الحياة في حيفا ليست فقط جميلة، إنّها ملهمة، فمنذ انتقلت إلى هذه المدينة قبل سنتين وأنا أعيش حياة ملونة مختلفة جديدة على حياتي الشخصية والمهنية، ساحرة ومقاتلة هذه المدينة، ولأول مرة أرى مدينة تقاتل الأعداء وتصدّهم بينما هي تستقبل الشعراء، وتقيم العروض المسرحية، وتعرض الأفلام، وتؤسس الفرق الكشفية والرياضية، سكنتُ وحدي في حي (الحلّيصة).
سأسميها مدينة الغناء والرصاص هذه المدينة، أعيش هذه الأيام كخياط وصحافي في جريدة فلسطين أبهى أيامي وأغربها.
قصص كثيرة حولي، قصص جاهزة تأتي إلى رأسي؛ لتقولَ لي: حولّني إلى مقالك القادم لو سمحت، أغرب قصصي، هي قصة بنت حيفاوية صغيرة جميلة جداً، جاءت إلى مخيطتي طالبة مني حياكة فستان أحمر لها بصورة مستعجلة، لم تعجبني هذه الفتاة، ولم يعجبني استعجالها، كانت ناعمة أكثر مما تقتضيه المرحلة الخشنة، أو ربما كنت أنا في مكان آخر، إذ لم أكن مستعداً للتعاطي مع أنوثتها الطاغية والبلاد تغلي والشهداء يصعدون، إلحاح هذه الفتاة أثار استغرابي، صرختُ عليها أمام الزبائن الآخرين: (تحلّي ببعض الأخلاق يا فتاة، أفستان أحمر في مرحلة الدم الفلسطيني الأحمر؟).
بكت أمامي بشدة، وانصرفت، وحين عادت مرة أخرى، طلبت مني أن أرافقها إلى المكان الذي سوف تلبس فستانها فيه، جُنَّ جنون فضولي، ركبتُ معها سيارة أجرة من تكسي حداد في شارع الملوك، طرقت هي باب بيت صغير هناك، فتحت سيدة مسنة، تقدمت الحيفاوية الصغيرة والجميلة وأنا وراءها، متوقّعاً مشهداً لا يعجبني، فوجئت برجل ممدد قربه بندقية على الأرض، وضمادات حول يديه وساقيه.
أهلاً بالخياط الصحافي الذي يرفض حياكة فستان أحمر لخطيبتي.
صعقتُ من المشهد، جريح مقاتل تنحني قربه الفتاة الحيفاوية، وتقبّل جبينه.
هل رأيتَ حفلتي أيها الصحافي؟ هذا الرجل العظيم هو حفلتي، هو المقاتل ( كتائب الجهاد المقدس ) الذي جُرح في آخر معارك وادي الصليب ضد البريطانيين، طلب مني (والكلام ما زال للفتاة) المقاتل الجريح أن ألبس له فستاناً أحمرَ؛ لأنّه يؤمن أنّه سيشفيه من جراحه، ولأنه بلون دم بلادنا المسفوك وقد جئتكَ عشرات المرات؛ لتحيك لي هذا الفستان، لكنّك ظننت بي الظنون، سامحك الله.
انحبس الكلام في داخلي، انحنيتُ على ساقَيْ ويدَيْ الجريح، وطلبتُ منه أن يسامحني، قلت له: سيكون لك ليس فقط فستاناً أحمر فحسب، بل بدلة عسكرية على حسابي. ابتسم الجريح، وضغط على يدي، خرجتُ من حي (وادي النسناس) وحدي، وأنا أترنّح من الخجل، وذهبتُ من فوري إلى المحل، أغلقته، وشرعتُ في خياطة الفستان والبدلة، وفي الليل قررتُ أنا وصديق من حي (الكبابير) حضور حفلة أدبية للشعراء: مطلق عبد الخالق، ووديع البستاني، وأثناء الحفلة كنتُ أتخيّل فرح المقاتل الجريح وخطيبته وهما يتلقفان الفستان والبدلة، وكنتُ أتنهّد وأنا أقول: يا لساحرتي ومقاتلتي حيفا، ما أعظمك!!.
في الليل العميق رأيتني أخيط حيفا كبيرة وعظيمة ولم أكن هناك حائكاً بل كنت جريحاً متمدداً قرب بندقية في غرفة داخل حي شعبي، أحاول مع الآلاف من الجرحى إعادة حياكة وطن.
الكاتب زياد خداش
٢٤-٤ -١٩٣٤