمع أهل المخيم أكثرهم ، عندما يحل الظلام ، في الساحة العامة في وسط المخيم قرب مركز التغذية ، ويبدأ العرض على الجدار ، وأذكر أن من الأفلام التي تم عرضها فيلم فريد شوقي ” صراع في الوادي ” وكان تغلب البطل في صراعه مع عدوه وأظنه محمود المليجي يدغدغ عواطفهم ومشاعرهم ، وقد يرون فيه انتصار الرئيس المصري جمال عبد الناصر على عدوهم الذي طردهم من بلادهم .
وفي نهاية ستينيات القرن العشرين لم يكن أكثر أهل المخيم قادرين على إدخال أجهزة التلفزيونات إلى بيوتهم ، وكان أحد القادرين يستأجر مخزنا ويضع فيه عشرات الكراسي ويمكن الأطفال والشباب ، مقابل مبلغ مادي ، من مشاهدة بعض المسلسلات والأفلام .
هل جانب محمود درويش الحقيقة حين قال ” ملوثة يا كؤوس الطفولة ” ؟ والطفولة في الحرب الدائرة حاليا انتهكت تماما ، فقد ذهب البؤس بكل ملامحهم ، والقول لمظفر النواب في أطفال تل الزعتر في ١٩٧٦ .
أ. د. عادل الأسطة