حقيقة ليست كخيال رسالة الغفران للكاتب عبد السلام اضريف

إن واقعة “حمارة خالتي” ليست رواية من نسيج الخيال العلمي، بل هي من صميم الواقع. كما أن أحداثها تعبير عن المعاناة المريرة التي يعيشها العالم العربي عامة، ولبنان الشقيق خاصة. فأحداثها لا يمكن وصفها بالضلالة الفنية، ولا بالخيال العلمي المبتكر، ولا يمكن اعتبارها كتجديد لماضٍ سحيق كما هو الحال في خيال “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري.

إنها قصة حقيقية ومسجلة رسميًا في الأمم المتحدة. وقد حدثت في قرية “كفر كلّا” في الجنوب اللبناني، في تموز 1962.

في أحد الأيام من شهر تموز سنة 1962، وقبل أن يقيم العدو الإسرائيلي الأسيجة الفاصلة مع لبنان، تاهت حمارة خالتي، ودخلت فلسطين المحتلة، واختفت هناك. وعجزت خالتي وزوجها عن اللحاق بها، خوفًا من الرصاص الإسرائيلي، فقررا أن يتخليا عن الحمارة. بعد عامٍ على اختفائها، تفاجأت خالتي بعودة حمارتها إلى البيت، وإلى مربطها، وهي تجر وراءها عربة محملة بالدراق والأجّاص. وكان يتبعها عدد من أطفال القرية مهللين فرحين.

لم تكتمل الفرحة بعودة الحمارة، فبعد ساعات، جاء الدرك اللبناني بصحبة المختار ورئيس البلدية مع قوات الطوارئ الدولية، وداهموا منزل خالتي، مطالبين بتسليم الحمارة للقوات الدولية كي تعيدها إلى (إسرائيل)، فالحمارة حبلى بجحش، أبوه حمار إسرائيلي. بعد شد وجذب، وبعد اعتراض ورفض، ارتفع منسوب الغضب، وانضم إلى النقاش أهل القرية وراحوا يصرخون بصوت جماعي: “الحمارة حمارتنا، تاهت ورجعت لنا”.

بعد ساعات من المفاوضات مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبوساطة دولية، اتفق الجميع على أن تعود الحمارة إلى دولة الكيان الصهيوني لتلد هناك، شرط أن تعيد الأمم المتحدة الحمارة إلى خالتي بمفردها بعد الولادة. وبحضور الأمم المتحدة، تم توقيع اتفاقية تسمح بعودة الحمارة، شرط أن يبقى مولودها الجحش في دولة الكيان الصهيوني.

بعد ثلاثة أشهر، هربت الحمارة من (إسرائيل) مرة ثانية دون تنسيق أمني، وعادت إلى قرية “كفر كلا” في الجنوب اللبناني، وهي تجر خلفها العربة نفسها، ويركض بجوارها هذه المرة مولودها الجحش الصغير. ولم تمضِ ساعة، حتى حضرت إلى منزل خالتي قوات الدرك والبلدية والمختار والأمم المتحدة، وطالبوا خالتي بتطبيق بنود الاتفاقية الموقعة، وتسليم الجحش لقوات الأمم المتحدة.

وكانت المفاجأة أن رفض الجحش أن يترك أمه، وتشبث بالبقاء في لبنان، وماطل في تسليم نفسه لقوات الدرك اللبناني. وعلى ضوء تهرب الجحش، تم استدعاء قوات درك إضافية، وتم تطويق المكان، وإلقاء القبض على الجحش، وربطه، وتحميله في شاحنة عسكرية إلى مركز المراقبة في الناقورة. ومن هناك، عاد مأسورًا، مكسور القلب، باكي العين، مشتت الشمل إلى الكيان الصهيوني.

حمارة خالتي تكشف حقيقة المفاوض الإسرائيلي، إنه صلب وعنيد وطويل البال إلى الحد الذي رفض أن يفرط بجحش أبوه حمار إسرائيلي، وأمه حمارة لبنانية. فكيف سيتنازل هذا المفاوض الإسرائيلي للمفاوض الفلسطيني عن القدس وعن الضفة الغربية وعن سماء فلسطين، وعن المسجد الأقصى، الذي يزعم أنه جبل الهيكل؟ هذا المفاوض الإسرائيلي الذي لم يفرط بجحشٍ صغير، كيف سيتخلى عن 60% من أرض الضفة الغربية، تقام عليها عشرات الآلاف من البيوت، التي تضم مئات الألوف من المستوطنين المتطرفين؟

هذه الواقعة ليست نسجًا حيكت خيوطها من خيال البحث العلمي الذي يستند في ثنايا مجرياته على الأوهام، كما لا يمكن أن يسري عليها الخيال الأدبي. حيث إن الأدباء أو الشعراء أو كتاب المسرحيات الذين يتوفرون على مهارات فنية يتمكنهم من السباحة مع أبطالهم من خلال مشاعر خاصة، على ضوء تحليل للشخصيات التي يصنعونها وفق مشاعرهم الخاصة.

وللإشارة هنا، فإن عملية إدماج نسبة من الخيال بعنصر العاطفة قد يضفي على العمل الفني مسحة جمالية، قد تجد قبولًا عند المتلقي. لكن في الحالة التي يطغى فيها الجانب الخيالي على الأحداث العاطفية، يترتب عنها غياب عنصر الذوق والجمالية، إذ يفرز ذلك فسادًا للعمل الفني.

الواقعة هي عبارة عن مشاهد تعالج حقيقة مدى الضعف الذي يعيشه المفاوض العربي مع عقلية مفاوض يحمل في مخياله شدودًا. فهو مصمم في لاشعوره أن ترافعاته مبنية على حق، وأن كل بنود اتفاقياته تحمي وبشكل أساسي مصالحه هو، لا مصلحة الطرف المفاوض. إنه عنيد في مطالبه، عنيد في نقاشاته، عنيد حتى في ذوقه، متفنن وبارع في مراوغاته وتقلباته المزاجية، الأمر الذي لا يتمتع به المفاوض العربي، لكونه مهزوزًا في عقيدته، مضطربًا في مناقشاته، وغير مؤمن بفكرته. حيث إنه ينطلق من فرضية تتمحور حول عدم الثقة في النفس، وأن الطرف الآخر له من القوة السياسية والاقتصادية، والمساندة الدولية الصريحة ما يجعل موقفه دائمًا لا تسري عليه القوة التي تفرضها الشروط الإلزامية لمقتضيات وبنود التعاقد.

واقعة “حمارة خالتي” هي في الحقيقة رسالة بنيوية بها مجموعة من الإشارات التي تستدعي من العالم العربي اتخاذ المزيد من التأمل، والمزيد من التريث، فضلاً عن مراجعات كثيرة لها أبعاد يصعب فهمها إلا من خلال ربط الوقائع والأحداث التاريخية السابقة مع بعضها البعض، بهدف تكوين قناعة جدية بأن الطرف المفاوض الآخر لديه أفكار عقدية، وأنه ليس مستعدًا للتنازل عنها أو تغييرها.

وعلى مدار عقود، فإن كل الاتفاقيات المبرمة مع هذا العدو، كانت تتمحور حول تمكين الوجود اليهودي في المنطقة والقبول به سياسيًا واقتصاديًا، ولو أنه جسم غريب ثقافيًا.

  • مؤتمر مدريد للسلام 1991
  • اتفاقية أوسلو سبتمبر 1993
  • اتفاقية (بروتوكول) باريس 1994
  • اتفاق غزة أريحا 1994
  • اتفاقية طابا (أوسلو الثانية) 1995
  • بروتوكول إعادة الانتشار (الخليل) 1997
  • مذكرة واي ريفر (بلانتيشن) 1998
  • اتفاق واي ريفر الثاني 1999
  • اتفاقية المعابر 2005

فالمفاوض (المتعنت) الآخر يتميز بخاصية الرحمة والإنسانية، حيث يترك للمفاوض العربي هامشًا من المرونة للحوار وللاختيار في مناقشة مجموعة من بنود الاتفاقيات التي أُبرمت معه منذ (معسكر داوود) بين مصر وإسرائيل، والتي هي بالطبع تسعى إلى تحقيق المصالح اليهودية، وما على العرب إلا الرضوخ والاستسلام والتنازل.

المفارقة العجيبة هي كون المفاوض العدو لديه شرط وحيد ودائم يمكن إعداده ضمن العمل الإنساني، وفسحة ديمقراطية يتركها للآخر، أي المفاوض العربي، وهي كالتالي: والفسحة تقول بأن المفاوض العربي له كل الصلاحية في اختيار اللون الذي يريده، شريطة أن يكون اللون أسودًا.

الكاتب عبدالسلام اضريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *