كنتُ دائماً ما أوضبُ نفسي في حقائب السفر
أطوي قلبي بعنايةٍ: لأرتديه صباحَ العيد
أجففُ دموعي وأُخبِّئها في الجيب الأيمن،
أما الأيسر فهو مخصص لقطع الحلوى المفضلة لدي،
جميلةٌ ملونةٌ كالأمنياتِ هي الحقائب التي تحتضن أمنياتِنا،
ويمتدُّ بنا الطريق على طولِ جديلة وأغنية
كبرتُ قليلاً؛ لأتفهم عمقَ نظرةِ والدتي عندما كان أبي يضطرُ للسفرِ أحياناً، كانت الحقيبة بيضاء تحملُ قلبَ أُمي.
عندما نضطر لإفراغ حياتنا في حقيبةٍ رماديةٍ بعد أن يزدادُ إيجارُ منزلنا.
للحقائبِ وجهٌ آخرُ إذاً كما النوافذُ،
تلك النوافذُ المُطلة على حُلمي، والتي خُصصت لاحقاً لمراسمِ الوداع والنّحيب.
ثمَّ كبرتُ جداً؛ لأعرف كيف يمكن لوطنٍ أن يُوسَعَ في حقيبة!
حسناً، هنا جدران بيتي المحطم.
هنا سأضعُ أطياف ذاكرتي، جثثَ أحلامي، بعضَ الوعودِ المسروقة، ونافذةَ منزلي القديم.
أما هنا فسأحشرُ قريالحتي
في الجيبِ المخفيّ، سأعطرُ سنين عمر أبي، وأخفيها حتى لا يلحظَ انقضاءَها ،
أتُراها ابتساماتُ أمي تتسعُ في ما تبقى من الفراغ؟
سأبدلُ الحلوى خاصتي بوجوه الرّاحلين الذين لم تُتَحْ لهم فرصة شراء حقيبة، والكثير الكثير من الصور.
قلبي المُهترئ لم يعد قابلاً للطيّ، إنه يتمزق أكثر.
في نقطة التفتيش الأولى طلبوا مني شجرة للتوت علها تَظِلهم من عراء الجحيم،
وفي الثانية طلبوا وجه جدتي الذي سافرَ بهم إلى وجهِ الرّبابة، حيث يعشِّش السنونو في قبعات القش المستديرة.
الكثير من ابتساماتِ أُمي منحتُها ليتيمٍ يهوي على قارعةِ الطريق.
عامٌ من عمري أعطيتُه لعجوزٍ محتضرٍ كانَ آخرُ ما يودُّ رؤيتَهُ وجهَ ابنه الجنديّ على الثغور البعيدة.
ذرفتُ الكثير من الصلوات والألحانِ على امتداد الأمل؛
لأصل عتبةَ الفراغِ خاوياً خالياً
ببقايا حقيبةٍ سوداءَ تلفظُ نصف وطني خارجاً،
كبرتُ جداً، حتى احترفتُ إعداد الحقائب المحشوة بالحنين،
أفرغُها من العودة، أشدُّ حزامَ الرحيل، ثم ألوح لأصحابها من النافذة بأيادي الغياب.
وداعُ هذا الصباح كان غائماً غير اعتياديّ،
لم أبكِ ،
ولم ألوح من النافذة، كُسِرت يدُ انتظاري،
نظرةٌ طويلةٌ تاهت بين عينَيْ أخي وحقيبتِهِ الموضبة جيداً، وشوارع الياسمين المرشوقة باللعنة.
كلُّ الأشياءِ حولي راحلةٌ متغيرة،
وأنا هنا ثابتً كشجرةِ زيتونٍ عجوز،
كلُّ الخُطى هنا نازفة، الأرض مليئةٌ بالفجوات، والسماءُ عقيمٌ،
هرمتُ جداً؛ لأعلم جيداً كيف يمكن للوداعات أن تنطفئ؟
كيف تكون مبتورةَ الأصابع، مثقوبةَ الحنين؟
هرمتُ جداً وجداً؛ لأعرف كيف يمكن للإنسان أن يُنفى من كلِّ شيء،
كُلِّ شيء،
ويستوطن حقيبة.
الكاتب نضال حلو