مراوغة القص الموجز في التمثل الشعري من مهيمنات سردية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينزع البعض من كتاب القصة القصيرة جدا الى التمثلات الشعرية في نسيج قصصهم القصيرة جدا حتى قيل ان هذه هي قصائد نثر او شذرات أو أخبار شعرية وبقت منطقة الاشتباك غامضة دون تقديم ما يوضح سبب هذا النزوع على المستوى المفرداتي الذي يعول عليه كتابها بعلم او دون علم في تفسير تقبل الماهية السردية لمتحولات المفردة فتتلبس بالماهية الشعرية او تمانعها
شرعت في هذا الموجز المكثف في تفسير ذلك
دليل البعد الشعري الذاتي في المفردة خارج السياق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لفهم الطاقة الشعرية الكامنة في المفردة نفسها بعيدًا عن السياقات الخارجية، يمكن الاستدلال على ذلك من خلال خصائص داخلية للمفردة تجعلها قادرة على استيعاب البُعد الشعري، حتى قبل دخولها في تركيب أو سياق شعري. هنا بعض الأدلة التي قد توضح وتدعم الفكرة:
الأصل اللغوي (الإيتيمولوجيا): العديد من المفردات تحتوي على جذور لغوية تعود إلى معانٍ أعمق، مما يعني أنها تحمل طبقات من الدلالات عبر الزمن. هذه الدلالات التاريخية أو العميقة تمنح المفردة طاقة دلالية إضافية تجعلها قابلة للاستخدام في سياقات شعرية، حتى لو كانت مفردة بسيطة.
التنوع الدلالي: بعض الكلمات بطبيعتها مرنة ولديها القدرة على التعبير عن عدة مفاهيم أو حالات. هذه المرونة الداخلية تعني أن المفردة قادرة على توليد صور ومعانٍ مختلفة. مثلًا، كلمة “ظل” قد تشير إلى ظل مادي، لكنها تحمل طاقة شعرية تُعبّر عن الغموض، الحماية، الخوف، وغيرها من الدلالات التي يمكن استغلالها في الشعر.
الإيقاع الداخلي: الكلمات تحمل إيقاعًا داخليًا حتى وهي مفردة مستقلة. بعض المفردات تتسم بأصوات موسيقية معينة، مثل الأصوات المتكررة أو الحروف الصامتة، مما يضفي على الكلمة جرسًا موسيقيًا أو إيقاعًا خاصًا يمكن للشعر استثماره. حتى في غياب التركيب الشعري، المفردة نفسها لها إيقاع يُمكّنها من الانسجام مع الشعر.
الطبيعة البصرية أو المجازية: بعض المفردات لها قدرة كامنة على تكوين صور ذهنية بمجرد نطقها. مثلًا، كلمة “زهرة” أو “ماء” ليست مجرد رموز لمعانٍ مادية، بل تستدعي صورًا حسية مباشرة. هذه الصور الحسية تحمل إمكانيات شعرية لأنها تُثير العاطفة والخيال.
الجانب النفسي والعاطفي: بعض الكلمات تحمل في ذاتها قوة نفسية أو عاطفية تجعلها مهيأة للتعبير الشعري. على سبيل المثال، كلمات مثل “شوق”، “حزن”، أو “أمل” ترتبط بحالات نفسية عميقة ومجرد سماعها يستدعي مشاعر قوية، وهذه المشاعر تشكل أساسًا للطاقة الشعرية.
ومجمل الدليل هنا:
إذا كانت المفردة قادرة على تحريك العاطفة، استدعاء صورة، خلق جرس موسيقي، أو تقديم دلالات متعددة، فإنها تحمل طاقة شعرية كامنة في ذاتها.
تفسير النزعة الشعرية في تركيب القصة القصيرة جدا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُمكن اعتبار ما تقدم تفسيرًا للنزعة الشعرية في تركيب القصة القصيرة جدًا، حيث تُبرز الطاقة الشعرية الكامنة في المفردة نفسها دورًا رئيسيًا في تكوين هذا النوع الأدبي. القصة القصيرة جدًا تعتمد على التكثيف اللغوي والإيجاز الشديد، مما يجعل كل كلمة ذات أهمية قصوى. النزعة الشعرية هنا تتمثل في:
استثمار كل مفردة بشكل مكثف: بما أن القصة القصيرة جدًا لا تمتلك المساحة للتفاصيل الممتدة، فإن كل كلمة تُستخدم بدقة لتُعبّر عن أبعاد متعددة، سواء على المستوى العاطفي، الدلالي، أو الرمزي.
الإيقاع الداخلي للمفردات: كما هو الحال في الشعر، القصة القصيرة جدًا قد تعتمد على الإيقاع الداخلي للكلمات لبناء تدفق نصي متناغم، مما يعزز التأثير الكلي للرسالة.
الصورة والرمزية: الكلمات في القصة القصيرة جدًا قد تساهم في خلق صور شعرية مكثفة تستدعي مشاعر أو مفاهيم أكبر بكثير مما تعبر عنه الكلمة منفردة، وهذا يتقاطع مع المفهوم الشعري للكلمات.
التأثير العاطفي: كما في الشعر، القصة القصيرة جدًا تسعى للوصول إلى تأثير عاطفي مباشر عبر الاقتصاد في الكلمات. هنا يظهر الدور الشعري للكلمة في قدرتها على حمل معانٍ متراكبة تثير العاطفة والتفكير في آن واحد.
إذًا، تفسير الطاقة الشعرية في المفردة يساعد على فهم كيف يتم تشكيل القصة القصيرة جدًا. لأن هذا النوع الأدبي يعتمد على اختزال الأحداث والشخصيات والحوارات إلى أقل عدد ممكن من الكلمات، تصبح كل مفردة حاملة لثقل شعري، بحيث لا يقتصر دورها على نقل المعلومات فقط، بل تمتد لتشمل الأبعاد الجمالية والمعنوية الكامنة في اللغة نفسها.
توزيع النسب الشعرية لصالح المهيمنات السردية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سحب وتوزيع النسب الشعرية والسردية في القصة القصيرة جدًا يتم بدقة لتجنب تحولها إلى قصيدة نثرية، وذلك من خلال الحفاظ على توازن دقيق بين مكونات السرد والشعر لصالح مهيمنات النوع السردي. ويتم هذا التوازن عبر الإجراءات التالية: –
الحفاظ على الحدث السردي: بينما الشعر قد يميل إلى التأمل والتركيز على الحالة الشعورية، القصة القصيرة جدًا تعتمد على وجود حدث سردي أو تحول درامي حتى لو كان صغيرًا ومختصرًا. هذا الحدث يمنح النص توجهًا نحو السرد ويمنعه من الغرق في التأملات الشعرية البحتة.
تكثيف الزمن السردي: القصة القصيرة جدًا تتميز بتكثيف الزمن وتقديمه بطريقة مضغوطة، لكنها تظل بحاجة إلى بناء ترابط سردي أو إشارات زمنية تشير إلى بداية أو ذروة أو نهاية. هذا الحفاظ على هيكل سردي هو ما يمنح القصة هويتها الأدبية بعيدًا عن قصيدة النثر.
التركيز على الشخصية أو الحوار: حتى إن كانت القصة القصيرة جدًا تعتمد على اللغة الشعرية، فإنها تستثمر هذه اللغة لتقديم شخصية أو موقف أو حوار يمكن أن يخلق توترًا سرديًا. بعبارة أخرى، الشخصية أو الحدث هما ما يوجهان النص بعيدًا عن الطبيعة التأملية البحتة للشعر.
الرمزية المحددة: على الرغم من أن القصة القصيرة جدًا قد تحتوي على رمزية قوية مشابهة للشعر، إلا أنها تظل غالبًا ذات رمزية مرتبطة بالسرد. الرموز في القصة تخدم المعنى السردي ولا تصبح معزولة أو عائمة كما في قصيدة النثر، مما يوجه القارئ إلى تفسير محدد أو إلى متابعة سياق سردي واضح.
الوضوح والترابط النصي: بينما الشعر قد يميل إلى الغموض والانفتاح على تأويلات متعددة، القصة القصيرة جدًا تحافظ على ترابط نصي بين العناصر بحيث تساهم اللغة الشعرية في إبراز الفكرة السردية ولا تشتت القارئ عن الحدث أو الموقف.
النهاية القوية: القصة القصيرة جدًا تعتمد غالبًا على نهاية مفاجئة أو التفاف درامي، وهي سمة سردية قوية تميزها عن قصيدة النثر التي قد تظل مفتوحة من حيث المعنى والتطور.
متعلقات التوزيع:
النسبة السردية تتعلق ببناء الهيكل السردي من حدث، شخصيات، وتحولات زمنية. هذه العناصر هي التي تُهيمن وتُحافظ على جوهر السرد.
النسبة الشعرية تتعلق بتكثيف اللغة، الرمزية، الإيقاع، والإيحاء. هذه العناصر تستخدم لتعزيز الأثر الجمالي والفكري، لكن دون أن تطغى على هيكل السرد.
ويمكن ايجاز ما تقدم بهذه القاعدة
القصة القصيرة جدًا توزع النسب الشعرية والسردية لصالح مهيمنات النوع السردي عبر الحفاظ على وجود حدث أو موقف سردي وترابط بين الشخصيات أو الزمن، مع استثمار الشعرية في خدمة الفكرة والموقف السردي بدلاً من الانغماس في التأملات المجردة، وهذا ما يضمن عدم تحولها إلى قصيدة نثر.
قصة فنون وتمثلات النسب الشعرية والسردية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نص القصة هو
فنون
حاول رسم نفسه في المدنية..
ظهر كأرنب يفر من الزقاق..
كسر ريشته.. وأختبأ في اللوحة الفارغة
لمناقشة النسب الشعرية والسردية ومهيمنات النوع السردي في هذه القصة القصيرة جدا والطاقة الشعرية في المفردات التي بنيت منها القصة علينا بالتفصيل التالي
- النسب السردية:
الحدث السردي: يتمثل في محاولة الشخصية “رسم نفسه في المدنية”، والنتيجة كانت الظهور كأرنب هارب، ثم كسر ريشته واختبائه في اللوحة الفارغة. هذا يمثل تسلسلًا سرديًا متكاملاً بالرغم من قصره، حيث يتحقق تتابع للأفعال (محاولة الرسم، الفشل، الانسحاب).
التتابع الزمني: القصة تتضمن تتابعًا منطقيًا في الزمن، يبدأ بمحاولة الرسم، ثم الهرب، ثم الاختباء. هذا التتابع يحافظ على الهيكل السردي ويعطي النص طابعًا قصصيًا، يمنحه بعدًا حركيًا وتحولًا في الأحداث.
الشخصية والحركة: رغم قلة الكلمات، يتم تقديم الشخصية التي تحاول “رسم نفسها” ثم تتفاعل مع الفشل والهرب، مما يضفي طابعًا سرديًا محددًا لشخصية القصة.
لنحاول التفصيل بشكل أوسع دلالة
تبدو القصة القصيرة جدًا هنا غير مبنية على سرد تقليدي متسلسل، بل تُظهر بنية سردية متقطعة حيث يتحرك الحدث بسرعة فائقة بين المشاهد، وهذا جزء من خصائص القصة القصيرة جدًا، حيث يتم اختزال الزمن والمواقف بشكل مكثف. إذا تأملنا المشهد السردي:
“حاول رسم نفسه”: هذه العبارة تقدم فعلًا سرديًا واضحًا. المحاولة هنا هي عملية فعلية تدفع السرد إلى الأمام، حيث نرى الشخصية في مواجهة مع “الرسم”، لكن هذا الفعل الأول لا يُعبر فقط عن محاولة فعلية، بل يكشف عن مواجهة بين الذات والهُوية الفنية، وهو ما يحفّز الحكاية ويمنحها حركتها السردية.
“ظهر كأرنب يفر من الزقاق”: التحول إلى الأرنب يمثل عنصرًا سرديًا قويًا، لكنه أيضًا انتقال نحو رمز شعري. الفعل السردي هنا ليس تقليديًا؛ بمعنى أن الشخصية لم تتحول حرفيًا إلى أرنب، بل هي “ظهرت كأرنب”، مما يمنحها بعدًا استعاريًا دون فقدان الطبيعة السردية للحدث، إذ نرى تطورًا واضحًا للشخصية من كونها في محاولة لتحقيق الذات إلى الهرب والفشل في المواجهة.
“كسر ريشته.. وأختبأ في اللوحة الفارغة”: النهاية هنا تأخذ طابعًا دراميًا ينتمي إلى السرد، لكنه في الوقت نفسه يعتمد على صورة شعرية مكثفة. هناك فعل سردي (كسر الريشة، الاختباء)، لكن هذه الأفعال ليست مجرد سرد متتابع؛ هي أفعال محملة بدلالات فلسفية تُضيف إلى القصة أبعادًا أكبر من سرد مجرد.
- النسب الشعرية:
الرمزية المكثفة: المفردات “أرنب يفر من الزقاق” و”كسر ريشته” و”اللوحة الفارغة” تحمل رمزية قوية. الأرنب يُمثل الخوف أو الهروب من الواقع، وكسر الريشة يُمكن تفسيره كفشل أو يأس، أما اللوحة الفارغة فترمز إلى غياب الإنجاز أو الهروب إلى الفراغ. هذه الرمزية تتجاوز المعنى المباشر، وتُضيف بعدًا شعريًا واضحًا.
الإيقاع الداخلي: النص يحمل جرسًا شعريًا عبر تراكيب متجانسة مثل “كسر ريشته” و”أختبأ في اللوحة”، مما يعطي النص بُعدًا موسيقيًا خفيًا يشابه تراكيب الشعر.
الاقتصاد في اللغة: النص يوظف كلمات قليلة لكنها شديدة الكثافة المعنوية والإيحائية، كما في الشعر، حيث كل كلمة تُساهم في بناء الصورة والموقف بشكل متكامل.
النسب الشعرية في هذا النص تتجاوز الوصف التقليدي وتغوص في البنية الداخلية للمفردات والمواقف. الشعرية هنا ليست في الإيقاع أو البلاغة الظاهرية فقط، بل هي في الطاقة الكامنة داخل كل مشهد وكل مفردة.
“حاول رسم نفسه”: هذه العبارة على بساطتها تحمل طاقة شعرية قوية، لأن محاولة “رسم الذات” ليست مجرد عملية تقنية، بل هي محاولة لالتقاط الهوية، الوجود، والتعبير عن النفس من خلال الفن. هذا التوتر بين الذاتية والفن يمنح الجملة طابعًا تأمليًا وشعريًا، مما يُحوّل السرد إلى تجربة وجدانية.
“أرنب يفر من الزقاق”: هنا تبرز الطاقة الشعرية للمفردة “أرنب”. الأرنب عادة ما يرتبط بالخوف والهرب، لكن في هذا السياق، يصبح الأرنب رمزًا للانكسار والهروب من المدنية أو الحداثة، حيث يحاول الفرد الاندماج لكنه يفشل ويظهر في صورة كائن صغير، ضعيف، وغير متكيف. هذا البعد الرمزي يجعل المفردة محمّلة بطاقة شعرية تتجاوز الوصف المباشر.
“كسر ريشته.. وأختبأ في اللوحة الفارغة”: الكسر هنا ليس مجرد حدث سردي، بل هو لحظة انهيار شعري، حيث تتحول الريشة من أداة إبداعية إلى رمز للخيبة والعجز. اللوحة الفارغة تمثل الفراغ الوجودي، وهو مفهوم شعري بامتياز، يُشير إلى الفشل في التعبير أو تحقيق الذات. - مهيمنات النوع السردي:
رغم أن النص يحمل عناصر شعرية، إلا أن مهيمنات السرد واضحة من خلال التسلسل الزمني للأحداث، ووجود تحول واضح في الفعل من محاولة الرسم، إلى الفشل، ثم الهروب. هذه العناصر تجعل النص قصة قصيرة جدًا بدلًا من قصيدة نثر، إذ يُظهر النص حدثًا متكاملًا له بداية وذروة ونهاية، حتى لو كانت النهاية مفتوحة.
النهاية الدرامية: اختباء الشخصية في “اللوحة الفارغة” يُمثل نهاية مفتوحة وتحولاً سرديًا يُميّز القصة القصيرة جدًا عن الشعر الذي قد يُبقي التأمل مستمرًا دون تحول حاسم.
- الطاقة الشعرية في المفردات:
“أرنب”: المفردة تحمل دلالات متعددة منها الخوف أو السرعة أو الهروب، وهي هنا تحمل طاقة شعرية عبر استدعاء صورة مفعمة بالحركة والعواطف.
“ريشته”: الريشة ترمز في هذه القصة للفن والإبداع، وكسرها يمثل اليأس أو العجز. المفردة هنا تحمل طاقة شعرية عبر تمثيلها للأداة الإبداعية التي تنكسر.
“اللوحة الفارغة”: هذه المفردة تحمل بعدًا فلسفيًا وشعريًا واضحًا، فهي ليست مجرد لوحة بل تمثل اللاوجود، الغياب، أو الفشل في تحقيق الذات. الفراغ هنا مُفعم بالإيحاءات.
ويمكن ايجاز ما تقدم
النص يستفيد من الطاقة الشعرية الكامنة في المفردات ويستغلها لصالح السرد، مع الحفاظ على مهيمنات النوع السردي عبر التسلسل الزمني والتفاعل الشخصي مع الأحداث.
النص يحقق توازنًا دقيقًا بين السرد والشعر عبر مزج الطاقات الشعرية للمفردات في إطار سردي، حيث تُستخدم المفردات الشعرية لتكثيف المعنى دون أن تطغى على السرد نفسه. النص يُحافظ على هويته كقصة قصيرة جدًا عبر الحدث المتصاعد (المحاولة، الفشل، الاختباء)، بينما يُضفي على هذا السرد بعدًا شعريًا عميقًا من خلال الرمزية والطاقة الكامنة في الكلمات.
الكاتب حيدر الاديب