حبيبتي قاصّة للكاتبة سمية الاسماعيل

عنيدة، لكنها حبيبتي
هذه الروح التي ظنّها بضيق رؤيته خرابًا، ما هيَ إلا روضٌ أو جنّات لم تستطع زوايا بصيرته الحادّة الانفراج في مداءاتها حتى يتسنّى له إبصار ينعها و خصف ثمارها.
لقد أتعبتُ لهاثه كي يُحبِطَ بكل محاولات النهي إصراري، أو التخلّي عن حلمٍ سنينًا داعب الروح و الفؤاد، فكنت أهدهده، حتى حين.


هناك على مفترق قرار، كان لابد أن أختارني، بعد لأي. كعادته، متكئًا على ضعفي العتيق، ينفث دخان سخريته في وجهي إن استحال أمامه و لو طيفًا. يُعاقر كبْره و ذكوريته الموغلة في شقوق حجارة رانت على عنجهيّة، لم أحسبها إلّا فارغة.


-أوتظنين أنّكِ ستجارين أولئك العمالقة؟ عودي بعقلك أدراجه و لا تجعليني سخرية القوم.
-أ تريد أن تكون جبارًا فتئدَ حُلمًا في مهده؟ لم أعد تلك الساذجة التي تعودت الانصياع، لن تُحبطني محاولاتك اليائسة، فأنثني على أمانيٍّ عِذابٍ راودتني عمرًا، و ألملم وجعي و أرتدُّ خائبة المسعى. لقد عزمتُ أمري، و قرّرتُ أن أسدل على خيبات الأمس ألف حجاب. سألاحق حُلمي، حتى أُطبق عليه بكل ما أوتيت من رغبة شاهقة للوصول.
أختزل من سويعات ليلي جليل الصمت، لأنزوي بها في غار لغتي فأمتح منها آيات البلاغة ، و أنسج من خيوط أفكاري أبجديّة خاصّة تُحاور كائناتي المتوارية في غياهب خيالي. هناك صنعت لي مسرحًا، و خلقتُ بيئة و شخوصًا، كأنها الجنيّات بالغة الرهافة حينًا، إذ يكون العشق مادتها و مائدتها، تستفيق من غفوتها، فتخرج من دهاليز الحُلم المعتّق دهرًا، يكاد يخدشها نصوع بياض الصفحات. و حينًا تراها مقاتلة شرسة، تذود عن حمى براءة تسفحها جدالات عقيمة و حروب لا طائل من الفوز فيها و لا الخسران.

كادت تربكني محاولاتي الأولى الخجولة، متعثّرة الخطى، لم تشف بعد من عوالق الخوف و الرهبة، و شحنات أمسٍ غير بعيد من السلبية ، على استحياء كنتُ أنثر ما يجود به قلمي من بنيّات أفكاري، و لطالما راودتني نفسي أن أغضّ الطرف، لكنّ هاتفًا كان يحثني على المضيّ. عرفتُ أنه عليّ أن أجتاز محطات تنقيّة كثيرة كي أتزكّى، و تنكشف أمامي مساحات الرؤى، فأجعل من صنيعي ما يُفغر له فاه الدهشة.

يصحو ليلًا ليجدني منكبّة على قراءاتي، و ما أدوّنه من ملاحظات ..
-أليس من الحماقة أن تتمسّكي تعنّتًا بما لن تستطيعي القبض عليه؟ سينسلّ كل ذلك من بين فرجات الوقت خذلانًا، صدقيني.
نظرة جامدة مني كانت تفقده رصانته:
-كم أنت عنيدة!
أردفت لأرد الصاع، فقد أثار حفيظتي فلم أمهله الإحساس بالظفر:
-أليس من الحماقة أكثر أن أتمسّك بمن لا يمكنه مشاركتي لحظات ولادةٍ و إن بدت في ظاهرها عسيرة؟ متى ستؤمن بأنني أستطيع أن أصنع من المحال منال، و أنت الدليل.
يرمقني بنظرة لم أستطع تفسيرها، يكتم غيظه و ينكفئ على نفسه ، يوليني ظهره متمتمًا بعباراتٍ لم أعد أهتم لكُنهِها، إذ لم يعد يعنيني أمرها، فغالبًا ما تنتهي هذه الحرب الكلامية بلا طائل، لا هو يقتنع، و لا أنا أتراجع.

أعيد الكرّة مرةّ تلوَ مرة، أفتح أمهات الكتب، لأسترجع ما أسقطته ذاكرتي البعيدة، أعيد ترتيب ما بقي عالقًا، و أزيل ما تراكم عليها من غبار الهمل. ثلاثون عامًا انقضت، و خزائن معارفي لم تُفتح. أنفخ فيها الروح مجددًا، لينتظم العقد، و يبدأ درّه في البريق. م هكذا.. بدأت القلوب الحمراء تسلك طريقها إلى كتاباتي، تُعلن انطلاقتي.

لن أنسى ارتجاف أوصالي، و لا عبراتي التي كنت أذرفها آناء الأمل و أطراف المنى شوقًا إلى هذه الحظة.

غير ذات مرةٍ عزفت شفاهي ألحان الفرح، كلّما تلقتني تلك العبارات
-مباركٌ فوزك بالمرتبة الأولى، الرجاء إرسال صورة شخصيّة ليُصار إلى تكريمك.
تثور ثائرته، يُعلن رفضه، و تشرئبُّ حميته.. فيعلو صوته:
-لقد ركنت إلى الأمر كَرهًا ، فلا تستنفذي كل طاقة حلمي و أناتي.
-أ تغار عليّ أم من نجاحي؟
يضحك مستهزئًا بسؤالي:
-أغار!… كم أنتِ ساذجة!.
أقفز فوق سخريته، أحلّق، أعلو.. و أعلو. في نظراته كنت ألمح شيئًا، تخونني فراستي، فأسقط في بئر حيرتي، لكنني سرعان ما كنت أنتفضُ لأعاود التحليق. و ليكن ما يكون.

ذاك اليوم، لا زالت عالقة ذكراه في خاطري، أحتضنته بلهفةٍ ، أقلّب صفحاته، تُعانق عيوني الكلمات، أقرأها و كأنّ أحدًا غيري قد كتبها..
وقفتُ أمامه عاجزة عن النطق، خانتيني كل بلاغتي. ما كنتُ أعلم ما يُدبره لي في الخفاء. بادرني ليجيب عن كل الأسئلة التي أمتزجت بدموعي
-كان من العبث أن أقف متفرجًا، و كان من المؤلم أن أدعك تفلتين ما كنتِ تشدّين عليه بقبضة إصرارك حدّ الوجع. إنما كنت أحاول أن أخرج أجمل ما تختزنين.
يضمني بذراعيه، و بقبلة أقبرت كلّ ما تراكم داخلي من غيظ:
-حبيبتي قاصّة، و … أعذبهنّ.

الكاتبة سمية الإسماعيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *