كان ذلك في بداية السبعينيات من القرن الماضي ، لحظة أبصر الأولاد أبا عبدو الجوبراني ، يتثاءب بتكاسل ، حاملا كرسيه الخشبي ومتجها نحوهم ، وعرفوا أنه قادم ليجلس كعادته تحت أغصان شجرة النارنج وارفة الظلال ، بينما كان اخضرارها موشى بالثمار الناضجة ذات اللون القرمزي ، بالقرب من بيتنا المستأجر حديثا بعد نكسة حزيران .
تحلق الاولاد حوله ، كان رجلا هرما ، طويلا ، شعره رمادي فضي ممشط الى الخلف ، عيناه مشرقتين يلوح بهما شيئ جاد ، جبهته ناعمة لفحتها الشمس ، وشعيرات بيضاء في حاجبيه الاشعثين ….تفوح منه رائحة الكولونيا ، ويرتدي حلة فضية اللون …كان مهذبا ، محبوبا ، يتمتع بالموهبة والجاذبية وحضور الذهن …
عرف ابو عبدو ، أني أنتمي إلى أسرة سكنت الحي حديثا سألني مبتسما :
- ما اسمك ؟
-فايز .. - الصح ان تقول : فائز ….وهز برأسه مرحبا .
-أتعرف يا فائز ، إذا أمسكت بيدي ..ماذا يحدث ؟ - ماذا يحدث ؟
-سأرتجف مثل أوراق الشجر ، وأطير كالطيور ، وأحلق في السماء عاليا كالطائر الحر …ابتسمَ ، وابتسمتُ له . - أمسكتُ بيدهِ …شدَّ بحنو على أصابع يدي الصغيرة ، ثم أفلتها … رفع يديه إلى الأعلى ، ثم الى الأسفل ، وأخذ يرفرف كالطيور…
-قال : انظروا …ها أنا أطير …هيا يا أولاد ، أثبتوا مهارتكم في التحليق ، لا تبخسوا نفوسكم قدَّرها ، جلّوها تجلّكم ، خدِّروا حياتكم بالأحلام ….
قلّده الاولاد مُتلحفين بأحلامهم ، بينما كان الأفق يفتح ذراعيه لهم ….والجميع بفرح غامر ..
صاح أحد الأولاد : احكِ لنا حكاية .
كحَّ أبو عبدو كحة ، كادت تلفظ لسانه من فمه …ثم مسح فمه بظهر يده ، وأشعل سيجارة ، وعبَّ من دخانها أنفاسا متلاحقة ونفثه ببطء ، بينما كانت أعين الأولاد ترمقه بلهفة .
قال أبو عبدو بلهجة مرحة :
كان ياما كان في قديم الزمان ، نحكي أم نام ، صاح الأولاد جميعا بصوت واحد : نحكِ ..نحكِ ..
تابع أبو عبدو كلامه بصوت هادئ ورزين …يُحكى أن :
يُحكى أن كلبا على مدى سنوات عدة يمشي وراء القطيع ويحميه من الذئاب والضباع ورجال الليل ، حارسا وفيا لصاحب القطيع وأهل بيته ….
أدركَ بفطرته الكلبية ، أن الحياة ليس واجبات فقط …كان أشد ما يحزنه أن سكان القرية إذا أرادوا أن يوجهوا الشتائم والسباب والتحقير لشخص غدر بهم ،يقولون له (كلب ابن كلب) …وهو الكلب الوفي …..يا لغدر البشر .
ذات مساء شاهد القمر وهو يكبر ، شم رائحة محببة لنفسه ، شنف أذنيه ، إنها رائحة انثاه ، هلل ذنبه طربا ، دار حول انثاه ، وهمس لها ، معبرا عن حبه ، ورغبته الجامحة بالزواج منها … - قالت له بدلال : مهري بسيط ، لكنه يحتاج إلى شجاعة ، وهي لا تنقصك …
-اطلبي ما تريدين . - أريد ان تحضر لي الضبع مكتفا وذليلا ، ولا أريد دون ذلك شيئا …..وغادرت .
-صاح بانزعاج ، طلبك غريب ، اطلبي ما شئت إلا هذه … فضبع الجبل معروف بقوته وجبروته وقساوته …
دلف الكلب إلى جحره ، وأغلق بابه باحكام ، طاردا ضوء النهار ، وأوشك أن يضرب حنجرته بمدية مثلومة الحد … اجتاحه شوق عارم الى محبوبته ، وخضع لرغبة ضارية في تحدي شيء ما فظ مختبئ في غور العالم ، فأفلتت أصابعه المدية ، وقال باكتئاب :
يجب أن يكون هناك حلا ما ، يجب ان أقاتل …..(وحدقتيه تدمعان )…
عزَّ على الليل ، أن يترك الكلب وحيدا ، حمل إليه ابن أوى ، وأشار عليه بمشورة …
قصد الكلب الجبل ، وهو يرتجف رعبا ، الدنيا غائمة ، والبرد قارس ، رذاذ أبيض يصفع وجهه ….كان الضبع يتربع في زاوية مظلمة ، لونه أسود ، ونظراته مقتحمة ومفترسة ومخيفة .
اقترب الكلب من الضبع بتذلل ، انكسر على بعضه ، واستسلم …(إنها المرة الأولى التي يرى فيها عدوه عن كثب )…
دار الضبع حوله ، شمّه ، وأطلق صيحة ترتجف لها الجبال .
-قال الكلب بصوت خفيض :
يا سيد الجبل ، أريد منك معروفا ، لن انساه لك ما حييت ، وبكى …
-أجاب الضبع : قل ما تريد بسرعة …لم أنسى أنك حارس القطيع ..
حكى الكلب له قصته ..وحبّه الذي يمتلك شغاف قلبه ، ووعده إن استجاب لطلبه ، سيقدم له ما يريد من قطعان الماشية .
صال الضبع وجال ، كشّر عن أنيابه ، تساعر نُباحه ، وزبد القسوة تكسو ملامحه …. رفض الضبع عرض الكلب ، وانتابه خوفا غامضا ، وأمام انكسار الكلب ، وتذلله ، وحزنه الشديد ، رق قلب الضبع ….وأخيرا وافق على طلبه …
ربط الكلب قوائم الضبع الأمامية والخلفية تربيطا مُحكما ، وقيَّد عنقه بحبل إلى جذع شجرة زعرور … همهم الكلب :
يا لخبثك ودهائك يا ابن اوى ..
وصلت الكلبة ( العروس ) بالحال ، وتفرست في الضبع الشرس الجبار ، الذي أصبح بواقع جديد ، ذليلا ، مهانا ، منكسرا ….ذكرته أنها لا تنسى ، وقالت له :
إن الحرب خدعة ، ولا أخلاق لها . ولإذلاله وتصغيره ، وضعت قوائمها الأمامية على جبهته …بينما كانت الحيوانات صغيرها وكبيرها ، ملتفة حوله التفاف السوار على المعصم ، تشاهد هزيمة الضبع وانكساره المخزي .
طلب الضبع من الكلب أن يفك وثاقه ، بعد أن استجاب لرغبته ، لكن الكلب رفض ….وغادر .
- صرخ الضبع وقد اجتاحته دفقة حيوية شديدة الانطلاق والقوة ،خلقت منه ضبعا حُرَّا رغم قيوده :
أنتم معشر الكلاب رمزا للذل وليس للوفاء …عد كما جئت ، لتموت على يد سيدك عند هرمك … أيها الذليل .
كان الضبع ينبض الما ويعوي ، حاول التخلص من الحبل حول عنقه ، أدخل يده ليبعد الحبل وكاد يخنق نفسه ، كان يتلوى على نفسه كدودة فقدت الأمل في التخلص من منقار طائر جارح .
أطلق الضبع عواء ، أعاده إليه المدى عاريا مع الريح ، بكى ، واستسلم لقدره ….
فجأة لاح من البعيد الفأر المشاكس ، طلب الضبع منه ، أن يفكَّ وثاقه ، لكن الفأر يريد مقابلا . - صرخ الضبع أوافق على كل ما تطلب ….
- أريد أن تغادر منطقتي ، ولا أريد أن أراك فيها ، فانا لا احترم الصغار المهزومين .
قرض الفأر الحبل وحلَّ وثاقه …وأخيرا ، أصبح الضبع حرا ..
-بكى الضبع بمرارة…وقال :
( لعن الله هذا الزَّمن الغادر ، الذي صار فيه الكلب يَربط ، والفأر فيه يَحل ) ….
خيم صمت مطبق وحزن شديد على الجميع ….
فجأة نهض أبو عبدو الجوبراني ، بعد أن استند على أحد الأولاد ، حمل كرسيه الخشبي ذا القوائم الصغيرة مُتجها إلى بيته ، وقد ازداد ظهره انحناءً ….
محبتي
(القدس عاصمة فلسطين الأبدية )
الكاتب فايز حميدي