حين يكون للموت نكهة ل د. سعيد محمد المنزلاوي

في قصيدة “نكهة الموت” على وزن بحر الرمل، للشاعر (عبد الرحمن العشماوي)، يبدو الاغتراب داخل الوطن. يقول:

(نَكْهَةُ الْمَوْتِ هُنَا تَخْنِقُ صَدْرِي
 
 وَزَوَايَا مَنْزِلِي الْغَالِي رُكَامُ
دَمُ أُمِّي وَأَخِي يَرْسُمُ حَوْلِي صُورَةَ الرُّعْبِ، وَلِلْحُزْنِ ضِرَامُ
صُورَةٌ قَاتِمَةٌ أَبْصَرْتُمُوهَا وَعَلَى أَعْيُنِكُم مِنْهَا جَهَامُ
ربَّما “حَوْقَلَ” مِنْكُم مَنْ رَآهَا وَعَلَى شَاشَتِهِ مِنْهَا قَتَامُ
ثمَّ أرْخى طرفَه حينًا، فلمَّا سَكَنَتْ آلامُهُ لَذَّ المنَامُ
سَكَراتُ الموتِ تَشْتَدُّ أَمَامِي وَأَنِينُ الأمِّ فِي قَلْبِي سِهَامُ
وَأَخِي حَاوَلَ أَنْ يَنْطِقَ، لَكِنْ فَاضَتِ الرُّوحُ وَمَا تَمَّ الْكَلَامُ
كُلُّ شَيْءٍ هَاهنا صَار مُخِيفًا بَعْدَ أَنْ قَوَّضَ أَحْلَامِي الحِمَامُ
هَا هُنَا الْإِرْجَافُ وَالْغَدْرُ انتصارٌ وَهُنَا الْإِنْصَافُ وَالْعَدْلُ انْهِزَامُ
حَاصَرُونِي، وَأَخِي يَنْزِفُ عِنْدِي وَدَمُ الْأُمِّ عَلَى الْأَرْضِ سِجَامُ
وَبَقَايَا الدَّارِ سِرْدَابٌ مُخِيفٌ لَمْ يَعُدْ فِيهَا لِأَحْبَابِي مقَامُ
وَعَلَى نَاصِيَةِ الشَّارِعِ جَيْشٌ مِنْ قُرُودٍ، كُلُّ مَنْ فِيهِ لِئامُ)

(ديوان القدس أنتِ، عبد الرحمن العشماوي، ص207، وما بعدها) يأتي العنوان من متضايفين؛ أولهما كلمة “نكهة”، وهي في أصل وضعها تطلق على ريح الفم، (لسان العرب، ج13، ص550.) ثم استخدمت بمعنى مذاق أو طعم، (معجم اللغة العربية المعاصرة، مرجع سابق، ج3، ص2284) وهذ المعنى ملائم لإضافتها للموت، وهو ضد الحياة. وتهيمن على العنوان حاسة الشم مما يشعر بكثرة الموت وانتشار رائحته التي تزكم الأنوف.

وفي هذا النص يبدو العنوان ملغزًا؛ ولذا قدم الشاعر لقصيدته بمقدمة نثرية تمثل سردًا لقصة النص، قال فيها: “أمه وأخوه جثتان هامدتان، وهو يجلس بجوارهما يستنجد العالم، وبينه وبين العالم دبابات العدو الإسرائيلي تحاصر داره المتهدمة. لم يكن يطلب إلا أن يخرج من تلك الوحشة القاتلة بجوار جثتي أمه وأخيه، وأن يتمكن من دفنهما في قبرين صغيرين. ولكن صرخاته كانت تتلاشى أمام جبروت اليهود، وصمت العالم”. (ديوان القدس أنتِ، عبد الرحمن العشماوي، مصدر سابق، ص206)

ويلتقي السرد النثري مع السرد الشعري في كشف اللغز الذي يكتنف العنوان، ويلقي الضوء على العنوان ويحرره. كما تتضح قصة النص في تلك المقدمة، والتي قدم بها الشاعر لقصيدته، والتي ترجمت تلك الصورة المأساوية التي شاهدها العالم عبر وسائل الإعلام المختلفة. وهنا تتحرك العلاقة بين العنوان والنص السردي تحركًا عكسيًّا، إذ تبدأ من النص لنفهم دلالة العنوان.

ونكاد نشتم للمكان رائحة، من خلال الوصف الذي يقدمه الشاعر، والذي ينفتح ـ المكان ـ في القصيدة على ثنائية قطباها الوطن والاغتراب. ويتجاذب تلك الثنائية شعور حاد بالخذلان. وتسيطر نكهة الموت على أبيات القصيدة، عبر اسم الإشارة (هنا)، والذي يبدأ عندها الراوي سرد مآسيه، والتي أحدثتها يد العدوان؛ فقد أحالت منزله إلى ركام وحطام وإلى صور قاتمة تحيكها دماء أمه وأخيه. فقد حال الاستبداد بين المواطن الفلسطيني وبين شعوره بالانتماء لوطنه، فأمسى غريبًا فيه.

ومن خلال تقنية الوصف الذي يعتمد على طابع الثبات والاستقرار فيما هو مرئي؛ اتخذ الشاعر الجملة الاسمية في تجسيد الموت بشتى صوره: (نكهة الموت هنا تخنق صدري ـ دم أمي وأخي يرسم حولي ـ سكرات الموت تشتد أمامي ـ أخي ينزف عندي ـ دم الأم على الأرض سجام)؛ ليؤكد هذه الرؤية التي تتسم بالشعور بالاغتراب والقهر والإذلال. فالنص قد أُزكمت أبياته برائحة الموت، حيث ابتدأ منه وانتهى إليه:

(أَنَا لَا أَطْلُبُ مِن تُرْبَةِ أَرْضِي غَيْرَ قَبْرَيْنِ، فَهَلْ هَذَا حَرَامُ؟!
امْنَحُونِي حُفْرَةً، أَدْفِنُ أُمِّي وَأَخِي، فَالدَّفْنُ لِلْمَوْتَى لِزامُ)  

(ديوان القدس أنتِ، عبد الرحمن العشماوي، مصدر سابق، ص211)، يقدم الشاعر الزمن والمكان بوصفهما جزءًا من الحدث الذي يرصد حالة الحصار الإسرائيلي الوحشي الدامي؛ ليجتمع في القصيدة لونان من الاغتراب: الأول طغى فيه الشعور بالاغتراب الجغرافي المكاني على الشخصية الرئيسة في النص، والذي تسهم فيه مفردات المكان المتناثرة في النص في ترجمته إلى واقع فعلي يعانيه الفلسطيني على أرضه، ويمسي مطمحه من وطنه منحصرًا في حفرة ضيقة يواري فيها سوأة أمه وأخيه. والثاني سيطرت فيه مشاعر التمزق والتشرد وضياع الهوية والذات؛ فالاحتلال الغاشم أبى أن ينيله ما أراد، وأمسى في موطنه غريبًا عاجزًا مضطهدًا.   

وقد واءم الشاعر بين الموسيقا وبين السرد، فاصطفى بحر الرمل لما فيه من الأسى والأنين. ولذا تواترت في القافية مفردات دالة على الموت والضيم والضياع، نحو (ركام، ضرام، جهام، قتام، سهام، حمام، انهزام، سجام،..).

كما اصطفى لتجربته روي الميم، وهي حرف متوسط بين الجهر والشدة، والتي تلتقي الشفتان عند النطق به في ضمة شديدة طويلة تمثيلًا لواقعة الحصار المضروب عليه، ثم تخرج مضمومة فيما يشبه الصرخة.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *