حكايا من القرايا ّ ل أ. عمر عبد الرحمن نمر

“لا نستطيع تخيل درجة شقائهم… لأننا لم نعش أوقاتهم!
أم سالم ترمّلت صغيرة بالسن، عاش معها أبو سالم خمس سنين، وترك لها سالماً وسلمى، ورحل… كثيرون من تطوعوا للزواج من أم سالم، على رأيهم من أجل رعايتها، وتربية يتيميْها، لكنها كان ترفض الزواج بعد أبي سالم، وتصر على تربية سالم وسلمى… ما أعظمك أيتها المرأة! كانت ترفض أيضاً أي نوع من الصدقة، وتعمل بيدها مياومة مع الناس، تزرع مع هذا، وتقلع مع ذاك… تطبخ في هذا العرس، وتخيط الملابس على ماكينتها القديمة، وتكسب أجرتها بشرف… وكانت تدخر المال كي تحقق حلماً طالما راودها حتى وزوجها حي يرزق، أن يكون لها قطعة أرض، تزرعها بالأشجار، وتفلحها، وتتسبب من ريعها… كانت أراضي المرحوم كلها في اللد… تركها مع عائلته وهجّر مع من هجّروا، ورحل عن الدنيا ولم يترك شبر أرض لعائلته…


في الشتاء، وعندما يكثر الخير البريّ في الأرض، كان يكثر نشاط أم سالم في الجبال الوعرة، والحبايل البور، تبحث عما تيسّر لها ممّا تنبت الأرض من اللوف، والزعمطوط، واللسينة، والزعتر … تملأ أكياسها، وتعود بها إلى البيت، حيث تقوم بترتيب ما جنت، وتصفيطه، وفي الصباح الباكر تحمل الكيس على رأسها، ثلاثة كيلومترات، تنتظر الباص، هناك تحت المشمشة الكبيرة، وما أن يأتي، حتى ينزل (الكونترون) ويُحمّل الكيس على ظهر الباص، وتركب أم سالم إلى حسبة الخضار في المدينة تبيع إنتاجها… وتشتري الهريسة لسالم، وتشتري ما أمر به سالم وسلمى… كانت تدللهما، وتحثهما دائما على الدراسة، فهي تريد منهما أن يكونا طبيبين، سالم طبيب للقلب، وسلمى طبيبة نسائية…
وصلت المدينة، وتوقف الباص في مجمّعه، ونزلت أم سالم منه، لتنزل كيسها عن ظهره، وتحمله على رأسها… صعد (الكونترون) ظهر الباص، ويا للهول! بل يا للمأساة! لم يجد كيس أم سالم… أين طار الكيس؟ وهو الذي ربطه وشد الحبل عليه؟ ما عساه يقول لها؟ وهي تنتظر كيسها أسفل الباص؟ ولكن لا بد من إبلاغها أولاً عن آخر… – أم سالم… لم أجد الكيس… كيسك طار في الهواء… ردّت متلعثمة – كأنها تحاول الفهم- كيسي؟ طار؟ راح؟ – طار، يا أم سالم… وتناول محفظته ليعوّضها ثمن محتويات الكيس…


قالت أم سالم، كل عوض حرام يا بنيّي… يعوضني الله، وجلست على كرسي قش قديم في موقف الباصات… تفكر: كيف ستشتري الحلوى لسالم، وحقيبة المدرسة لسلمى… ماذا ستقول لهما… لو كانت تدري لاحتاطت بقليل من المال من جارور التوفير، لكنها اعتمدت على بيع المحصول، وها هو بيع المحصول طار في الهواء… أصرت ألا تسقط الدموع على خدّيها… طول عمرها قوية… ولا تُري ضعفها إلا لخالقها… فسقطت الدموع في روحها…
وجاء من أقصى كراج الباصات رجل يسعى… يحمل كيساً بين يديه… قال إن الباص رماه، وكان في سيارته خلف الباص فالتقطه وأتى به… ما أقرب فرج الله! قالت: مال الغلابى ما بظيع… مال اليتامى يحفظه الله… استلمه (الكنترون) من فاعل الخير، وشكره، وناوله لأم سالم… نظرت أم سالم في الرجل، وقالت له: سأضع لك (حيلوان) البشرى عند (الكنترون)… بعد بيعي الكيس في الحسبة… تعال وخذ حصتك… أيها الرجل الشريف… وحملت كيسها إلى الحسبة… وهي شامخة الراس، تشتم روائح الزعتر واللوف البرّي الخيّر… والدنيا كلها لا تتسع لفرحتها…

أ. عمر عبدالرحمن نمر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *