حرب على الكلمة

يعد العدوان الذي يشنه الكيان الصهيوني على قطاع غزة المحاصر منذ عام 2006 أحد أطول الحروب الصهيونية منذ قيام الكيان الصهيوني على أراضي فلسطين التاريخية، بل يعد أفظعها وأشدها فتكًا نظرًا لاستمرار آلة القتل الصهيونية بقصف القطاع بشكل يؤدي الى انعدام الحياة وتدمير جميع مناحي الحياة في القطاع.

منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى عمد الاحتلال على استهداف المدنيين والأبراج السكنية بأحدث أنواع الأسلحة المتطورة سواء من مخازنه أو مخازن حلفائه الذين يدعمونه عن طريق جسور جوية وعلى رأسهم الولايات المتحدة، ولعل هذا الدعم هو ما يفسر وحشية الاحتلال في ظل صمت دولي مطبق منطلقا من كون القرارات الدولية يجب أن تطبخ بالمطبخ الأمريكي الأوروبي قبل أن تقدم للعالم أو ستواجه بالفيتو كما كان الحال مرارا وتكرارا. متناسين كون هذا العدوان يرتقي الى حدود الابادة الجماعية وكل ما يجري من انتهاكات في الميدان تعد جرائم حرب وتطهير عرقي، كل هذا في جغرافية ضيقة ووسط كثافة سكانية هي الأعلى عالميا تحت ذريعة الدفاع عن النفس وحجج واهية تطمس معالم إرهابه المكتملة.

كما أن هذه المحاولات لا تخلو من تزييف الحقائق ونشر المحتوى المضلل الذي جعلهم مصدرا للتندر والسخرية حول العالم، فلا تكاد تخلو مواقع التواصل الاجتماعي من هذه الفيديوهات التي تفتقر لأساسيات الدبلوماسية والعسكرية وتبدو للمشاهد العادي اشاعات تافهة لا قيمة لها ضمن سعيها لتصدير رواية مضادة لرواية المقاومة التي تمتاز بالتنوع والتلقائية والعفوية، وهذا ما يعطيها مصداقية كما أن الناحية التوثيقية من أعطاب الآليات واستهداف جنود من المسافة الصفرية يظهر ذلك بأبهى صورة.

بينما ينشر العدو الكثير من الفيديوهات دوما من نفس الزاوية حيث يطلق الجنود النار باتجاه غرفة أو ممر مظلم دون ردة فعل مضادة كإشتباك أو أي إشارة تشير لوجود أحد سواهم، مما يدعم رواية التضليل والتزييف أكثر.

لكن ما يجري في الميدان من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان واستهداف المدنيين والطواقم الطبية والصحفيين المتعمد والغير مبرر في ظل استخدام التكنولوجيا الحديثة والصواريخ الموجهة التي طالما تم تصديرها على أنها لا تخطئ الهدف. متناسيين كون كيانهم تم تصديره على أنه الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وأن جيشه الأكثر أخلاقية فأين كل هذه الهتارات وهل تبقى لها قيمة في ظل ما نراه بشكل يومي؟

يخوض الاحتلال حربين بالتوازي. أولاهما تدميرية على كل مقومات الحياة بقطاع غزة انتقامًا منه بعقاب جماعي ينقض كل المواثيق الدولية والاتفاقيات الدولية وعلى رأسها اتفاقية جنيف وهذا ما نراه منذ 7 أكتوبر. أما الحرب الثانية بشكل خاص ضد الكوادر الإعلامية في حرب طمس معالم، حرب سردية، حرب إسكات صوت غزة وحرب تكميم أفواه، وإن اختلفت المسميات.

خلال هذه الحرب الخاصة والمتعمدة تعرض قطاع غزة إلى موجة هجمات متواصلة من قبل القوات الإسرائيلية، تشمل استهداف المقرات الإعلامية والصحفيين وعائلاتهم، في سياق ينذر بتصعيد خطير يهدد حقوق الإنسان ويقوض حرية الصحافة. يعكس هذا التقرير التحليلي الموسع محطات الهجمات وتأثيراتها، موضحًا التحديات التي يواجهها الصحفيون في سبيل نقل الحقيقة وسبر أغوار الأحداث في ظل هذا السياق الصعب.

التوجيه المتكرر للضربات إلى المقرات الإعلامية يشير إلى استراتيجية مدروسة لضرب حرية الصحافة ومحاولة التأثير على السرد الإعلامي كما ذكرت وأثار الدمار الذي خلفته طائرات الاحتلال في 50 مقرًا إعلاميًا على رأسها تدمير برج الغفري الذي يضم بدوره مقرات إعلامية لمؤسسات كبيرة كالجزيرة ووكالة الأنباء الفرنسية شاهدة على هذا، ناهيك عن خروج ال 24 إذاعة المحلية في غزة عن العمل لشح الوقود واستهداف الكوادر في محاولة لسلخ غزة عن العالم الخارجي تمامًا وقطع أي تغطية تسطر هزيمة الاحتلال.

لم تقتصر هجمات الاحتلال الإسرائيلي على المقرات الإعلامية، بل امتدت لتشمل صحفيين فلسطينيين بارعين، مثل المصور سامر أبو دقة والصحفي وائل الدحدوح، اللذين واجها الموت المحقق بعد الاستهداف المباشر بطائرة مسيرة ونجى منه وائل الدحدوح بعد عناء طويل بينما ارتقى المصور سامر أبو دقة شهيدا. هذا الهجوم الجسيم يبرز جزءًا من الخطر الذي يواجهه الصحفيون في ظل محاولاتهم نقل الأحداث الحية والتوثيق الصحفي للظروف الراهنة، ولعل مالم يتم توثيقه لغاية الآن أقسى وأعظم.

لم يكتف الاحتلال بالاستهداف المباشر بالميدان بل راح بعيدا لينتقم من الصحفيين الشجعان المتمسكين برسالتهم وقدسية مهنتهم ليفجعهم بأهلهم وهنا أيضا كان للصحفي وائل الدحدوح نصيبا كبيرا من الحزن والألم بفقد أفراد من عائلته كثمن لنقل الحقيقة وتكرر الموقف مع الصحفي أنس الشريف والمصور معتز عزايزة والقائمة تطول حتى اقتربنا من حاجز ال 100 شهيد من الطواقم الإعلامية.

لا يعد الاستهداف المباشر للصحفيين في الميدان أو من خلال ذويهم المشكلة الوحيدة بل إن الناجين ليسوا أفضل من مَن تم استهدافهم فهم إما نزحوا إلى الجنوب تحت ظروف قاسية ووسط شح في كل مقومات الحياة والمواد الإغاثية، أو بقوا في مناطقهم وتعرضوا للمضايقات والتهديد اليومي أو ، حتى الاعتقال كحال الإعلامية سمية جوابرة الذي لم يمنع الاحتلال كونها حامل في الأشهر الأخيرة من اعتقالها وسط غموض حول مصيرها.

ناهيك عن المعاناة النفسية التي تتكبدها الطواقم الإعلامية جراء تغطية هذه المجازر الوحشية وما يعايشونه من مشاهد طبعت بأذهانهم إلى الأبد مخلفة أثرًا عميقًا على حياتهم اليومية وتحديات نفسية كبيرة.

ونتيجة تدمير المعدات ونقصها يواصل العديد من الصحفيين التغطية بصعوبات كبيرة وبإستخدام معدات قديمة أو حتى الهاتف في الكثير من الحالات حيث يجسدون أعظم صور الاخلاص والمسؤولية تجاه شعبهم ونقل الحقيقة وفضح ممارسات العدو الوحشية.

يعتقد البعض أن هذه الحملة الوحشية تقتصر على غزة أو حتى باقي الأراضي الفلسطينية فقط، ولكنها تمتد لأبعد من ذلك وبالتحديد الى قلب الكيان حيث تفرض إجراءات مشددة يمنع فيها تداول أي فيديوهات وتصريحات غير رسمية تحت رقابة صارمة من المخابرات وأسفر تسريب سابق عن اعتقال الصحفي الإسرائيلي يسرائيل فراي بتهمة التحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

فأي أزمة هذه التي تجعل العدو كالثور الهائج الذي يطرح كل من يقف في وجهه أرضا غير أبها بصورته الخارجية؟ فما هو التأثير الذي تركه هؤلاء الأبطال من موقعهم حتى أصبحوا شوكة في حلق الكيان، إذا أبقوا أثخنت جراحه وإذا انتزعوها نزفوا أكثر؟

ولكن في الجانب الأخر أليس على المجتمع الدولي أن يتذكر أن حماية حقوق الإنسان وحرية الصحافة تعد أساسية للسلام والأمان، وعدم التصدي لتلك الانتهاكات قد يفضي إلى استمرار دوران دائرة العنف والتهميش ؟

وأن الحل لا يكمن فقط في التعبير عن الاستنكار، بل في اتخاذ إجراءات فعّالة وملموسة لوقف الهجمات وتحقيق العدالة وضمان أمان الصحفيين وعائلاتهم والضغط بالذهاب بعيدا لايقاف هذا العدوان ومحاسبة مجرمين الحرب بعد أن وثق هؤلاء الأبطال كل هذا الكم من المجازر؟؟؟

الكاتب والباحث محمود النادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *