من رحم “الوهم” خرجت ثلاثة أجنة مبتسرة ضمتها “هستريا”، تحكي جميعها اختلال الموازين وتكشف عوار الواقع. القصة الأولى في رواية “الوهم” للأديب “مدحت شنن”، والذي تردد صداه في قصتين اثنتين ضمتهما المجموعة القصصية “هستيريا”، للمؤلف نفسه.
القصة الأم في الرواية، يسردها الكاتب في الفصل الرابع عشر، والذي يستهله بقوله: “صراخ يزلزل القرية ويحيل ليلها الساكن إلى بركان لا يهدأ. وفرحة تقتحم حجرتي صارخة: سالم الصواف غرق”.
و”سالم الصواف” ابن البوسطجي “عطية الصواف”، أول دفعته في كلية الحقوق، مع تفوقه كان بارعًا في الرسم وعاشقًا للطبيعة. كان حلم حياته أن يلتحق بوظيفة وكيل نيابة، ولكن هذا الحلم تبدد لأنه ابن البوسطجي البسيط. وأمام هذا الرفض، تنهار الذات من الداخل، ويعيش “سالم” في قريته ميتًا، ظل يقاوم اليأس المتغلغل، حتى فنيت قواه وانحطت مقدرته. فيعمل نقاشًا، ومع جائحة “كورونا”، يقل العمل ويعجز عن سد رمقه ورمق أسرته، فيستجيب لمشورة البعض عليه بالسفر إلى الخارج ليبدأ حياة جديدة، ويعوض ما فاته، ولأن عقود العمل بالخارج تحتاج مبالغ طائلة، استدان وركب المركب الذي حوى المئات من أمثاله، الهاربين من الضياع، ولكن البحر ابتلعهم ووأد أحلامهم.
عانى الضياع حتى وجده البحر فابتلعه، ولكن الحقيقة أن “سالمًا” مات يوم مات حلمه، ولم تبق منه إلا ذكرى هشة ووريقات رسم اتخذتها العنكبوت عشًّا.
وفي قصة “إعلان وظيفة” من مجموعة هستيريا، يقابلنا المولود الأول الشرعي للقصة السابقة، حيث يعزف القاص على ذات الوتر الذي يتذبذب بين حلم البسطاء المشروع وانهياره على صخرة الواقع. وقد برع الكاتب في استهلال قصته بقوله “أغلق دكانه الصغير، بعد أن تأبط الجريدة”، إذ الخبر جاء في جريدة، أي أن الإعلان للعامة، وليس للخاصة، والمسابقة متاحة للجميع، وليس لفئة بعينها. وحيث إنه إعلان، فلم يتم تعيين أحد بعد، وإنما هناك اختبارات ومقابلات من يجتازها يكون مؤهلًا لتلك الوظيفة المعلن عنها. وقد أشار القاص للوظيفة إشارة ملغزة، فهي “تابعة للوزارة التي يقصدها الناس بحثًا عن حقوقهم”. ولهذه الإشارة صدى يتردد عبر النص، وتحديدًا في الختام “فحين يأمــن الكبار العقاب، سيفسدون وحينها سيذيقون الناس سوء العذاب”، مما يسمح للمفارقة أن تقوم بدورها، حين تفقد الأسماء هويتها، وتستبدل بها نقيضها.
القصة ترسم ملامح تلك الأسرة الصغيرة الحالمة، فالدكان الصغير، يحدد المستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسرة معًا، والابن أنهى دراسته منذ ثلاث سنوات، تنقل أثناءها “في أعمال يومية يوفر من ورائها جنيهات قليلة، يسد بها رمق بطون خاوية ينهبها الفقر”. لكنها كانت تقتات من بقايا الأمل الذي زادهم حماسة بهذا الإعلان عن وظائف شاغرة.
وتقابلهم أول عقبة، فالاختبارات في “القاهرة”، وهو من ساكني “البحيرة”، والاختبارات لن تنتهي في مقابلة واحدة، بل تحتاج إلى السفر أكثر من مرة. وليست المشكلة في السفر وإنما في تدبير نفقات ذلك السفر. ولحل هذه المشكلة يقترض الأب من أحد أصدقائه؛ لينفق ابنه على أسفاره. رفض الابن تحميل والده دينًا، كي لا يقع فريسة للمطالبة، ولكن الأب رد عليه بقوله: “لا تبالِ، فغدًا ستعوضها بخير وفير”. بعد أسبوعين أو تزيد من السفر والمقابلات والاختبارات، ” عــاد ينتظر النتيجة المقــرر ظهورها بعد أسبوع. يوم، يومان، ثلاثة … أســبوع، ظهــرت النتيجة خالية من اسمه” في حين قُبل “عطية الجمبلاطي قريب البيه الجمبلاطي الكبير”، والذي كانت النتيجة محسومة له من البداية.
نزيف من الداخل، دين متراكم، أمانٍ صارت وهمًا، وإرادة أذابتها العنصرية، وشعور باليأس أفضى بالشاب أن يعتزل الناس بعيدًا عن ذلك المستنقع.
ويلاحظ أن القصة خلت من اسم ذلك الشاب واسم أبيه، مما يمنحها اتساعًا يزيد من رقعتها لتشمل كل شاب مثله، وكل عائلة كعائلته، ممن يعيشون على هامش الحياة، ويتم سحقهم بلا رحمة أو هوادة تحت عجلات العنصرية.
المولود الثاني أو القصة الثالثة “امتياز بلا قيمة” والتي يستهلها بقوله “تعالت الزغاريد في منــزل مجاهد الكلاف، حين نجح ابنه منصور في الجامعة بتقدير امتياز مع مرتبة الشــرف”، بعد معاناةٌ مالية، تكبدتها الأسرة وقضت على مدخراتها.
الفرحة تجاوزت البيت لتشمل القرية كلها. الأب يذبح كبشًا كان قد نذره لهذا اليوم، والعمدة يأتي للتهنئة، والبيت البسيط يغص بالمهنئين.
الشخصية الرئيسة “منصور”، والذي كان يترقب الوظيفة التي حلُم بها، يفتح باب التقدم، جهز أوراقه، وارتدى بدلته المتواضعة، والتي اشتراها لذلك الغرض. لكنه يتلقى الصدمات الواحدة تلو الأخرى، الصدمة الأولى: أسئلة اللجنة والذين وصفهم بأن “أجفانهم منتفخة وعيونهم محتقنة متســمرة فــي الأوراق الموضوعة أمامهم، ومزاجهــم معتكرًا”. أما الأسئلة فهي “مختصرة، لا علاقة لها بتفاصيل الوظيفة، أو المعلومات المتعلقة بها”. وتشتد الأزمة حال انتظار النتيجة بين أمان مستحيلة وأحلام مشروعة، بين خيالات الرفض والتأسي بتفوقه.
وكانت الصدمة الثانية: “وقف أمام كشــف المقبولين ولم يكــن منهم … ســأل عن الســبب فكان الرد واضحًا بأنه غيــر لائق اجتماعيًّا”. شعر بالإخفاق والعجز عن قهر ذلك الحاجز العنصري وتحميه، والذي حرمه ـ بالرغم من تفوقه ـ من وظيفة “لا ينالها إلا أبناء الكبار”. وكحال المحتضر مر أمام مخيلته شريط حياته:
- تجاعيد وجه والده المغبر بلون التراب.
- تقلبه على جمر الحاجة ونار التهميش.
- تبدد الأمل وقتل الطموح غدرًا في معركة عنصرية.
هل يعود لقريته يجر ذيول الخيبة؟ وكيف يبلغ والديه بالنتيجة؟ حين عجز عن الإجابة، آثر عن واقعه المؤلم عالمًا آخر يعوضه عن جفاء دنياه؛ فرمى بنفسه يحتضن الماء، وهو يردد بصوت يقطع نياط القلوب: “منصور بن مجاهد الكلاف عمره ما هيكون بيه”. لتنتهي القصة بتلك المأساة، والتي فجرها الحدث المتتابع في خطوات يسلم بعض طرف الزمام لبعض.
لقد تباينت بدايات كل قصة ما بين “زغاريد” في قصة “امتياز بلا قيمة”، و”أمل” في قصة “إعلان وظيفة”، و”صراخ” في رواية “الوهم”. لكنَّ الشخصيات الثلاثة “منصور بن مجاهد الكلاف، وسالم بن عطية الصواف، وبطل القصة الثالثة والذي لم يسمه الكاتب، اتفقن جميعًا في النبوغ والتفوق وتحديدًا في كلية الحقوق، وهي ذات الكلية التي تخرج فيها المؤلف “مدحت شنن”، كذلك من محافظة “البحيرة” وهي التي استقبلت المؤلف بين ثراها وليدًا وشب فيها وفيه منها ملامح وذكريات وحياة. فهل كان المؤلف يسرد قصة تعرض لها، وأراد التخفي وراء أقنعة ثلاثة، كلما طاردته ذكرى أليمة نفثها على أوراقه ليخلق من نفثاته تلك الشخصيات على الورق، وبها بقايا عرقه ولهاثه وأمانيه وحلمه؟
تبدو القصص الثلاثة قصة واحدة بروايات ثلاثة، ولا يهمنا أي القصص الثلاثة أسبق، لأنها نفثة مكلوم أودعها الورق، وكلما عاوده شبح الذكرى نفث على الورق أوجاعه والتي تمخضت عن تلك القصص الثلاثة.
كما نلاحظ أن بعض الأسماء تطارد المؤلف وتلح عليه، فـ”عطية الصواف” في رواية “الوهم”، يأتي عرضًا باسم “عطية الكلاف” في قصة “سرادق عزاء من مجموعة “هستريا”. ويتكرر اسم “مجاهد” في كل من “امتياز بلا قيمة” و”المسنود”. ويلاحظ أن المؤلف يستعين بالأسماء التي تحمل في دلالتها طاقة إيحائية، تساعده في رسم ملامح الشخصية النفسية والصفات المكتسبة لها، مما يكثف من دلالة الاسم، والتي تقود الشخصية وهي تصنع الحدث، فاسم “مجاهد” يشير في دلالته المعجمية على مَن يبذل الروح والنفيس لمحاربة الأعداء، ولكن “مجاهدًا” في “امتياز بلا قيمة” لم يصمد ابنه “منصور” أمام صدمته من اختلال الموازين، فجاد بروحه التي لا تستقيم مع هذا الاختلال في الموازين، مما يجعل من اسم ” منصور” دالًا على النقيض، تمامًا كما نجد اسم “مجاهد” في قصة “المسنود”، جاء في مقابل اسم الشخصية المعادية “مسنود”، لتنهض مفارقة الاسم على التضاد، والذي يشي بالنهاية فيفقد “مجاهد” منصب المدير المؤهل له بمؤهلاته وخبراته، ليفوز به دون وجه حق المسنود من مسئول كبير. وكذلك اسم “عطية”، والذي يعني ما يُعطى بدون مقابل، ويصادفنا مرتين: الأولى في “الوهم” اسمًا لوالد “سالم”، والذي يعمل بوسطجيًّا، والثانية في “إعلان وظيفة” علمًا على “عطية الجمبلاطي” قريب البيه الجمبلاطي الكبير. “عطية” الأول لم يكن يملك وضعًا اجتماعيًّا يؤهل ولده للمنصب الذي سعى إليه، بينما “عطية” الثاني، كان متسلقًا، فوصل للوظيفة المرموقة بمساندة أحد الكبار.
في رواية “الوهم”، وللرواية من اسمها نصيب، تدخل القدر فالسفر وهم، كما أن الوظيفة كانت وهمًا. والقسوة الأشد في “امتياز بلا قيمة”، والتي أودت بحياة الشخصية الرئيسة، بينما تحتل قصة “إعلان وظيفة” المنطقة الوسطى من حيث مصير الشخصية، وإن تشابهت الحالات الثلاثة، في اليأس وفقدان الثقة والانعزال. فـ”سالم” في رواية “الوهم” لم ينتحر، ولكن “منصورًا” انتحر. “سالم” حاول أن يعدل مسار حياته بالسفر ليبدأ من جديد، و”منصور” اختصر الطريق واستسلم لليأس وانتحر. كلاهما مات ومات حلمه قبله.
وتتكرر مهنة “الكلاف”، وهو من يقوم بغاف الماشية وتربيتها، مرتين، الأولى في قصة “امتياز بلا قيمة”، والثانية في قصة “سرادق عزاء” بينما تأتي مهنة “الصواف”، وهو الذي يجمع أصواف الأغنام وبيعها. وهي مهن قديمة لها علاقة بالتعامل مع الحيوانات، تحدد لنا سمات تلك الأسر، والتي تأتي في مقابل أبناء (الباهاوات) ممن يتقلدون المناصب العليا، تؤهلهم مراكزهم الاجتماعية لذلك وإن تفوق عليهم أبناء الطبقة الدنيا من المجتمع.
إن بين القصص الثلاثة وشائج قربى، تكشف عوار الواقع، والذي لا يكف عن وأد أحلام البسطاء انتصارًا لأصحاب النفوذ والمال، وما بين غياب العدالة ووأد الأحلام عاشت شخصيات “مدحت شنن” في وهم دفعهم إلى حالة من الهستريا، طمست معالمهم بقسوة وإذلال.
د. سعيد محمد المنزلاوي