في 14 أكتوبر من عام 1994، حاول شاب موتور كان يعمل فني كهربائي، اغتيال نجيب محفوظ على خلفية تكفير محفوظ بسبب روايته أولا حارتنا التي رفض كاتبها – نفسه- أن يُعيد طباعتها إلاّ بموافقة الأزهر. والمثير للدهشة أن الجاني لم يقرأ هذه الرواية أو أي عمل لنجيب محفوظ ، بل إنه كان يخطئ في نطق اسم نجيب محفوظ، وينطقه مقلوباً: محفوظ نجيب!
بهذا الحادث المثير والغريب عن محاولة اغتيال الأديب الراحل نجيب محفوظ (1911 – 2006)، يبدأ الدكتور خالد محمد عبدالغني، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة عين شمس ، كتابه الصادر عن مؤسسة هنداوي بالقاهرة، بعنوان ثلاثية التاريخ والواقع والرمز: قراءة في أعمال نجيب محفوظ.
يقول المؤلف عن هذا الحادث إن محفوظ كان شخصاً ذا طبيعة مسالمة، محبة للحياة والخير والناس، ومتعاطفاً مع الطبقة المتوسطة، ولم يغير عاداته من حيث المشي منفرداً في الشوارع والجلوس في المقاهي، رغم ما حققه من شهرة واسعة وسمعة عالمية، ورغم عمره المتقدم، فهو أثناء الحادث كان قد تجاوز 80 عاماً، في ظل وهن الصحة واعتلال الحواس. وكانت المفاجأة من حيث سرعة تنفيذ العملية، حتى إن محفوظ ظن أن الشاب قادم ليحييه فهم برد تحيته، ولكن الجاني فاجأه وطعنه بالسكين.
والغريب أحد المتهمين في محاولة الاغتيال، كما قال الروائي المستشار أشرف العشماوي، في حديث تليفزيوني أُذيع مارس 2021، كان يتعثر في نطق اسم نجيب محفوظ، لدرجة أنه كان ينطق اسمه مقلوباً فكان يقول محفوظ نجيب!
وتبحث فصول الكتاب السبعة شخصية نجيب محفوظ نفسه، وبطله المشهور عاشور الناجي في ملحمة الحرافيش، من وجهة التحليل النفسي، فضلاً عن محاولة فهم البناء النفسي لشخصية سعيد مهران في رواية اللص والكلاب التي صورت قصة محمود أمين سليمان، سفاح الإسكندرية الذي غضب جمال عبدالناصر لمقتله على أيدي رجال الشرطة، ولقبه الناس وقتها بالسفاح المثقف.
ويذكر المؤلف أن محفوظ كتب في مطلع حياته عدداً من المقالات الفلسفية والنفسية والنقدية، خلال الفترة من بداية الثلاثينات من القرن العشرين، إلى منتصفها، وصل عددها إلى 47 دراسة، وكانت المقالات الفلسفية والسيكولوجية منها حول احتضار معتقدات، وتوالد معتقدات، والمرأة، والوظائف العامة، والمجتمع الراقي، وتطور الفلسفة إلى ما قبل سقراط، والفلسفة عند الفلاسفة، وماذا تعني الفلسفة، وفلسفة الحب، والبراجماتيزم الفلسفة النفعية، وفكرة النقد في فلسفة كانط.
ويعزو الكاتب ذلك إلى تأثر محفوظ بعمله في شبابه سكرتيراً لوزير الأوقاف مصطفى عبدالرازق، الذي كان أستاذاً لمادة الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية، وقت أن نجيب طالباً في قسم الفلسفة بكلية الآداب حت ى أن نجيب سجل للمنجستير تحت إشراف الشيخ مصطفى لكنه لم يكمل مشواره الأكاديمي . فهو بهذا لم يكن غريباً على علم النفس والاجتماع والتحليل النفسي.
ويبين المؤلف أن حياة نجيب محفوظ الفكرية في شبابه الغض مرتبطة أيضاً بتأثير اثنين من كبار المفكرين، هما سلامة موسى، ومصطفى عبدالرازق. حيث امتزاج الثقافة العربية والإسلامية، والتنوير الإنساني، واحترام قيم العلم ومنجزاته. ولعل هذا ما يفسر لنا نص الخطاب الذي كتبه محفوظ لجائزة نوبل الذي قال فيه: أنا ابن حضارتين، الحضارة الفرعونية والعربية الإسلامية.
وظهرت آثار تلك الاهتمامات الفكرية المبكرة في أعمال محفوظ الروائية فيما بعد، فمقالاته عن الحب والمرأة والجنس والوظائف العامة المنشورة عام 1930م بمجلة (الجديدة)، والتي ناقش فيها التغيرات الاجتماعية والأسرية الناتجة عن تعليم المرأة وتوليها للوظائف العامة، وتغير نظرتها للبيت والزواج نتيجة تعليمها وعملها ومركزها المالي الآخذ في الظهور، واستقلالها المالي والكدر العائلي الذي قد ينتج عن ذلك، واحتمالية الطلاق، وبطالة الرجال نتيجة لزيادة فرص عمل المرأة ومنافستها القوية للرجل، نجده قد تناولها في رواية الحب فوق هضبة الهرم، وبعض موضوعات رواية يوم قتل الزعيم.
ويستخدم الكاتب أساليب التحليل النفسي لدراسة آخر ما كتب محفوظ، وهو (أحلام فترة النقاهة) الذي يعده (بلا أدنى شك عمله المعجز)، وآخر أشكال السرد في الأجناس الأدبية بعد المقامة والرواية والقصة، ومن ثم كانت العناية بتقديم التحليل النفسي لهذه الأحلام التي كشفت عن البناء النفسي لنجيب محفوظ، وهناك بُعْد آخر من أبعاد إبداعه الخارق، وتحليل أبعاد الاستبصار بالمستقبل، وبخاصة بعض المشكلات المجتمعية التي تنبأ بها خلال تلك الأحلام، كون ذلك التنبؤ هو آية المبدع الحق، إذ الإبداع في أعمق جوانبه هو قوة إلهامية، بقدر ما هو قدرة على التنظيم والدقة ومواصلة المضي قدماً في الكتابة، مهما كانت الظروف غير مواتية.
ويحكي المؤلف كيف أن حلماً متكرراً كان يحير محفوظ في أخريات حياته، فقد جاءه في المنام مراراً خلال بضعة أيام، لكنه كان ما زال يفكر كيف سيحوله إلى نص أدبي ينتظم مع بقية أحلام فترة النقاهة، ثم رواه لوصيفه الكاتب الصحافي محمد سلماوي.
قال محفوظ: إني حلمت بأنني كنت سائراً في أحد الشوارع، وكان ينتابني خوف بسبب وجود بعض قطاع الطرق الذين يهاجمون المارة ويسرقونهم وقد يصيبونهم بأذى أيضاً بالمطاوي والسكاكين التي يحملونها، ووسط خوفي هذا قابلت بالمصادفة صديقي المرحوم الدكتور حسين فوزي، الذي أصبح يظهر الآن بشكل متكرر في أحلامي، وما إن رأيته حتى قصصت عليه قصة هؤلاء المجرمين الخارجين على القانون، والذين يتربصون بالناس في الطريق العام. فقال لي حسين فوزي على الفور: ده أنا أمنيتي أن أقابلهم، ألحقني بهم!
أضاف محفوظ: دُهشت لذلك لكني أخذته إلى حيث يوجدون وتركته ومضيت إلى حالي. وبعد فترة جاءني الدكتور حسين فوزي يقول: تعالى بقى شوف الحرامية بتوعك! فذهبت معه وأنا ما بين الخوف وحب الاستطلاع، فوجدت المجرمين الذين كنت أخافهم وقد ارتدَوا البِذل (السموكنج) السوداء مثل عازفي الأوركسترا السيمفوني، وكل منهم أمامه النوتة وفي يده آلته، وهنا قال لي الدكتور حسين فوزي: حاسمعك دلوقتِ سيمفونية بيتهوفن الخامسة! وبالفعل عزفت لي أوركسترا قطاع الطرق السيمفونية الخامسة لبيتهوفن!.
وخلاصة التحليل النفسي لهذا الحلم النقي، بحسب المؤلف، أنه دلالة على مرور محفوظ بأعراض اضطراب الضغوط التالية للصدمة، وإحساسه العميق بالإيمان بالقدر، وكأن اختياره لرموز الحلم، اللصوص والسيمفونية الخامسة لبيتهوفن، الذي أُصيب بالصمم وصارع ضربات القدر، لهو تعبير صادق جداً عن بنائه النفسي المتسامح مع المخطئين، والمؤمن بدور الفن في علاج المجرمين.
مؤلف الكتاب خالد محمد عبد الغني أديب مصري ودكتور في علم النفس ، وُلد بمحافظة القليوبية عام ١٩٧٠م. تخرَّج في كلية الآداب بجامعة بنها عام ١٩٩٢م؛ حيث نال درجة الليسانس من قسم علم النفس. وفي عام ١٩٩٦م نال درجةَ دبلوم الخدمة النفسية من شعبة علم النفس الإكلينيكي من قسم علم النفس بكلية الآداب، جامعة عين شمس. وفي عام ١٩٩٨م نال درجةَ الماجستير بتقدير ممتاز من قسم علم النفس بكلية الآداب، جامعة عين شمس، عن موضوع: أنماط اضطرابات النوم لدى الراشدين والمُسِنين وعلاقتها ببعض المتغيرات النفسية، دراسة مقارنة بين الذكور والإناث. وفي عام ٢٠٠٣م، حصل على درجة الدكتوراه في الآداب بمرتبة الشرف الأولى من قسم علم النفس بجامعة بنها، وذلك عن موضوع: دراسة تطوُّر رسوم الأطفال والمراهقين العاديين في اختبارِ رسم المنزل والشجرة والشخص، ومقارنتها برسوم المرضى النفسيين والفئات الخاصة. وقدَّم خالد محمد عبد الغني العديدَ من البرامج الإذاعية والتليفزيونية في إذاعة مونتكارلو الدولية، كذلك في الإذاعتَين المصرية والقَطرية، كما قدَّم العديدَ من الحلقات في التليفزيون المصري، وكان له بَرنامجٌ ثابت أُذيع طوالَ شهر رمضان بإذاعة القاهرة الكبرى بعنوان كنوز مَنسية ولألئ مصر المحروسة وأعلام عند القمة ، هذا فضلًا عن الحوارات الصحفية والإذاعية والتليفزيونية التي أُجرِيت معه على مستوى الإعلام العربي والغربي. وشارَك في العديد من المؤتمرات والندوات على المستويَين الدولي والإقليمي، وقد رُشِّح خالد عبد الغني لعددٍ من الجوائز المصرية والعربية، وفاز بجائزة الدكتور علاء الدين كفافي في علم النفس الأسري من القاهرة عام ٢٠١٠م، كما حصل على جائزة عبد الستار إبراهيم ورضوى إبراهيم في الأصالة والإبداع العالمية في العلوم النفسية السلوكية من ولاية ماريلاند الأمريكية لعام ٢٠١٨م. له الكثيرُ من المُؤلَّفات، نذكر منها: التحليل النفسي والأدب، والذكاء والشخصية، والدلالات النفسية لتطوُّر رسوم الأطفال، ونجيب محفوظ وسردياته العجائبية، هذا فضلًا عن العديد من المقالات والبحوث العلمية المنشورة.
الكاتب محمد سيد بركة