***
لعل حراك الطلبة في الجامعات الامريكية قد أرهص بحالة واعدة، خرجت من بين براثن الدولة التي تصدّر الموت وتتحالف بشكل مسعور مع الاحتلال المُغتَصِب،ما يجعلنا نعوّل عليها ،باعتبارها صوتا وخطوة وخطابا، يوقظ النائمين،ويضغط على أصحاب الكارتيلات والمصالح المُرابية .. وتردف التظاهرات، في عواصم الدنيا، بزخمٍ يبعث فيها التواصل والحياة وقوة النفاذ.
والغريب أن ترى طلبة الغرب هم مَن ينتصر لنا ،في اللحظة التي يغيب فيها الشباب العربي،والفلسطيني خاصة، على رغم وجود عشرات التجمّعات الشبابية والجمعيات والمجالس الشبابية الفلسطينية وطلبة جامعاتنا،الذين ارتضوا أن يظلّوا على هامش الهامش،دون حضور أو صوت أو أثر.
صحيح أن فضاء الحرية في الغرب يغري بالحراك ويسهّله، في وقت تختنق فيه الحرية في الشوارع والجامعات العربية..لكن ذلك لا يبرر التقاعس والركون إلى ارتضاء الأمر الواقع.
ولماذا اُلحِف على الشباب بالذات؟
1_ قدرتهم على التواصل، واكتسابهم لجرعات كبيرة ونوعيّة من الوعي والمعرفة ( بفضل تطوّر التعليم وثورة الاتصالات ) ووصول الأفكار الإنسانية والقيم والمبادئ وأدبيات حقوق الإنسان إلى هذا الجيل ، الذي كان مهمّشاً حزبيا وسياسيا ،ومتروكاً للعبث والاستهلاك والإبهار.
2_ اصطدموا بجدران الانحياز الظالم،واكتشفوا أن أنظمتهم الفاسدة تنطق كالملائكة وتتصرّف كالشياطين ، وأن المؤسسات التعليمية مُستلَبة وتستثمر في الدم والاضطهاد ،ما راكم القناعة بانعدام الأمل بوجود هؤلاء المتحكّمين وبتحالفاتهم المشبوهة، التي تظاهر القتل وتصطفّ مع الإبادة ومفرداتها وأشكالها ومَن وراءها،ما يثير اليأس ويهدّد المستقبل .
3_ أدركوا أن المؤسسة الرسمية مُنافقة بإمتياز ، وتكذب وتبيع الأوهام وتوزّع الوعود ولديها معايير مختلفة حسب اللون والدين واللغة..أمام استباحة طالت كرامة الانسان ، وعرّضت مصالح البشرية للضياع والتبديد، ومكّنت أعداء القيم والشرائع منها . ودفعت الشعوب الضعيفة إلى المهانة والصَغَار والفناء، كما لم توفّر حياتَه وإنجازاته وأحلامه .
4- إن وقود الثورات الأكثر إشتعالاً كان من الفئات الإجتماعية غير المُؤَدْلَجة ، بمعنى أن الشباب بمعظمه.. هم غير مقيّدين بتعليمات وأوامر وفرمانات وتحديدات تهبط عليهم من مسؤولي الأحزاب والتنظيمات، هذا إذا توفّرت أصلا!والتي تغلب عليها شهواتها وتطلعاتها وتحالفاتها ، وهي عوامل تقيّد بالضرورة .
لهذه الأسباب مجتمعة ، وجد الشباب الغربي نفسه مدفوعاً لأن يخوض غمار هذه “الثورة”، لعلّه يستعيد الجدوى والإمكانية، ويتطلّع من جديد إلى فضاء يهجس لأنْ يكون أفضل له ولمستقبله، وهذا ما يوضح أسباب انخراط الشباب أكثر من غيرهم في هذا الحراك الذي راح يتّسع ويمتد،رغم مواجهته بالعنف والتهديدات والتشويه.إن التظاهرات في شوارع العالَم ،ومن ضمنها ثورة الطلبة ، تعتبر المساند الحقيقي النافذ والمؤثّر ، والذي ،وحده، سدّد فاتورة التوازن الحقوقي وحفظ القوانين، لتنكشف الغمّة والمجزرة، ويبزغ فجر جديد .
ومن نافل القول إن الشباب ، صاحب العنفوان والمغامرة ، يتمتّع بإمكانيات رشيقة أكثر من غيره في أي مجتمع، ذلك لأنّ الشباب أكثر قدرة على الاحتمال جسدياً و معنوياً، وليس لديه ما يخسره سوى القيود والقمع وتكميم الأفواه والتمويه . وحمولة الشباب خفيفة من حيث التَبِعات والمسؤوليات الأُسَرية والعائلية .
والمفارقة هنا أنّ الشباب العربي ، إلى حدّ كبير ، لم يستطع تجميع نفسه والإفادة من زخم قوّته ، وأرى أنهم ما زالوا في تِيهٍ وحيرة حتى الآن ! رغم أن هذا الحراك الطلابي هو الذي يتيح للشباب وغيرهم فرصة المشاركة والانخراط في هذه الاندفاعة السامية ،وليس ضروريا انتظار موافقة أولي الأمر للمشاركة والانخراط وإعلاء صوت الحق.
ويؤكد الكثيرون أن شعلة التمرّد التي تأجّجت لن تنطفئ ما دامت النار تحرق غزّة ، بمعنى أن “فيروس” الحراك الحميد سيبقى في جسد الحياة الغربية،وستكون له تداعياته الفاعلة..مستقبلا!
وهل يفيد التذكير بالثورة الطلابية الفرنسية في مايو1968،وما قام به الطلبة انتصارا لحقوقهم ومستقبلهم، وبعد أن فرضوا على حكومة بامبيدو مطالبهم المنصفة..رغم تخلّي العمال عنهم،لاحقا،ونزول الجيش إلى الشوارع؟
وهنا،ثمة غير سؤال يتقدّم نحو الشباب الفلسطيني والعربي، أوّلها، المناداة لتجيمع شتات أنفسهم وأمرهم، في بوتقة أو جبهة عريضة، تمكّنهم أكثر من لعب دورٍ أكبر وفعلي، في رسم صورة المستقبل، إضافة إلى أنّ خطاب الشباب لا ينبغي أن يظلّ تابعاً لخطاب آبائهم في الأحزاب أو الأندية والجبهات والحركات”الشكلانية”، ثم التركيز على حزمة مطالب كاملة تخصّ الشباب، بدل الإكتفاء ببعض الجُمَل والمواد الدستورية المجزوءة، التي تُعنى بالشباب وكأنها ترضِيَة لهم ، عدا عن سؤال مُلِحٍّ ، وهو: لماذا يرضى الشباب بالبقاء خلف الآباء السياسيين ،الذين ثبت عجزهم وبطلان خطابهم الهشّ ومنزوع المضمون؟
وأنا هنا لا أنتصر لنظرية “قَتْل الأب” لكنّي أُذَكّر بأمرين : هما أن النبي الكريم -عليه وعلى آله السلام- الذي قال بأنه نُصِر بالشباب ، بعد أن زرع فيهم الرسول القائد الثقة بالنفس وفجّر طاقاتهم الخلاّقة .. أكد على أن الأفضل هو الكبير وليس الكبير هو الأفضل .
ونذكّر الشباب بأنّ أهم وأطول وأنصع الثورات قام بها شباب لم يكملوا عقدهم الثالث أو ما شابه، بدءاً من ثورات أمريكا اللاتينية والوسطى، والثورة الفلسطينية وفيتنام وجنوب أفريقيا، وحتى ثورة الصين وغيرها !
والأمر الآخر هو أنّ عدم توحّد الشباب جعلهم مرؤوسين يتحكّم بهم المسؤول السياسي والأمني ،هذا أو ذاك ، ولو توحّد الشباب لأصبح القائد العجوز مرؤوساً .
ظلّ أن أقول إنّ الكثير من المآخذ قد يُدبّجها أصحاب المصالح الظالمة الذين ينتمون إلى الثورة المضادة فيعتبرون هذه الدعوة رِجْسا من عمل الشيطان، لكنّ الحقيقة هي أنّ الملائكة من البشر الأطهار،هم الذين اجترحوا هذه المعجزة الطلابية، التي ربّما يتمّ اعتراضها أو تلويثها أو يركبون موجاتها، لكنّ روحها لا تموت . وسنرى عمّا قريب، أنّ تلك البذرة، التي يحاول البعض أنْ يدفنها، تمور بمائها الساخن تحت التراب ، وأنّ الكثير من الحقائق لم تظهر بعد، فلننتظر لنتأكد ونُوقِن أنّ هذا الحراك مَوْجَةٌ كونيّة ثالثة، ستُغيّر وجهَ المستقبل ووجهته، نحو الشمس، والحقول الفتيّة المُطلقة.
د. المتوكل طه