البعد الرابع
عربات قطار مكشوفة تسير إلى الخلف بسرعة الضوء…على الرصيف أجهزة تحكم عن بعد… لا لا؛ كيف صدقتم؟ الحقيقة أن القطار لم ينطلق إلى …أقلتُ إلى الأمام؟! وعرباته معتمة موصدة!
المشكل الوحيد الذي يؤرق الطفل وهو يحرك لعبة العيد ” كيف أجعل هذا القطار اللعين ينطلق خارج مساره الدائري؟.
يرمي بكل الأجهزة، لكن القطار يدور ويدور… لأجل هذا، فلن يلبس ثياب العيد، لن يخرج ليلعب مع أبناء الجيران، لن يأخذ من الأهل عيديته، ولن ولن…
بين الركام كان ينام عند قبر أمه؛ بيده لفافة من ورق ملون عليها بقايا فتات، وصورة قطار يدور ولا يتوقف عن الدوران.
رجاء بقالي / المغرب في ١١ سبتمبر ٢٠٢٤
القراءة
بعيدًا عن رسالة النص الاجتماعية الفلسفية الإنسانية، وبراعة طرحها السردي، سأتوقف كناقدٍ عند تقنيات النص لما رأيت فيها من تفرد ومغايرة، بل وكسر مباغت لمفاهيم سردية رسخت واستحكمت فينا كأدباء ردحًا من الزمن!
أول ما يلفت نظري في هذا النص هو السارد، والسارد هنا يتضح لنا من الوهلة الأولى ( كيف صدقتم؟ / أقلت إلى الأمام؟!) ضمير المخاطب، في تزكية متعمدة لتصنيف النص كنص حداثي ينتمي للمدرسة السردية الحداثية ( إشراك المتلقي في صناعة النص، أو جرّه قهرًا ليكون جزءًا من السردية).
ثم ماذا بعد ؟…تباغتنا الكاتبة بتحول السارد من المخاطب إلى الراوي العليم حيث تقول (المشكل الوحيد الذي يؤرق الطفل وهو يحرك لعبة العيد ” كيف أجعل هذا القطار اللعين ينطلق خارج مساره الدائري؟.)، فكلمة ( يؤرق ) حالة نفسية شعورية داخلية تخص الطفل، والسارد المخاطب ليس من سلطاته معرفة البواطن، وللمرة الثانية أقول ..ثم ماذا بعد؟ وأضيف متسائلًا : هل اكتفت القاصة بهكذا ساردين( المخاطب والعليم)؟ والإجابة الشافية نجدها جلية فيما يلي (بين الركام كان ينام عند قبر أمه؛ بيده لفافة من ورق ملون عليها بقايا فتات، وصورة قطار يدور ولا يتوقف عن الدوران.) إذ ينبري – ها هنا – السارد المحايد ( عين الكاميرا) معلنًا عن نفسه ” هأنا ذا “!
ثلاثة سوارد تناوبوا البناء السردي لنص لم تتجاوز كلماته عدة سطور طولية، دون أن يلحظ القارئ خللًا أو حتى هنة عوار تستوقفه أو تعيق انسجامه الكلي مع المتن والجزئي مع مشاهده!، ويعد ذلك مهارة فائقة تحسب للقاصة وتضيف لرصيدها الأدبي نجوما.
وللمرة الرابعة أجد نفسي أسأل ” هل اكتفت الكاتبة؟”
لعمري لم تكتفِ، بل وقدمت لنا ما هو أروع وأدهش، وهو ما اعتبره كسرًا لمفاهيم سردية نعدها ثوابت لا يأتيها الباطل من تحتها أو فوقها!
أين إذًا نجد هذا الكسر؟
كلنا يعلم أن الراوي العليم يعلم كل شاردة وواردة، ما ظهر منها وما بطن، والسارد المخاطب يقع في المنطقة الرمادية الفاصلة بين العليم( الذي يعلم كل شيء) والمحايد( الذي يرى كل شيء)، فماذا إذًا عن ( لا لا..كيف صدقتم؟ الحقيقة أن القطار لم ينطلق إلى …أقلتُ إلى الأمام؟! وعرباته معتمة موصدة!)/(عربات قطار مكشوفة تسير إلى الخلف)..أليس في هذا ارتباكًا أو حالة ذهنية مترددة؟…والسؤال الملح هنا هو : إلى من ينسب هذا الأرتباك والتردد الظاهر؟…إذ لا يجوز نسبته للراوي العليم ولا للسارد المحايد، ونسبته لضمير المخاطب محل شك، ما لم يكن بنية النص كله تتبعه سردًا، وهو ما لم يحدث في هذا النص!! …إذًا من هو؟
للإجابة على هذا السؤال، أجد نفسي مضطرًا للدخول في البنية الهندسية للنص، لأجد قاعدتها الأساسية شيدت على مقارنة واضحة بين قبول ورفض؛ قبول الواقع بما فيه ( التطور العلمي المادي البحت / سرعة الضوء/ حروب وأسلحة دمار شامل)، ورفض الواقع من قبل الطفولة البريئة الفطرية ( عدم القدرة على التحكم/ اللاءات المتكررة ” لن، ولن، ولن..”/ بقايا فتات/ صورة لقطار)….هنا أقولها بملء فمي وكلي ثقة؛ أن الذي نبحث عنه هو ” القاصة نفسها” وما الارتباك والتردد البادي في المتن، إلا انعكاسًا للحالة المترددة التي نعيشها نحن- الكبار- مع واقعنا، الذي لا ندري إلى أين يقودنا.
هل أقحمت الكاتبة صوتها في المتن ؟ لا وألف لا، بل نزفت مشاعرها المتضاربة – كشأننا نحن جميعًا- لتوثق تقنية التقابل السردي، كما كان ينتهج دائمًا رائد القصة القصيرة انطون تشيخوف في جل أعماله القصصية ( الخطين المتوازيين)، ولكن إبداع رجاء بقالي تمثل إيجاءً في شعورين متضادين.
محمد البنا / القاهرة في ١١ سبتمبر ٢٠٢٤
****
ملحوظة : تنقل القاصة من سارد إلى آخر له حيثياته الحاكمة بما يتماهي مع الحالة النفسية لكل مشهد من المشاهد الثلاثة للقصة، والإبحار النقدي فيها له مقامٌ آخر.
الأديب محمد البنا