قراءة لنص رسالتي إليك ..يا أنت
للأديبة السورية / حنان يوسف أسعد
النص
رسالتي إليك يا…..أنتَ
بمَ أستجيرُ لأستظلَّ من لهيب لعناتكَ التي تجلدُ أحلامي بلا رحمة؟؟ و رمادُكَ الذي تذروهُ في في عينيّ، هل عساه ينفعُ لإعادة الصفاء لدَمعٍ استوطن فيهما وطابت له الإقامة دون ترحال؟؟..ازدحامُ أسئلةٍ يقطعُ كلَّ سبيلٍ للخروج من دائرة الضياع، و تبقى الكلماتُ لا تنفكُّ تتهافتُ إليّ كالفَراشِ حول اللهيب، تُدمِنُ الزجرَ و السُّخطَ، و لا ترضى إلا ان تُقالَ أو يضمُّها السطرُ و لو بغير رضى..
و ها الليلُ قد أطفأ آخرَ ضوءٍ في عينَي السماءِ، و ما انطفأ السهدُ في عينَي قلبي..لكن يبدو أن ثورة الروحِ – بعد كل هذا الصراع الذي لا ينتهي معك- قد وضعتْ أوزارها، و أخمدَها الصقيعُ المتراكم منذ قرون..و الحقّ أقول: إني لا أعلمُ سرَّ هذا السكونِ الذي بات يلفُّ أعماقي و يمضغُ مابقي من ذكريات..لعلها الوحشةُ التي اعتدتُ برودتها و أصبحتُ و إياها كياناً واحداً، و لعلها الدهشةُ التي أسبلتْ غشاوتها على عينيّ- الدهشة منكَ ومن رأسكَ اليابس الذي يتركني أتساءلُ بعد كلّ مرةٍ أُضمّدُ فيها جراحَ معركتي معك: لماذا عليَّ أن أحاورَ رجلاً لا يفقهُ ما أقولُ و لا أخضعُ لرغباته..؟؟ أتكلمُ فتتكلمُ معي في آنٍ واحد، أرفع صوتي فتزيدُ حِدّةَ صوتك، أصرخُ فتنفجرُ في وجهي كبُركانٍ حاقدٍ على الأرض، أصمتُ فتجلدني لعناتُكَ، و أصبرُ فتزيدُ سخطك و تختالُ ضاحكاً….! فأبقى ذلك الحلمَ الذي حُرِّمَ عليه الاستيقاظ، و التشوُّقَ الذي يتطايرُ مع رمال الصحراء حتى يفقد نداوَته ويصبحَ له وجعٌ جديدٌ يقضُّ مضجع الروح بشَوكهِ الجافّ..و فوق كلّ هذا ..تأتيني لِتأملَ، و أحلُمَ..بأن تنتشلَ أو أنتشلَ من ترابِ الغربة بقايا قلبي الممزق؟؟
أعلمُ أنه من الحُمقِ أن أبقى أتخبّطُ في دروبِ ماضٍ عفا عليه الزمن، و من السذاجة أن أفتح ذراعيّ لحاضرٍ أو مستقبلٍ مجهولِ الأنواء..إنما لِأُنصِفَ نفسي منك، سأمنحُ ذاكرتي فُسحةً لتختصرَ الممكن و المستحيل، و سأعِدُّ عُدّتي لأغزُوَ آفاقاً لم تطأها قدم، فأُسرِّحَ فيها أنغام الحب وأحلامَ الولادة.
لِأنينِ النوائبِ المُنصبّة منكَ فِيَّ هزَّةٌ تُوقظُ التحدي في الأفكار المتبلّدةِ الهائمة بلا هدى، حيث أصبحت الحروفُ تترصّدُ المواقع الأكثر إثارة و رِفعةً لتجلُوَ عنها صدأ الخوف المُعتّق في الحنايا، و بات رقيبُ الحِسّ أكثرَ رهافةً ليستشعرَ أدقّ الاهتزازات في زلزال المشاعر المتسربلة بالغموض، المتشعّبة بلا نهاية، فيُوحّدُها لِتغزُوَ و تنتصر، فالهزيمةُ عارٌ مُحرّمٌ في عُرفِ دمي، و الدرب و إن بدا سراباً فلِزامٌ على خطوي أن يُنهكَ حصاهُ بوَطءٍ ثابت متطلّعٍ للانهاية..لكن..لا تكتملُ الأمور كما نريدها، فمهما حلمنا، ومهما حاولنا السعي بآمالنا، لا بدّ أن تُوقفنا الحياةُ لتطبعَ على ذاكرتنا لياليها السوداء بعد أن تسلبنا فُتاتَ الأفراح الهاربة عبر قضبان الزمن..و رغم هذا العصف المُشبَعِ بأوحالِ الكآبة..أهفو للحظةٍ يضمّها الحبّ فلا يُسعفني الوقت، و أحاول البحث عن حروفٍ تناسب ضياعي فلا تسعفني الكلمات،و أتحسسُ قلمي ؛إذ أخشى أن يغتاله العجزُ هو الآخر( و ليلي دونه حكايا منسية) ، فتغمرني الطمأنينة و أنا أشعر به يتقلّبُ بين أصابعي بتَوقٍ للكتابة، فأبدأُ، و أنتظرُ لمحةً، و لو لمحةً من رغبةٍ خرساءَ تتمنى صوتاً يُفصحُ عن مساربها..دون جدوى..! فأشعرُ أنّ وعودَك -بكلّ حضورها- كذبةٌ لا تُحتَمَل، و شِركٌ لا يُغتفر..فأصمّمُ على هدم سُرادقاتك المُشبعةِ بنزيف دمعي المتمرّغِ بأوجاع عتمتك حتى الثمالة، و لِأكسِرَ زيفَ الهالاتِ التي أُسبِغَتْ بسخاءٍ على خزي قلبي المستور، علّني أعودُ خلقاً آخر قبل أن يجفّ في عينيّ لون القمر، قبل أن تنحني هامةُ الوقت على صدر السفر..و ليت لي قدرة التصدي لاندفاعك ضدي منتحراً بلا شروط؛ إذ تأبى و لو بمحض الصدفةِ أن ترفع عن الحقيقة بُرقعها، فأقول لك: دعكَ من ترابي، لا تُهِلْ جنونه على أحقادك المعتّقة، فالأعاصير تبدأ رحلتها من ثناياه، و ها كُم حطامها مُنتثرٌ في ظاهر الكون و باطنه..فما حاجتُك لتُزلزلَ قلباً مابقي فيه الا الرماد؟؟!!
إنك تتجاهل ما أقول دوماً ، لتُفرغَ ما تريد، أينما تريد، و كيفما تريد..
أيامكَ، و الأسى المتموّجُ في ثنايا دقائقها تزفُّ لقلبي الخيبةَ هديةً لا ردّ لها..فتأتي الأيامُ إلي وكأنها لا تأتي، تقتصُّ للموت في داخلي، و تُحيي غربةً كم جاهدتُ للخلاص من آلامها المتجذّرة في روحي أبداً، تُباغتني المفاجآت على عجَلٍ و أنا الموصدةُ الأبواب، أحاول أن أبحث لها عن منفذٍ صغير.. بلا أمل..أتساءل عن معجزاتك و كأنني أهذي بالمُحال، و أعشق أن أتسربلَ بغموضه و آماله المؤجلة أبداً..
و تقطعُ تساؤلي بزَجركَ لي لأصمُتَ، لكنّ الأسئلة تستأنف رنينها دون توقف، تعصرُ آخر رمقٍ من ذاكرةٍ كاد يجحدها النسيان، تهزّ الصمتَ، تُجبره على الدوران في حلقة مفرغة دون اهتداء الى السكون، يُظلِم الليلُ و يُفيقُ الفجر ، يُجهِزُ الحرُّ على آخر خيطٍ للبرد، تتوسّدُ الشمس ظلال الغروب، ليُشرقَ سؤال يُحفّزُ حواسي المُنهكة، يُمطره سؤالٌ فسؤال..فتُذعنُ ذاكرتي و تسرد ثوانيها الماضية، فتمرُّ الحوادث على قلبي وكأنني لستُ مَن تمرّغَ بجنونها، تمرّ مُعلنةً حُمقها ؛ إذ نصّبت نفسها وسيطاً مابين المُحالِ و المُحال..
و يذوبُ الوقت وأنا أكتب لك..تستغيث ساعاته تحت وطأة المرارة التي يُفرزها الشعور المتمرغ بالحيرة، تكفرُ دقائقه بكل كلمةٍ أذعنتْ للسطر و توحّدتْ به..أُغلِقُ السؤالَ..لكنّ( بوابة جهنم) تُفتَحُ على فكري، تُقلّبه نيرانها، تحرقه، تتفنن في تعذيبه، و تعيد خلقه، فتكويه مرة أخرى، فيتمنى أن تحصل معجزة تصبّ في وَعيه رحيق الحياة..
لا أعلم ان كان حتى صدى كلماتي ينفذ الى سمعكَ الذي صممتهُ عني منذ زمن، و ماعادت لديّ الرغبة في انتظار حتى جواب، فربما لم أكتب إليك إلا لأنني أشتاق أرضاً أزرع بها أحزاني علّها تُزهر أفراحاً..فإذا ما متُّ دون كتابة وصية، فلتجعل أوراقي كفناً، و حروفي قبراً، و حبري ماءً يُرطّب جفاف تربتي كل صباح..و لا أطلب منك شيئاً..فأنا أقبل أن أحيا مجهولة بلا اسم يحتويني، أو عنوان يضمني، المهمّ..أن تعتقني، و تعتق أفكاراً للحبّ لطالما أردتُ لها أن تحيا..
…….
حنان أسعد/ سوريا
القراءة
(بمَ أستجيرُ لأستظلَّ من لهيب لعناتكَ التي تجلدُ أحلامي بلا رحمة؟؟ و رمادُكَ الذي تذروهُ في في عينيّ، هل عساه ينفعُ لإعادة الصفاء لدَمعٍ استوطن فيهما وطابت له الإقامة دون ترحال؟؟)
استهلال ولا أروع! لافت جاذب حد الغرق في أعماق الحروف، والحروف أمواج شجن عاتية تعصف بالفؤاد وتنثره ذرات في مهب ريحٍ عاصف.
استهلال أعده من أقوى المداخل السردية لسراديب النص؛ استهلال فتح الباب على مصراعيه، وشرّع النوافذ فما عادت تمنع شعاعاًا ولا تحجب دمعا.
استهلال كل جملة فيه نهر مشاعر شجينة يتدفق ماؤه من مآقي العيون ليصب هادرًا في شغاف قلب، قلبٌ يستجير من الوجع بوجع أشد، كالمستجير من الرمضاء بالنار..أي جمراتٍ تلك يا سيدتي أسكنتينيها قلوبنا، فباتت مثلك ترجو خلاصًا ولا تسعى إليه، ننسى الذكري بالذكرى، نفرغ مخيلتنا منها لنفسح لها مجالًا أوسع، كانت تعيث في أروقة أدمغتنا، وصارت تعيش واقعنا!
أنه الوهم حين يتجسد حقيقة، نحن صناع الحزن والألم والندم، نبدعه ونتفنن في صياغته، ونبث فيه من أرواحنا شجنا، ونرويه دمعا، ونرعاه عمرا، فيصير فينا ماردا، ونصير فيه رمادا!..أعشاقٌ نحن وأنت عاشقة!؟…نستلذ الألم ونستأنس الذكريات.
( وها الليلُ قد أطفأ آخرَ ضوءٍ في عينَي السماءِ، و ما انطفأ السهدُ في عينَي قلبي..)…يا الله !…خسف القمر وانطفأت النجوم وغابت الشهب والنيازك، فاستحالت السماء – على اتساعها سوادا، لكن السهد – بناره – لا بزال متأججًا في عينيّ قلبي، قلبي الذى أمسى أتونًا، أتونٌ لا تحترق فيه الذكريات، بل تحرقه وتحيله رمادًا منثورا.
ذكريات حارقةٌ ماحقةٌ، لا تبقي ولا تذر!
(إني لا أعلمُ سرَّ هذا السكونِ الذي بات يلفُّ أعماقي و يمضغُ مابقي من ذكريات..) وهنا يتوقف اللهاث، وينحسر تدافع الذكريات، لتهدأ النفس ويبدأ التفكر العقلاني دورته متسائلًا ” لم كل هذا ؟ ” سكون مطبق وهدوء تام!..بعد ثورة روح وأنّات قلب وسهاد عيون، بعد الضياع في دائرة التيه الاسترجاعي المتداعي كحمم بركان؛ آن للبركان أن يخمد، آن للقلب أن يستفيق، هدوء هدوء هدوء، هذا هو العارض فما أسبابه يا ترى ؟
تجيبنا الكاتبة من فورها، فلا حاجة لها أن تضعنا في دوامة لا قاع لها، وي ! كأنها ترأف بنا من مشقة البحث عن أجوبة، وقد أرهقتنا من قبل بأناتها وأغرقتنا بدموعها.
.(لعلها الوحشةُ التي اعتدتُ برودتها و أصبحتُ و إياها كياناً واحداً، و لعلها الدهشةُ التي أسبلتْ غشاوتها على عينيّ)..
لعلها الوحشة ولعلها الدهشة..نعم لعلها كذلك، فاعتياد الألم يفقد الألم مفعوله؛ لا يؤلم، والغشاوة تحجب الرؤية السليمة، لذا فلا دوام لها وإن طالت فهى إلى زوال.
وتمضي بنا الكاتبة تعدد الأعراض ومسبباتها، ودواعيها ومبرراتها وسبلها للتغلب عليها والتخلص منها، وإيًا كانت نتيجة المحاولة، فلا مناص من المحاولة، وبدؤها في تحدي الذات أولًا ومن ثم تحدي الآخر، الذات والذات أولاً، فإن لم نكن نملك الإرادة الصلبة القوية لتحدي ذواتنا، فلا قبل لنا بتحدي الآخر ولا قدرة.
وللتحدي أدواته اللغوية المعبرة بقوة عنه، لذا نجد الكاتبة كفكفت دمعا، وأخمدت نارا، وأشعلت حماسة وأنبتت تصيما ( بات رقيبُ الحِسّ أكثرَ رهافةً ليستشعرَ أدقّ الاهتزازات في زلزال المشاعر المتسربلة بالغموض، المتشعّبة بلا نهاية، فيُوحّدُها لِتغزُوَ و تنتصر، فالهزيمةُ عارٌ مُحرّمٌ في عُرفِ دمي)…تلك أولى خطوات
التحدي ألا وهى الإيمان بالانتصار وقهر الهزيمة.
تلاه…(فأشعرُ أنّ وعودَك -بكلّ حضورها- كذبةٌ لا تُحتَمَل، و شِركٌ لا يُغتفر..فأصمّمُ على هدم سُرادقاتك المُشبعةِ بنزيف دمعي المتمرّغِ بأوجاع عتمتك حتى الثمالة، و لِأكسِرَ زيفَ الهالاتِ التي أُسبِغَتْ بسخاءٍ على خزي قلبي المستور، علّني أعودُ خلقاً آخر) ولكن!… ولكن هنا تعود بنا إلى سنة الحياة، وسنتها أنّ لكل شفاءٍ انتكاسة، ولكل ذهابٍ إياب، فالمشاعر ليست ملكنا نوظفها كيف نشاء وحيث نشاء ولمن نشاء، المشاعر تحكمنا فهى قدرنا شئنا أم أبينا، ومن ثم تنهي الكاتبة رسالتها إليه بأماني تؤمنه عليها إن هى غابت عن الوجود فتحقيقها وصيةٌ فليتحملها.
نص نثري ينتمي لأدب الرسلئل وإن تلامس وأدب الخاطرة.
نصٌ مفعم بالشجن والوجع ولن أبالغ إن قلت هو تراجيديا مكتنزة برغم اتساعها المشهود المسكون بالوجع وآهاته وأناته، تراجيديا لخصت مأساة قلب في بضعة أسطر، وكلمات قليلة، لكنها متخمة بالدموع، نابضة بالألم، فياضة بالمشاعر.
ما أصعب أن يصرخ القلب حين يعجز اللسان!
ما أقسى أن تبكي النظرات حين تجف المآقي!
الميزة الأعلى للنص تكمن في تنوع موجاته الصوتية المترددة بين علو كالصراخ وانخفاض كالسكون، وبينهما تتناوب النغمة الصوتية بين هدوء وهمس وشكوى ولوم وعتاب وتبكيت.
نصٌ نثرى أعده من الدرر النثرية لما حواه من صور بلاغية تبارت وسلاسة السرد ودفقه، أيهما يعلو الآخر!
كانت الفكرة النصية ” التحدي ” وكانت السردية ذاتها ” تحدي “، وإن انتكست بطلتها في مسعاها، فإن الكاتبة انتصرت في تحديها البلاغي والأدبي.
وعن البلاغة نورد ما يلي :
أبدعت الأديبة في استحداث الصور البلاغية بشتى أنواعها، وركزت أكثر على الكناية والاستعارة المكنية بشقيها( حذف المكنى أو حذف المكنى به) ولنر أمثلة على ذلك فيما يلي :
- بم أستجيرُ لأستظلَّ من لهيب لعناتكَ التي تجلدُ أحلامي بلا رحمة؟؟..
ازدحامُ أسئلةٍ يقطعُ كلَّ سبيلٍ للخروج من دائرة الضياع…صورة بلاغية مركبة - تُباغتني المفاجآت
يذوب الوقت
تستغيث ساعاته ….صورة بسيطة
وهكذا يمضي نولها غازلًا لنا العشرات من الصور البلاغية الجميلة القوية والمعبرة أيضا.
ومن المحسنات البلاغية التي حفل بها النص، مما حدا به أن يتماس وأطر قصيدة النثر.. - الزجر / السطر / الحر
- الليالي / الأيام، الشمس / الغروب / الأشراق
- الصمت / الصراخ ، الثورة / السكون
- أزرع /جفاف/ تزهر، أفراح/ أحزان، الحياة/ الموت، أحلام/ أنغام، تجاهل/ رقيب، ماء /دموع، ..، …، ..
نص شمل ( الكون/ السماء / الأرض / القبر / الحياة / الموت / الجحود/ الإخلاص/ التحدي/ النكوص، المشاعر، الذكريات، الندم والألم والعتاب، النار والماء، الهواء) كل ذلك في بضعة أسطر !!.
برااااااافو برافو برافو أ. حنان يوسف أسعد، لفتِ نظري واهتمامي بحسك النقدي المتفرد، وها أنت تذهليني بموهبتك السردية.
الأديب محمد البنا