إزاءَ استعصاءِ الحضارة الفلسطينيَّة، والتَّاريخ الفلسطينيِّ، والثَّقافة الفلسطينية، على جميع المحاولات التي بذلتها الحركة الصهيونيَّة، ومن ثم إسرائيل، لسرقتها، واستلابها وادِّعاء ملكيَّتها، وتهويدها وأسرلتها، لم يكنْ لكليهما أنْ تختارا أمراً يَعكسُ عجزهما الفادح، وخيبة أملهما المُذِلَّة، إزاء بسالة المقاومة الفلسطينية التي تواجهها، بتكاملٍ وشُمُول، إلَّا الانخراط المحموم من قبلهما معاً في عمليات إبادة جماعية للشَّعب الفلسطيني، وتدميرٍ شامل وكُلَّيٍّ لكل ما يمتُّ لهذه الحضارة الفلسطينيَّة والتاريخ الفلسطِينِيِّ والثقافة الفلسطينيَّة بصلة، لأنَّها هي ثالوثُ أعمدةُ البيت الفلسطيني، القويةُ الراسخةُ، وهي إلى ذلك حاميةُ الوجود الفلسطيني من السُّقوط في مهاوي العدم، وحافظةُ الهوية الوطنية الفلسطينية الإنسانية المتفتحة، والحائلة دون تعرض هذه الهُوِيَّة لأخطار التفكك والانهيار، والذًوبان والتلاشي، ومانعةُ السُّلوكَ الفلسطينيَّ المتجلي في خيارات عموم أفرادِ الشعب من الأخذ بالمبدأ السُّلوكي الانتقاميِّ القاضي بمواجهة التَّوحُّشِ البشريِّ الصهيونيِّ الإسرائيليِّ العُنصُريِّ الفَاشيِّ المُتَمادي، بتوحشٍ فلسطينيٍّ يُمَاثله!
على المستوى العسكري المُتَسَاوق، بطبيعة الحال، مع مكونات الوعي العنصري والمستويات السُّلوكيَّة الأخرى، لم يكن الخيار السُّلوكي الصهيوني الإسرائيلي إزاء فلسطين وشعبها إلا خياراً إرهابياً تَوَحُّشِيَّاً دائماً؛ ذلك أنه لم يكن إلا خياراً عنصرياً لا ينهض على شيء سوى الإمعان الإجراميِّ المُتَعَمَّدِ في اقترافِ شتى أنواع الجرائم التي تستهدف الإنسانية بأسرها وفي صلبها جرائم الإبادة الجماعية، والتَّطهير العرقيِّ، والحضاريِّ، والتاريخيِّ، والثقافي؛ أي الفتك الإبادي بالإنسان الفلسطيني والتدمير الكُلِّيِّ الشَّامل للمعالم الحضارية والتاريخية والثقافية الفلسطينية، وكأننا بإسرائيل توجِّه، عبر هذا الإمعان المتواصل في الإجرام التَّوَحُّشيِّ الذي ينتهك كل معيار إنسانيٍّ وعُرف وقانون، رسالةً إلى العالم بأسره، تقول فيها لكل قاطنيه من بني البشر، ما مؤداهُ أنَّ لا شَيءَ قد كان موجوداً في الوُجُود قبل شُرُوع إسرائيل في الوجودِ راهناً في أيِّ حَيِّزٍ من أحياز فلسطين، ومن ثمَّ في كُلِّ فلسطين، وأنَّ لا شَيءَ سيبقى موجودا في الوجود إنْ كففتم أيها البشر عن الإذعانِ لإرادتها الصهيوأمريكية القاضية باستبدالِ نفسها؛ أي “إسرائيل” الفاشية المتوحشة، استبدالاً كُلِّياً ونهائياً أبدياً، بـ”فلسطين” الإنْسَانِيَّة المُتَحَضِّرة، وبأي أوطانٍ وبلاد أخرى من بلاد العرب والشرق والعالم ستصل طائرات “جيش إسرائيل” سماواتها، أو ستطأُ أقدام “جنود إسرائيل”، المتحفزين للاستعمار والاستيطان والإبادة والتَّدمير، أراضيها، في مُقبل الزمن، لينتهي الأمر بألا يوجد موجود ذو كينونةٍ حقيقيََةٍ في الوجود إلا “إسرائيل”، وإلا من ستأذن هي بوجوده في الوجود لإشباع الغايات التي تريدها، ولأداء الوظائف التي تُحدِّدها، وعلى الشكل الذي ترتئيه، وفي الصِّيغة التي تريد، وللمدى الذي تُحَدِّده، وتكفلهُ! ألم يُعلن الصهيوني الفاشي الهِتلْريِّ المُتَوَحِّش بنيامين نتنياهو، عبر أكثر من منبر من منابر العالم، وبأكثر من صيغةٍ، وبلغة إنجليزية أمريكية اللَّكنَة، أن إسرائيل لن تتوقفَ عن تلوين العالم بالأزرق؛ لتكون هي العالم!!!
وما هذا الخيارُ، الناجِمُ الأخذُ به من قبل إسرائيل عن جسامة انكشافِ حقيقة الخرافات والأساطير والأكاذيب التي كَوَّنت الآيديولوجيا الخرقاء التي تأسست عليها، وعن افتضاحِ عنصريتها ولا إنسانِيَّتِهَا، وتوالي الخساراتِ الباهظةِ التي شرعت تُلِمُّ بها بفضلِ يقظة الوعي الإنساني الذي أشعلَ جذوات “انتفاضة إنسانيي العالم في وجه عنصريتها وتوحُّشِهَا” وذلك على نحو شرع يُنذرُ بنزعِ مخالبها، واقتلاع أنيابها، وتقليص هيمنتها، إلَّا الخيارُ التَّوَحُّشِيُّ الإِبَاديُّ التَّدميريُّ الكُلِّيُّ الشَّمْشُونيُّ الانتحاريُّ، الذي لجأتْ إليه، بدعمِ ومساندةِ صانعيها وحماتها من دول الغرب الأوروبيِّ الرأسماليِّ الاستعماريَّ المُتَوحِّشِ، وعلى رأسها “أمريكا”، إزاء ما أصابتهما به عملية “طُوفان الأقصى”، الوامضةُ الخاطِفَةُ، من صَدْمةٍ فاجِعَةٍ يبدو أنَّ الغُرور العُنصريَّ الصهيوني الإمبريالي قد حال دونهم وتوقُّعِ وُقوعها، أو دفعهم إلى استبعاد إمكانية وقوعها في مواجهة جيشٍ ظلُّوا يعتنقونَهُ، بغباءٍ وعماءٍ، ويُرَوِّجون في وعيِّ العالمِ المُسْتَهْدَفِ بالخداعِ والتَّضليل والتَّرويع، أُكذوبةَ أنهُ “جيشٌ عقائديٌّ لا يُقهر”!!!
غير أنَّ “إسرائيلَ” الرَّاهِنَةَ، ومهما تعاظم الدَّعمُ الماليُّ والعسكريُّ والسياسيُّ والقضائيُّ والدبلوماسيُّ والإعلاميُّ الذي تتلقاهُ من “أمريكا” ومن غيرها من حماتها الأوروبيين رافدي شراينها بالدَّمِ المسلوبِ من شرايين مواطنيها من دافعي الضَّرائبِ في بلدانهم، لن تَنجُو من عقابيل اللُّجوءِ المُستَمرِّ إلى الخيارِ الشَّمْشُونيُّ التَّوَحُّشِيِّ الفتَّاك، ذي الطابع الانتحاريِّ الناهض على مقولة: “بي وبأعدائي”؛ فقد أثبت التَّاريخ أنَّ تجاربَ التَّعالي العُنصريِّ، والاغترار بالقُوَّة الغاشمة، وإعْمَال التَّوحُّشِ العسكريِّ الأقصى، من قبل الغُزاةِ المُعْتَدين لكسبِ حروبهم الإجراميَّة وتحقيق ما يحسبونه نصراً في مواجهة المقاومة الباسلة التي تستهدفهم بها الشُّعوبُ المُعْتَدى عليها، قد انتهت، في أعمِّها الأغلب، بهزيمة المعتدين؛ ذلكَ أنَّ التَّوحُّشَ يفتكُّ بمُقْتَرفِيهِ من الوحوشِ البشريَّة، بقدر ما يفتك بالمُسْتَهدفِيَن به من قبلهم من الإنسانيين الأحرار.
ولعلَّ ما أصابَ الولايات المتحدة الأمريكية، راعية إسرائيل وحاميتها، من هزائم نكراء في أمريكا اللاتينية، وفي فيتنام، ولبنان، وأفغانستان، والعراق، وسوريا، ولبنان، وفي أماكن أخرى من العالم كانت جيوشُها المُدجَّجة بالتَّوحُّش الأقصى قد غزتها، لتنتهي بالهزيمة والاندحار، أو بالوقوع الدائم تحت وطأة الاستهداف من قبل قوى المقاومة الوطنية التَّحرُّرية الباسلة، أنْ تكون أمثلةً بارزةً على الخُلاصَة التي تقول إنَّ التَّوحُّشَ سلاحٌ فتَّاكٌ ذو حدِّين؛ فهو يجتزُّ رقابَ مُشْهِريِهِ فيما هو يفتكُ بالمُسْتَهْدَفِين َبه من قبلِهم.
وإنَّنا لنعلمُ يقيناً، إنَّ التَّوحُّشَ الأقصى خيارٌ انتحاريٌّ شَمْشُونِيٌّ تَوراتيٌّ عنصريٌّ بامتياز، وهو خيارٌ لم يكنْ للكيان الوظيفيِّ الإرهابي المُصْطنَعِ ، المُسَمَّى، “دولة إسرائيل”، إلا أنْ يُحَاكيَ صنائع بَطَلِهِ التَّوراتي الأسطوريِّ، ونموذجه الأعلى: “شمشون الجَبَّار”، في الأخذ به، وذلك وِفْقَ إملاءات ماهيَّة دولة الجيش هذه، وطبيعة وظائفها، وزائفِ وعيها الدِّيْني الخرافيِّ اللاهوتيِّ المُؤسْطَرِ والمُسَيَّس والمُؤَدلج، وانسجاماً مع دوافِع إيجادها العسكريِّ الاستعماريِّ القَمِيءِ، وغاياته السياسية والاقتصادية، أنْ تذهبَ إلى خيارٍ آخَرَ سواهُ، إزاءَ بسالة مُقاومة غزَّة وأهل غزَّة، وإزاء بساله فِلَسْطيِن كُلِّها وأهل فلسطين بأسرهم، ذلك لأنَّها مُنِيَتْ، برغم جبروتها العسكري منقطع النظير، بهزيمةٍ نكراءَ فَجَّرتْ كوامنَ غيظها، وحَسَدِهَا، وألهبتْ سَعَائِرَ حِقِْدهَا، وأسقطتْ أقنعتها، وكشفت هوانها العميق وعُمْقَ هشاشتها، وأشعلتْ جَذْواتِ القلق الوجودي المُهْلِك الذي لم يُفَارق كينونتها المُصْطنَعَة، ولم يكفَّ عن مواكبةِ وجُودها مُذْ نشأتها، وحتَّى هذه اللَّحظةِ من لحظات عُمْرها الافتراضيِّ الآيلِ، بلا ريبٍ، إلى انتهاءٍ وزوال!
وهكذا كان لأنياب إسرائيل العنصريَّة المتعالية المغرورة، ولمخالبِ تَوحُّشِهَا، ولأظلافِ جَشَعِهَا، ولِسَعَائرِ قلقها الوجوديِّ اللَّاهب، أنْ تُشعِلَ نِيْرانَ حربها العدوانية التَّوحُّشيَّة التَّدميريَّة الإباديَّة ضدَّ الشَّعْب الفلسطيني في قطاع غزة، وأنْ تَرسُمَ، على امتداد رقعة هذا القطاع، صورتها الحقيقية بوصفها كياناً وظيفيَّاً استعماريَّاً عُنْصُريَّا تَوَحُّشِيَّاً، منزوعَ الإنسانيَّة، وعديمَ الأخلاق، وذلك عبرَ الاستمرار، على مدى زمنِ هذه الحرب، في إسالة دماء الأطفال والنِّساءِ، وفي تمزيقِ أشلائهم، وإطفاء برائق عيونهم وعيون جميع أفراد أُسرهم، وفي تكثيرِ الضحايا من المدنيين الأبرياء، على نحو غير مسبوق في تواريخ الحُُروبِ الإجراميَّة الشَّعواء، قديماً وحديثا، حيثُ تجاوزت أعداد هؤلاء الضَّحايا مع مطلع يوم الأحد الموافق الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 2023، وهو اليوم الثَّمانين لاندلاع الحرب، العشرينَ ألفاً وأربعمائة وأربعة وعشرينَ شهيداً جُلُّهم من الأطفال والنِّساء (نحو 70%)، والأربعة وخمسين ألفاً وستة وثلاثين جريحاً ومصاباً، بينهم عدد غير قليل من ذوي الإصابات البالغة والمُرشَّحين لإعاقات دائمة، وذلك إضافةً إلى ما يربو على عشرة آلاف مفقود تحت الرُّكامِ سيكونُ أعمهم الأغلبِ، في ظل العجز شبه الكلِّي عن إنقاذهم تحت وطأة القصف المستمر، من الشُّهداء، وذلك بحسب إحصاء وزارة الصِّحة الفلسطينيَّة.
وليس لصورة إسرائيلِ كصورةٍ كاشِفةٍ عن حقيقتها التي لم تكفَّ للحظَةٍ عن السَّعْي لإخفائها، أنْ تَكْتَمِلَ إلَّا بوجود شتَّى تجلياتِ الحُطَام شبه الكُلِّيّ الذي آلَ قطاع غزة، بيد جيشِ الإرهابية المُعَادية للإنْسَانية: “إسرائيل”، إليه، حيثُ كان لاستهداف قَصْفِ الطائرات الحربيَّة الإسرائيليَّة العشوائيِّ الهمجيِّ جميعَ مخيمات اللُّجوء الإرغامِيِّ القسريِّ في هذا القطاع السَّاحلي الضَّيق من أرض فلسطين، كما جميع مدنه، وبلداته، وقراه، أنْ يُحيلها
جميعاً، وبلا أدنى استثناءٍ، إلى تجسُّداتٍ عيانيَّةٍ منظورةٍ لهذا الحُطامِ الكُلِّي، وكأننا، في واقعِ الحال، إزاء حرب تدميرٍ إسرائيليَّة شاملةٍ تطالُ الحَجرَ والشَّجرِ، وتتلاقى، على نحو فظائعيٍّ مرعبٍ، مع حرب إبادة إسرائيلية جماعيَّة، كُلِّيَةٍ، وشاملَةٍ، تطالُ الأحياءَ جميعاً، وتستهدفُ الشَّعبَ الفلسطينيِّ في قطاع غزة بأسره، بالعقوبات الجماعية، والانتهاكات الجسيمة، وجرائم التَّطهير العرقيِّ!
وكأني بإسرائيلَ المأخوذة بالحرصِ على تجميل وجهها، ومتابعة تزييف صُورتها الإجرامية الحقيقة على نحو لا يظهر معه، في هذه الصُّورة القناعِيَّةِ الزَّائفة، إلا نقيضها الإنسانيِّ النبيل، قد تخلت، أو هي قد أُرْغِمت على أن تتخلى، عن كل ما كانت الحَركةُ الصهيونيَّةُ، وقوى الاستعمار الرأسماليِّ الأوروبي الأمريكي الغربي، قد اعتمدته من مرتكزاتِ إعلامٍ دعائيٍّ ترويجيٍّ معياريٍّ، يُرادُ له أن يتولَّى، كَإِعْلامٍ صُهيُونيٍّ عُنْصُريٍّ مُؤدْلَجٍ، تشكيلَ أقنعتها، ورسم تجليات صورتها ذات الملامح الإنسانية المُدَّعاةِ، والتي التهب السَّعْيُّ، التهاباً محموماً، لتضليل الرأي العام العالمي بها، على مدى يربو على الثلاثة أرباع قرنٍ من الزمان؛ فهل تُبْصِرُ “إسرائيل” صورتها الزَّائفة، المُجسَّدةَ في قناعٍ إنسانيٍّ؛ أم هي، في دخيلتها، لا تُفَارقِ حقيقتها، وجوهر هُوِيَّتِهَا؛ فلا ترى في الصُّورة القِنَاعِيَّةِ الأولى إلَّا النَّقيض الجَذري الصارخ لصورتها الماهَوِيَّة الهُوِيَّاتِيَّة الجوهريَّة التي تملأ كيانها، وتغمرُ وجودها، وتُحَدِّدُ خياراتها، وتملي سلوكها، بوصفها، “دولة عنصرية مُعَادية للإنسانيَّة”؛ وكأنَّ غاية القناع الإنساني المُلْقَى طوال الوقتِ على وجه عدوة الإنسانية “إسرائيل”، إنَّما تتركَّزُ في حرصها الدائم على تذكير نفسها بغاية إيجادها: إبادة الإنسانِيَّة، وسرقة الدُّنيا، واستلاب الوجود!
الكاتب عبد الرحمن بسيسو