أغلب النقاد كانوا يعتبرون رواية (دون كيشوت) Don Quixote لمؤلفها الفذ (سيرفانتس) M. de Cervantes عملاً كوميدياً يثير الرغبة في الضحك والهزأ على ذلك الرجل الذي أغلق نفسه في قسم كبير من حياته على قرأه قصص وبطولات النبلاء والأبطال السالفين .. ثم خرج منها ليتم تعميده على التقليد القديم بوسم السيف وقدم نصف راكعة .. ثم ينطلق ليقاتل الأشجار العملاقة ويبارز طواحين الهواء على فرس هزيل وتابع ساذج يرى في سيده أسطورة حية .. وكيف أنه يحفز على السخرية عندما يعود في كل مرة من معاركه الوهمية مكسور الرمح ، مسخن بالجراح .. ورغم ذلك ينتشي نشوة البطل المنتصر ..
والحقيقة ، أن كل ما فعله (سيرفانتس) في روايته (دون كيشوت) أنه أخرج ما يحدث في داخل كل واحد منا إلى الخارج في تصوير أدبي بديع ومعبر .. فمن منا لم يحلم أو يغضب ، أو يحب أو يكره .. ومن منا لم يفرح أو يحزن .. أو يأمل أو يحبط .. أو يبكي أو يضحك .. من منا لم يتعلق بالدنيا وأستار الحياة الزائلة لتمثل كل تلك المتناقضات في داخله أشجار (دون كيشوت) وطواحينه .. إن في داخل الإنسان عالم أكبر من عالم الحقيقة والشهود .. عالم لا يرى فيه الإنسان الأشياء بعينيه فحسب ، بل يضيف على تلك الشهادة وجدان وانفعال وقبول ورفض .. من منا من لم يسعى حتى انقطاع الأنفاس بين قمة النفس اللوامة صعوداً ، ووادي النفس الأمارة بالسوء هبوطاً وانحداراً .. لقد حكم في بلاد الإغريق على (سيزيف) أن يحمل صخرة كبيرة على كاهله ويصعد بها إلى قمة الجبل الشاهق .. فإذا بلغها أسقطت الصخرة إلى الأسفل لينزل ويحملها مرة أخرى ويصعد بها من جديد طوال الحياة .. ألم يعلمنا رسول الله صل الله عليه وسلم أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس ..
لقد قال الله تعالى (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) ، وقال العلماء في دلالتها أن الذبابة إذا سلبت شيئاً من الإنسان فإنها تجري عليه فوراً تفاعلاً كيميائياً فتتغير ماهيته تماماً ولا يعود كما هو في الأصل ، فلا يمكن بذلك للإنسان أن يسترده منه مرة أخرى .. كذلك الإنسان نفسه عندما يدرك شيئاً من الواقع والحياة لا يأخذه كما هو بذاته ، ولا يتركه داخل عقله على حالته وهيئته .. وإنما يسكب عليه من تفاعلاته وانفعالاته وعواطفه ومواجيده .. فقد يراه حسنا أو يراه قبيحاً ، وقد يراه محبباً أو يراه بغيضاً .. وقديماً قيل (لولا اختلاف الناس في أذواقهم لبارت السلع) ..
وتبعا لدون كيشوت فلقد ظهر الفكر (الوجودي) لدى (كيركيجارد) S. Kerkegard النرويجي ، و(سارتر) J. P. Sartre الفرنسي يدعو كل فرد إلى الانكفاء نحو الداخل فيرى عالمه الفريد اللامتناهي والذي لا يشاركه فيه أحد لا بالتشابه ولا بالتطابق .. فكل إنسان هو كحبة الزمن في نهر جاري تأتي مرة في عمر الكون ثم تمر .. ثم يأتي غيرها وغيرها .. ولكنها لا تعود أبداً إذا مضت .. كما قال أيضاً الوجودي الألماني (هايدجر) M. Heidgger أن كل فرد من الإنسان هو مشروع لم يكتمل مادام حياً ، وأنه يظل يتمدد داخل نفسه إلى أن تأتي ساعة الموت .. عندها يكتمل هذا المشروع . وكما أن لكل إنسان ساعة موته الخاصة وقبر لا يشاركه فيه أحد .. فكذلك كل إنسان في مشروعه لا يماثل الآخرين .. وفي القرآن الكريم نقرأ (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) .. هكذا رسمت رواية (دون كيشوت) الإنسان والحقيقة في مأساة بالغة لمن يفقه رمزها ويقرأ ما وراء السطور ، وليس لمن يقرأها ثم يضحك من قلبه .. ثم يغلق الكتاب ناسياً أو متناسياً أن تلك الطواحين التي بين دفتي الكتاب إنما هي في داخل نفسه .. فهل يكون على نفسه بعد ذلك بصيراً ، أم على نفسه يضحك .. لم تكن (دون كيشوت) أبداً رواية هزلية ساخرة لرجل سعى إلى أمجاد الأبطال في زمان غير زمانها .. فلنتعلم من (دون كيشوت) إذن أن الأمجاد والبطولات إن لم تأتي .. سعينا نحن إليها .
د. وائل أحمد خليل الكردي