جمال الصورة وشاعريتها في رواية كوفيد الأحلام لقمر عبد الرحمن مقال ل د. حسن عبدالله

تلفت انتباه المتابع للحركة الأدبية في كل مرحلة طاقة ثقافية وإبداعية أو أكثر، تعلن عن نفسها من خلال نتاجاتها وأنشطتها. وكباحث ومتابع للشأن الثقافي والإبداعي في بلادنا منذ سنوات طوال استوقفتني مؤخرًا طاقة إبداعية شابة، تكتب شعرًا ونثرًا، إضافة إلى “شعر الهايكو” الذي خصصت ْله ديوانًا بعنوان “صلاة الدموع”. وللأديبة المعنية قمر عبد الرحمن حضور في الأنشطة الثقافية، وكذلك في الإعلام من خلال بعض البرامج، لاسيما المتعلقة بالأسرى.
لعل الذي قدمته بشكل مكثف في تجربتها قد قادها وحفّزها لولوج عالم الرواية، من باب الحق في التجريب، لأنها في الأساس عملت جاهدة على تشكيل صورتها الممهورة ببصمتها الخاصة، ونجحت في ذلك إلى حد كبير، بعد أن صار لها لونها وقسماتها.

أهدتني نسخة من روايتها، لكن لم يتسن لي قراءتها سوى في الأيام الأخيرة من العام 2023 وقد تساءلت بعد كل صفحة: هل يمكنها أن تضيف جديدًا إلى التجربة الروائية الفلسطينية؟! إلى أن قادني ما قرأت إلى الاستنتاج، أن هذه الرواية بشرت بولادة روائية سيكون لها شأن في هذا المجال، إذا ما وظفت الوقت والجهد لمشروعها الروائي وأسندته بإصدارات أخرى، كل إصدار جديد يؤسس للذي يليه تمكنًا وتطورًا.

الرواية الأولى تعطي مؤشرات في اتجاهين متعاكسين :
الأول: الاستمرار، والثاني: التوقف والكف عن المحاولة.
الرواية الأولى للروائي الكبير حنا مينه “المصابيح الزرق” كانت شارة انطلاق لروائي تفوق في عالم روائي واسع وخصب، حيث تلت التجربة الأولى روايات أصبحت علامات مضيئة في التجربة الروائية العزبية عامة. مقابل ذلك هناك العشرات بل المئات قد غادروا ساحة العمل الروائي وعادوا إلى مجالاتهم الأصلية الشعر أو القصة، أو ربما غادروا عالم الأدب إلى غير رجعة، والسبب أنهم فشلوا في الرواية الأولى، وضاقوا ذرعًا بالردود السلبية للنقاد والقراء.

مؤشرات رواية “كوفيد الأحلام” الصادرة عن الرعاة/ جسور، هي مؤشرات استمرار، شريطة أن تبني الأديبة قمر على الذي أسسته في روايتها الأولى، وأسجل بعض المسوغات التي جعلتني أخلص إلى هذا الرأي :
أولًا- التقاط العنوان “كوفيد” والربط بين وباء هدد البشرية وأوبئة اجتماعية مستشرية، ف “فيروس” عادة اجتماعية سيئة موروثة لا يختلف ضرره عن “فيروس” وباء يغزو الجسد ويستهدف أعضاءه.

ثانيًا- الروح النقدية، فالروائي لا ينبغي أن يكون ناسخًا ومصورًا للمجتمع فقط، يتقبل كل شيء فيه ويعيده بقوالب لغوية كما هو، وإنما أن يضعه تحت المجهر، ويخضعه للتحليل والنقد. كانت الأديبة قمر في روايتها الأولى نقدية، لها موقف واضح من العادات والتقاليد المعرقلة والمحبطة ذات الدفع الخلفي للمجتمع، أي إدارة الظهر للتطور والسير في اتجاه معاكس لسيرورة الحياة وصيروتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والتقنية.

ثالثًا- المرأة- تنتصر قمر في روايتها للمرأة، تدافع عن حقوقها، منتقدة العادات والتقاليد التي تحط من مكانتها، مسلطة الضوْء على تصنيفات مسيئة للمرأة كالعنوسة مثلًا، معتبرة العنوسة، هي عنوسة الفكر والثقافة لا تأخر الزواج.

رابعًا- الشاعرية والتكثيف اللغوي- يُلاحظ أن معظم الشعراء عندما انتقلوا من الشعر أو القصة إلى الرواية نقلوا معهم التكثيف والاقتصاد في الكلمات وجمال اللغة، ما يضفي على النص النثري المتعة والإدهاش من خلال شفافية الكلمة وموسيقى الجملة.

وبالرغم من سلاسة السرد، وعدم سعي الأديبة إلى الاستعراض اللغوي، إلا أن الشاعرة كانت تخرج من داخلها إلى النص تُعطره بعبق شعري هنا وهناك، فالشاعر عندما يقرر الذهاب إلى لغة النثر لا يتخلى عن شاعريته بسهولة، هكذا كان حال كبار الشعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم وإبراهيم نصرالله الذين يسهل على قارىء نصوصهم النثرية أن يجد الناثر والشاعر قد تداخلا تارة وتباريا تاره أخرى للفوز في السبق، الأمر ذاته لازم الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان في صفحات مذكرتها “رحلة جبلية رحلة صعبة”.

خامسًا- الصورة في “كوفيد الأحلام” هي صورة ذكية ترى من زوايا مختلفة تظللها شاعرية جميلة، وهذا ما يتم التركيز عليه بنوع من التخصيص:
الصورة بين اللمسات الشعرية وإلحاح الموضوع الروائي
استهلت الأديبة صورها ابتداءً من الإهداء، أي قبل أن تفتح فضاء روايتها، فجاءت جمالية الصورة في تكثيفها وعمقها، وفي مفارقاتها وأحيانًا في تضادات اللغة:

“إلى طول الحياة القصيرة… ابتسامة أمي”.
ابتسامة الأم جعلت الحياة القصيرة حياة طويلة، لأن ابتسامتها تبقى وتدوم في الحياة وبعد الرحيل، فهي صورة راسخة في أذهان الأبناء وخيالاتهم ما دامت قلوبهم تنبض بالحياة.

“إلى جمال الشمس والقمر بنهار واحد… وجه أبي”.
الأب في منظور الأديبة قمر الذي عبرت عنه في صورتها، هو مصدر الإشعاع والنور كما الشمس وعاكسه في الوقت ذاته كما القمر، وهذه صورة استعارية كأن يقال قلب فلان كالحجر أو وجه فلانه كالبدر.. وهي في صورتها الأدبية شبهت الأب بالشمس والقمر معًا.

“إلى خجل الوقت من الفراغ منه.. زوجي فادي”.
الوقت هنا يخجل مجازيًا، لأن الذي يخجل حقًا الأديبة نفسها، فبحكم انشغالها المستمر في مشروعها الأدبي والإعلامي، فيصبح فراغها نادرًا، لتتجلى في هذه الحالة تضحية الزوج المتخلي راضيًا عن حصته من وقتها احترامًا وتقديرًا لما تنجزه في مشروعها.

“إلى صورتي التي تحتضنني من الذبول… أختي سماح”.
الإهداء للأخت قصدت به الأديبة أن الأختين هما صورتان لبعضهما بعضا من فرط التشابه، في تدليل على قوة العلاقة وحميميتها، حيث إن أختها سماح تمثل لها السند والعضد أمام صعوبة الحياة وتقلباتها، لذلك فهي لا تذبل وإنما تظل متقدة عطاءً.

“إلى كل من يؤمن بأن الأحلام ليست أحلامًا… إنما حقيقة”.
تفيد الصورة بأن الحلم مجرد أن يعلن عن نفسه بأنه حلم يصبح حقيقة، في تأكيد أن الإرادة إذا توافرت هي التي تحول الحلم إلى حقيقة.

ومن الصور اللافتة في الرواية:
“فنحن لا نسمع صوت الشجرة عند اقتلاعها من جذورها التي تعانق الأرض… نحن نعتقد أن الشجرة لا تملك صوتًا للصراخ، مع أن صراخها يصل السماء وتسمعها الأشجار على الأرض…” (ص19 من الرواية).
الصورة فيها أنسنة للشجرة، حيث تصرخ حينما تتعرض للخطر. تصرخ الشجرة استنكارًا ودفاعًا.. تصرخ كما الإنسان، تتشبه به وتحاول التصرف مثله لحظة تعرضه للخطر. ويا للمفارقة فإن الشجرة المتشبهة بالإنسان، تصرخ احتجاجًا على اقتلاعها من قبل الإنسان!!

وإلى صورة إنسانية أخرى:
“وعندما أشارت له الممرضة إلى مكان ابنته بحزن. تبددت غيوم عينيه مطرًا على خديه..”. (ص26 من الرواية ).
أدق تسمية للمطر (الغيث) القادم من السماء يسقي الزرع ويدر الضرع ليعم الخير على البلاد، غير أن المطر يأخذ جانبين متناقضين: الأول الخصوبة إذا كان المطر غزيرًا ساقيًا بسخاء فيكون غيثًا. والثاني الإغراق والتدمير إذا كان المطر شديدًا، فيفجر السيول ويجرف التربة ويدمر السدود. أما المطر الذي هطل على خدي الأب أمام الممرضة في الرواية فقد حمل المتناقضين: فرحه برؤية طفلته للمرة الأولى خصوصًا وأنها نجت من الموت في ولادة عسيرة.. إنه الغيث الذي حمل بشرى الحياة، ومطر تصفر رياحه حزنًا، لأن ولادة الطفلة تسببت في موت أمها. إذًا نحن أما وجهين للمطر، الفَرح والحزن.

وجاء ضمن الصور بعض الصور الإيمانية التي نورد واحدة منها:
“فالله يجردك من كل شيء إلاك، لتشعر بالموت وحدك، يجب أن تشعر بالموت قبل الموت، لكي تطمئن لساعي بريد السماء حينما يأتيك برسالة مستعجلة” (ص 24 من الرواية).
شبهت ملك الموت بساعي البريد، لكنه ساعي بريد السماء، كونه لا يحمل رسالة بشرية، وإنما إلهية تقضي بأن مسيرتك على هذه الأرض قد انتهت. الإنسان الذي يعد نفسه لهذه اللحظة، لا يهاب ساعي بريد السماء، بل ينبغي أن يطمئن إليه، وهذا ما قصدته الأديبة “يجب أن تشعر بالموت قبل الموت”.
صورة مشبعة بنفحات إيمانية، تحث الإنسان ليكون إيجابيًا في حياته، يفعل ما يفيد، ويبتعد عمّا يضر الآخرين وبالتالي يضر نفسه.

أما الصورة الآتية فهي أنثوية بامتياز، فيها نقد لاذع للنزعات الذكورية الاستعلائية على الأنثى، التي لا ترى فيها سوى وظائف محددة، غير مسموح تجاوزها. صورة واقعية، لكنها تربط بين الأنثى الإنسانة والأنثى الشجرة، فالمشترك بينهما، الثمر، العطاء، التفاني من أجل الآخرين.
صورة شاعرية جميلة كثفتها على النحو التالي:
“رجل يتلفف بثيابه غضبًا وجهلًا. يغلق أذنيه عن تاء التأنيث!! يكره الثمرة وإنْ كانت ناضجة لأنها من الشجرة، والشجرة أنثى!
يكره التاء المربوطة والمبسوطة، لأنها أنثى”. (ص31 من الرواية).

لكن للعنوسة في قاموس قمر معاني أخرى مختلفة، فهي ليست عنوسة امرأة: “تعبت هديل من عتاب المجتمع، فهو العانس بأفكاره وليست هي”( ص33 من الرواية).
وكأنها تقول: إن المجتمع الذي يضطهد المرأة قد شاخ فكريًا وإنسانيًا وكتب على جبينه كلمة “عانس” لتكون العنوسة عنوسة مجتمع.

ومن الصور اللافتة أيضًا، صورة شاعرية، صورت فيها وجع القلب يعزف ألحانًا حزينة بفعل المواقف الصعبة، والتحديات الجسام.. صورة عنوانها اليتم والوحدة:
“يتيمة أنا
شمس حارقة
صحراء بلا واحات
يتيمة أنا
عيون شاخصة
ووجه بلا بسمات
يتيمة أنا على أوتار القلب
يعزف الوجع بلا كمنجات
يتيمة أنا
بلا أم
يتجسد الشتات” (ص48 من الرواية).
عندما تتكالب الظروف على فتاة يتيمة في مجتمع أصلًا يميز بين الذكر والأنثى، تحرق جسمها شمس صحراء لا شجر فيها، فيظل قلبها يعزف وجعًا، ويضل وجعها يعزف حزنًا وفجيعة.

وختام الصور التي تم اختيارها كأمثلة دالة على كيف ترسم الأديبة قمر صورها، صورة تجمع متناقضات الجمال واللاجمال، سحر الطبيعة وبلادة تكرار بعض مشاهدها:
“المصيبة في مكابرة الصخرة من حفر المطر
وكبرياء الحجر تحت شلال منهمر.
المصيبة
بفخر الجليد تحت أشعة الشمس
وشيم البليد أمام عزة النفس” (ص140 من الرواية).
يبرز في هذه الصورة بهاء الطبيعة وألق المشهد، فحين يستمر الشلال في غسل الحجر، يلمع الحجر نظافة وبريقًا، إلا أن ربط ظواهر طبيعية متكررة، ببلادة الإنسان فقد عزة نفسه، فهنا يقترن الجمال باللاجمال، مع أني أفضل ربط بلادة الإنسان بظواهر طبيعية لا تمت للجمال بصلة، لكن كان للأديبة رأي مختلف، فانشدتْ للمفارقة، الأمر الذي يقنع قارئًا ولا يقنع آخر، بمعنى قد تكون هذه الصورة إشكالية، بيد أن المفارقة بحد ذاتها تجعلك تتأمل المشهد وتفكر وتقارن..

لم يغب عن بالي قط وأنا أمعن النظر في فقرات وصور رواية “كوفيد الأحلام” أنها الرواية الأولى في تجربة الكاتبة، وقد تنبهت لبعض القضايا التي أتوقع أن ينم تداركها في تجارب روائية جديدة، فالتجربة الروائية الأولى لا تأتي مكتملة تمامًا عند معظم الكتاب، وهذا طبيعي كمستوى اللغة عند أبطال الرواية، حيث ينبغي أن تعبر اللغة خصوصًا في الحوار عن مستويات ثقافية متباينة، حسب خلفية الشخصية وقدراتها حتى لا يكون الحوار صوتًا واحدًا لكل الأبطال وبالمستوى اللغوي ذاته.

والحديث عن المستوى اللغوي هنا على سبيل المثال. أما الإطار العام ل”كوفيد الأحلام” شكلًا ومضمونًا ونَفَسًا روائيًا، فقد وضعنا أمام روائية لها بصمتها الخاصة حتى في تجربتها الأولى التي ستوضحها ونؤكدها التجارب القادمة.

  • عبد الرحمن قمر، كوفيد الأحلام، رواية، الرعاة/ وجسور ، رام الله: 2021

د. حسن عبد الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *