جنيّة الساقية للأديب محمد البنا

ثلاثة أشياء واظب عليها عوض؛ أن يستقبل كل صباح شروق الشمس ممددًا على ظهره
أسفل سقيفة العنب على سطح داره، وأن يتلصص – راقدًا على بطنه – على زوجة جارهم،
بينما هي تأخذ حمامها اليومي قبيل الشروق في زاويةٍ من حوش دارها، والثالثة؛ فلاحة القيراطين اللذين تركهما أبوه بعد أن خطفته الجنيّة .
صوت أمه يصعد من أسفل إلى أعلى، ليمر على أذنيه ويتجاوزهما إلى السماء الحبلى بشمسٍ
آن مخاضها، يصعد الصوت مرة أخرى مزعجاً؛ ليخترق أذنيه

  • يا عوض …ياللا يا بني الشمس طلعت
  • حاضر يا أمه
  • هِم يا بني، روح أروي الأرض قبل الشمس ما تحمىَ
  • حاضر يا أمه
  • يا عوض إوعاك تبص يمّة الساقية؛ الجنيّة تخطفك زي ما خطفت أباك …إوعاك يا عوض،
    أنا ماليش غيرك يا حبة عيني
  • حاضر يا أمه
    عندما اقترب من الساقية أغمض عينيه وأسرع الخطى، إلى أن تجاوزها بمسافة، فتنهد إرتياحاً…
    سألها
  • هي خطفته ليه يا أمه ؟
  • أبوك كان حليوة يا عوض وزينة شباب الكفر…
    تفحص إنعكاسه في الماء الجاري أمامه في القناة التي يجلس على حافتها…
  • وأنت يا عوض ..شبهه الخالق الناطق
    تنهدت في لوعةٍ وأسى، وأردفت مهمهمة
  • بس هو كان راجل طول بعرض
    أمسك الفأس بكلتا يديه، وجرف ما يكفي من الطين، وسد به فتحة الماء، فتوقف الماء عن التسلل، وواصل مسيرته في القناة .
    قفل راجعاً وفأسه على كتفه الأيسر، ماراً على مبعدةٍ من الساقية والجنيّة وأبيه
  • هىّ خدته عشان إيه يا أمه ؟
    هزت الأم رأسها في حركةٍ لا إرادية ولم تنبس ببنت شفة، إلا أن إلحاحه لم يصمت
  • خدته ليه يا أمه ؟ ..عايز أعرف
    كرر سؤاله مراتٍ ومرات، إلى أن قالت وهىّ تشيح بوجهها عنه
  • عشان تعاشره …ارتحت يا عوض ؟
    لكن عوض لم ترحهُ إجابتها، همّ بسؤالها، إلا إنها كانت قد اختفت من أمامه، ودخلت الزريبة
    لتقضي حاجتها، أو …لتُفرغ ما في جوفها من مرارة .
    الليل أوشك على الانتصاف، والتثاؤب حل على الشفاه محل الكلمات، نهضت في تثاقل
  • ياللا يا عوض نطلع ننام يا بنى
    صعدا إلى الدور الثانى المبنى من الطوب اللبن، غرفتها إلى يمين السلم الخشبي، دخلتها،
    وغرفته على يسار السلم، دخلها.
    تنام أمه باكية كعادتها، وينام عوض- كعادته – يحتضن أرقه، فلا يلبث أن ينهض قبيل الشروق،
    ليصعد إلى سطح داره حيث سقيفة العنب على جانبه الأيسر، وعلى جانبه الأيمن أشباحٌ رابضةٌ
    في سكون؛ أثارت في نفسه خيفة؛ رغم علمه إنها أكوامٌ من الجلة؛ رصّتها أمه لتستخدمها وقوداً
    كلما أوقدت الفرن .
    يتلصص كعادته، والجارة الشابة الحسناء تستحم كعادتها، والشمس – كعادتها – تتسلل بين
    وريقات العنب الخضراء وأغصانه الداكن لونها، حاملةً معها شيئاً ينتظره منذ أمد، لكنه لا يعرف كنهه .
    يخترق صوتها الزاعق أذنيه، فلا يجد مفراً من النزول للأسفل؛ انصياعاً لطلبها، فهىّ أمه وهو
    وحيدها بعد أن خطفت الجنيّة أباه .
    تذكر …كان صبياً عندما اصطحبه أبوه لمولد سيدي المتولي، وكيف كان أبوه منبهراً بغازيةٍ
    تتلوى شبه عارية فوق سجادةٍ زاهية الألوان، وكيف انبهر هو بألوانها .
    صبيحة اليوم التالي، الصبية يتغامزون ويسخرون
  • أبوك خَدِتهُ الغازية يا عوض
    لم يفهم، وكل ما وعاه آنذاك، أن أباه سلّمه لجارهم ليعود به إلى أمه .
    سألها مراتٍ ومرات، كانت تبكي ولا ترد، وعندما ردت، همهمت
  • جنيّة الساقية خدته مننا يا عوض
    واختفت من أمامه لتدخل الزريبة، لتكمل بكاءها أو لتقضي حاجتها أو لتفرغ ما في جوفها
    من مرارة .
    في طريقه إلى القيراطين اللذين تركهما له أبوه، يمر على الساقية، يتوقف، يقترب، يختلس
    نظرةً إلى داخلها، يمعن النظر، يستغرب، يسأل نفسه
  • أين أبي ؟ …وأين الجنيّة التي خطفته لتعاشره ؟
    يصرخ بأعلى صوته حتى كادت تنفجر أوردته، ولكن لا أحد يجيبه سوى صداه، يهدأ، يمضي
    مبتسماً، فقد هداه تفكيره إلى الطريقة الأمثل؛ المولد قد أزف ميعاده .
    ……………………………………….
    من مجموعتي القصصية الرابعة * قبل هبوب العاصفة*
    معرض القاهرة الدولي يناير ٢٠٢٥

الأديب محمد البنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *