تركت المخيم، إلى بيتنا الجديد في حي المساكن الشعبية، في العام ١٩٧٨، وتحديداً في اليوم الأخير من شباط، إذ أحتفل، ولو وحيداً، كل بداية آذار بالمناسبة بالجلوس على شرفة شقتي أحتسي القهوة.
صباح ٩/ ٥/ ٢٠٢٤ قرأت في صفحة الشاعر راسم المدهون تحية الصباح، وكنت في ٨/ ٥ أمعنت النظر في صورة أدرجها مروان دراج ضمته وأسرة أخيه الناقد فيصل وقرأت أنهما استعادا معاً ذكرياتهما في مخيم اليرموك.
ولأن راسم المدهون ما زال يقيم هناك، في درعا الآن، فقد استعنت بالذاكرة التي تبدو لي الآن خداعة.
في العام ١٩٧٥ زرت دمشق ومكثت في بيت خالتي أم محمد الطيان في حي ركن الدين/ الأكراد، ونمت ليلة واحدة في بيت عمي محمود الأسطة، وكان شقة صغيرة جداً في بناية تقع قرب حارة اليهود.
ولما كان لي أقارب يقيمون في مخيم اليرموك – أرجح – فقد اصطحبني أبناء عمي لزيارتهم.
كل ما ذكر عن صلة القرابة لم يذكر لأنه هو المتن، فهو هامش والمتن هو البيت.
كان بيت خالتي أم محمد بيتاً بسيطاً مثل البيوت في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وكان البيت الذي زرته في المخيم لا يختلف عن بيتنا في مخيم عسكر القديم، ولم تكن بيوت مخيم الوحدات ومخيم الحسين وبيوت جباليا والفارعة وبلاطة والفوار وعسكر الجديد وعين بيت الماء التي زرتها في تلك الفترة – أي ٧٠ و ٨٠ القرن ٢٠ – تختلف، فقد أصبحت منذ بداية ٩٠ القرن ٢٠ مختلفة تماماً.
ما اختلفت، في تلك الفترة، هي بيوت مخيم شنلر ومخيم البقعة، فقد أقيمت بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ وليس بعد نكبة ١٩٤٨.
كانت بيوت شنلر والبقعة من الصفيح/ الزينكو والإسبست، ولم تكن من الباطون، وقد زرت شنلر مرة واحدة في العام ١٩٧٣، وزرت البقعة في العام ١٩٧٦ مرات ونمت في غرفة زينكو.
أنا من مواليد ١٩٥٤، وغرف الباطون في مخيمات اللجوء أقيمت في العام ١٩٥٨ – يعني بعد أربع سنوات من ولادتي، ما يعني أن الخيمة كانت جزءا من بيتنا. هل هناك في الذاكرة شبح خيمة أقمت فيها؟
أحاول أن أضع مخططاً لبيتنا في المخيم حتى تاريخ مغادرته، فلم أعد بعد تركه أحن إليه مطلقاً، وربما أكون مررت بالقرب منه بضع مرات لم أشعر أبداً بالحنين إليه.
كانت الساحات في تلك المخيمات واسعة مكنت أبناءها من إقامة ملاعب كرة طائرة وأحياناً كانت ملاعب كرة قدم صغيرة لفريقين يتكون كل واحد منهما من ثلاثة أربعة لاعبين، وكانت الارتدادات بين كل حارة وحارة لا تقل عن عشرة أمتار تمكن السيارات قليلة العدد من المرور بها.
غالباً ما كانت كل مجموعة بيوت متلاصقة لا ارتداد بينها، ولكي يتم الفصل بين بيت وبيت وضعت ألواح من الزينكو أو أسلاك شائكة أو غير شائكة زرع حولها بعض النباتات المتسلقة، وقليلون هم من بنوا جداراً من طوب.
لم تكن مساحة بيتنا لتزيد، في أحسن الأحوال، على مائة متر، وقد تكون، كما أتذكر، من غرفة باطون الوكالة التي لم تزد مساحتها على ٣ م × ٣ م وارتفاعها على ٢٢٠ سم ولها باب وشباك أو شباكان من ألواح خشب تثبت معاً بمستطيل خشب يصل زاوية يمينها بزاوية يسارها وتتخلله فراغات يتسلل منها الهواء، وحول الغرفة هذه التي خلت إلى حين من مطبخ ومنافع، فقد كان في المخيم حمام عام ومراحيض عامة ومطعم أيضاً. كانت هذه الغرفة غرفة نوم ومطبخاً وحمام اغتسال أيضاً.
في المساحة المتبقية بنى أبي جدران غرفة ثانية لم يسقفها بالباطون، وغطاها بشادر أظنه شادر الخيمة، وكنت وإخوتي ننام فيها، حتى سقفها أبي بالباطون ومد أرضيتها بالأسمنت والناعمة واتخذ منها غرفة له وانتقلنا نحن، وكنا ستة سبعة ثمانية تسعة، إلى غرفة الوكالة.
بين غرفة الوكالة والغرفة المقامة حديثاً كانت هناك مساحة لا تقل مساحتها عن ٤ م × ٦ م وقد غطاها أبي في الشادر نفسه الذي انتزعه، وإلى جانب غرفته الجديدة أقام مطبخاً من الزينكو وإلى جانبة مرحاض يضخ في حفرة.
في سبعينيات القرن ٢٠ كتب قاص من غزة، وأظنه صبحي حمدان، قصة قصيرة عنوانها «غرفة جديدة للعريس» أتى فيها على تناقص المساحات في البيوت وازدياد البناء/ الباطون، وفي روايته «الشوك والقرنفل» ٢٠٠٤ توسع يحيى السنوار بهذا الجانب.
الآن هدمت البيوت وعاد أهل قطاع غزة إلى سيرتهم الأولى.
ترى ما هو شكل بيتنا الآن في المخيم؟
لا بد من الوقوف على الأطلال.
أ. د. عادل الأسطة