دراسة للكاتبة سمية الإسماعيل لقصة: سيارة جاز للكاتب مجدي شعيشع

هل الفساد المجتمعي خُلق أصيل أم تداعيات ؟ هل يحق لنا الحكم على الأمور من ظواهرها؟

ما بين الانغماس في الواقعية، و الاتكاء على الموروث الثقافي ، يمخر الكاتب مجدي شعيشع غمار الحديث عن واقع الناس ومشاكلهم الحقيقية. والواقعية هنا لم يقصد بها استنساخ الواقع أو تقريره أو الحديث المباشر عنه ولكن تحويل مادته إلى عمل إبداعي يستطيع المشاهد أن يربط بسهولة بينه وبين الواقع الحقيقي.
بعبارة أخرى، هو اقباس جوهر متغيرات الواقع وإعادة هندسته جماليا

فهنا يسير الكاتب على خطى رواد الواقعية الأوروبية مثل تشارلز ديكنز في إنجلترا وإميل زولا في فرنسا. والتشابه هنا لا يشمل اللغة الأدبية أو جماليات السرد،فقط إنما المقصود هو قدرته على تحويل معاناة شخصية عامة وعميقة إلى نص أقرب ما يكون إلى black comedy أو بمعنى آخر الكوميديا السوداء.

*الفقر والظلم الاجتماعي:
تعكس أحداث القصة أحوال قرى الريف المصرى الغارقة فى معاناتها من الفقر والجوع والمرض والتهميش، ويطرح من خلالها صورة عاكسة لما تمثله معاناتها من بيئة مناسبة لانتشار الجهل والخرافة وتسطيح العقول والأفكار. فهي لا تقف عند حدود لقمة العيش، وإنما تتضمن أيضًا كل أصناف الجوع المعنوى إضافة للجوع المادي، كل هذا ينطبق تماماً على أسر القرية، وعلى عائلة ” حسن ” على وجه الخصوص، ” حسن ” لمعادل الموضوعي للفقر و التهميش و بالتالي الفساد الذي عم المجتمع نتيجة لهذا الفقر و التهميش.

الواقعية و الموروث
بتمازج ثريّ بين الواقعية و الخرافة، و الذي يبدع فيه كاتب الواقعية الأستاذ مجدي، استطاع أن يجعل من النصّ أكثر انغماسًا في حياة الريف المصري، و الشخصيّة الريفية المشبّعة بالخرافة و الذي يفرضها عليها هذا البعد عن المجتمع الحضري ، فتنتقل هذه الخرافة من الآباء إلى الأبناء لتصبح معتقدًا مسلمًا به.. و هذا أصعب ما كان يواجهه ” حسن” في سيره الليلي نحو سيارة الجاز، مقارنة بالجوع الذي التهم جسده النحيل.
“تزاحمت الخرافاتُ وحكاياتُ الرعب؛ يعيشها الآن حقيقةً، “
“‌‎ تقفز الأشباحُ على أكتافِ حسن، وتتراقص كالأفاعي، إن تحرك لدغته، وإن وقف نهشته، “

جدلية الكأس الفارغ نصفها!
بتطبيق هذه الجدلية على النص ، نستطيع دراسته من وجهتين مختلفتين. الأولى إذا كنّا أتباع النصف الفارغ سنتجه إلى النص و في أذهاننا التالي :

  • المدينة الفاسدة أو أدب المدينة الفاسدة أو ديستوبيا أو عالم الواقع المرير (بالإنجليزية: Dystopia):
    هكذا يصوّر لنا الكاتب هذه القرية الغارقة في الظلام و للظلام سيميائيته التي تشير إلى السواد، السواد الذي صُبغت به القلوب و النفوس، و ما ذاك إلّا انعكاسٌ للواقع المرير الذي كانت تعانيه تلك القرية، موضوع القصة، خاصة و الريف المصري عامةً. حيث نجد أن القريّة بأكملها قد تدافعت لسرقة الكاز الذي انسكب إثر انفجار إطار سيارة النقل التي تحمل خزان الجاز ، لم نجد صوتًا يستنكر ما يحدث: هكذا عبر الكاتب عن الموقف حين قال:
    “‌‎الظلامُ أضيقُ زنزانةٍ انفراديةٍ على وجه الأرضِ، يتساوى داخلَها الصالحُ والطالحُ، الكبيرُ والصغيرُ، “
    و كذلك…
    “الكلُ يحمل صفائحَ يغدون بها لخزانِ الوقودِ فارغةً، ويعودون بها ممتلئةً، والشُجاع من يكرر المحاولة.”

لكن لننظر إلى الجزء المليئ من الكأس الآن

و عند الحديث عن حسن:

“”‌‎دار حسنُ فى نفسِ المكانِ، حافيَ القدمينِ، ولم يصل إلى منبعِ الجازِ.
‌‎الخوفُ بنى لليأسِ تيهاً آخرَ استعمر عقلَهُ، وخارت عزيمتهُ، والجوعُ ينهش ماتبقى من قواه.”
في خضم هذا السّعار، كيف لطفل صغير ، جائع مسكون بالخوف أن يقارع هؤلاء الغيلان.. أجل هنا تسقط الدونكيشوتيّة و زمن الفرسان عندما يُصبح الفساد صفةً جمعيّة لمجتمع بأكمله. و تصبح طواحين الهواء صفعات تنهال على وجه الصغير من والدته لفشله في السباق المحموم لنيل أكبر قسطٍ من الجاز مع أنها تعرف أنه الأمر ما كان لينجح مع طفل صغير،
يقول الكاتب :

“وأمه تدرى، أن الغزلانَ و الأسود لا تجمعهما عين ماء، فإن شبعت سبحت فيما تبقى، حتى تُعكِر النهرَ..”
لم يُفلح ” حسن” في صراع الكبار، ليس لانتفاء صفة الفساد ، فها هو يتحصّن بدكان عطا فيمارس فيها ما لم يقو على فعله عند سيارة الجاز، يقول الكاتب:

” تسلل بين أقفاصِ الفاكهةِ، تحسس الأنواعَ الطازجةَ، اختار أطيبَها، غرس فيها أظافرَه وأنيابَه حتى شبع،”

أما إذا كنّا من أتباع النصف المليئ، فسنبحث عما لم يُفصح عنه الكاتب علانيةً و لا حتى تلميحًا…
لم يتحدّث الكاتب عن دور شيخ الجامع في هذه المعمعة.. و المتعارف عليه في القرى أن لشيخ الجامع سطوته، بما يمثله من مرجع ديني.. أين هو إذًا ؟

و من المعروف أيضًا أن الريف المصري قد صدّر للبلد علماء و قادة، فما كان دور العنصر المثقّف في ميت حديد مكان الحدث و ما كان موقفه؟
لنتخيّل الموقف؛ سيارة جاز تنقلب على الطريق الزراعية لبلدة تعتمد في عيشها على المنتج الزراعي، فيتسرب الجاز في الأرض ليفسد الزرع.. و ربما يتسرب إلى مياه السقي، فتشرب منه الأنعام،
و قد يأتيك جاهل فيُلقي بشعلة نارٍ بلا قصد فتشتعل السيارة و بالتالي الأراضي المجاورة.. كل ذلك قابل لمبدأ الاحتمالات التي بالتأكيد دفعت أهل القرية بما فيهم عناصرهم المثقفة و مرجعهم الديني-شيخ الجامع- إلى المشاركة في الحدث و نقل الجاز من السيارة.. و بالتالي تحقق هدفين، فرب ضارة نافعة:
الأول: إنارة القرية
الثاني: إنقاذ القرية من مشكلة بيئية قد لا تحمد عقباها.
إذًا قد تتحوّل البلدة ، وفقًا لوجهة النظر الإيجابية، إلى ” يوتوبيا” و ليس ” ديستوبيا”
الزمان و المكان:
هذا اللاعبان اللذان يشكلان قوامة العمل الأدبي عامة، و في قصتنا يحدد الكاتب الزمن عام 1970 و ما تلاها و ما تعرّضت له معظم بلداننا العربية تحت حكم الأنظمة الشمولية و التقسيمات الطبقية و بالتالي التقسيمات النفسية.. و إذا ما وضعنا القصّة ضمن السياق التاريخي للأحداث اوجدنا أنها تمثل حقبة تاريخية ممتدّة ، ربما إلى وقتنا الحاضر.
المكان: اختار الكاتب قريةً من قرى الريف المصري،و التي غالبًا ما تكون عروس قصصه، ميت حديد لتكون مركز الحدث، كدالٍ على مدلولٍ يشمل تلك المنطقة المهمّشة القابعة تحت نير الفقر و الجوع و الجهل، و سيطرة الخرافة على عقول الكبار و الصغار فيها، ثم لتمتد لتشمل كل ريفٍ عربي في ذاك الزمن.
الحدث ” انقلاب سيارة الجاز” كان رمزًا يقع خلفه سياقات تاريخية و اجتماعية و اقتصادية و حتى نفسية، دلت عليها سلوكيات شخصيّات القصّة المتحركة كالأشباح التي كنّا نشعر بحركتها دون رؤيتها، ليظهر لنا حسن و أمه كمعادل موضوعي للفقر و الجهل و الفساد معًا.

لقد تعرّض الأدباء لهذه المرحلة و تبعاتها على المجتمع قديمًا و حديثًا، غربًا و شرقًا، نراها في ” ألعاب الجوع ” ل سوزان كولينز The Hunger Games
و عند أحمد خالد توفيق” ممر الفئران” و كذلك نجد رواية دستوبيا للروائي والصحفي التونسي محمد بوكوم والتي تتحدث عن صراع أخلاقي واجتماعي وطبقي، وتسلط الضوء على فساد الدولة ومعاناة المهمشين في الأحياء الفقيرة.

الحبكة و المعالجة:
أتقن الاستاذ مجدي حبكته معتمدًا على تسليط أكبر حزمة من الضوء على ” حسن” ليرصد حركة الحدث و تطوّره و استطاع تقديم معالجة متفوّقة للفكرة و الحدث ، معتمدًا على السياقات التي وقفت خلفها، السياقات التاريخية، الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية و من ثم النفسية، ليقدم لنا طبقًا جمع كل هذا الخليط في نصٍ قد يبدو عاديًا لكنّه يغوص في عمق هذه السياقات.
تقنيات النص:
كما يقول تشيخوف،” القصة الجيدة هي القصة المنزوعة المقدمة”
بمشهديّة مميّزة، ما بين زمن الحاضر و الاسترجاع في زمن القصة، و ليس الزمن الخارجي للمرحلة ، استطاع الكاتب أن يزجّنا في الحدث ، دون مقدمات. و ذلك بحركة دورانية بدأها بخبر و أتمها بموقف كان بطلاه حسن و أمه.

اللغة:
اعتمد الكاتب على لغة بلاغية قويّة، استخدم فيها المحسنات البديعية من تشابيه و استعارات و مجاز.. ليعطي القصّة زخمًا أدبيًا بدا واضحًا و استشعره القارئ. أختار منها بعض الجمل:
“سقطت ستائرُ الظلامِ على البيوتِ، بعد انقطاعِ آخرِ خيوطِ الشمسِ، شهقةُ الرعبِ، ألحانٍ جنائزيةٍ، تصُم آذانَ الليلِ”
“يغوص بين المارةِ من حوله، ولا يرى أحداً، السماءُ تُسقِط كِسفاً سوداءَ، “
“تزاحموا على سيارةِ الجازِ زحامَ الماعزِ التي جفت أكبادُها على عينِ ماءٍ، “
و غيرها….

النهاية:
كانت جملة ” حسن” الأخيرة ذات إيحاءٍ قوي:
“‌‎- وجدت على جانبِ الطريقِ، سيارةً مقلوبةً، كانت محملةً بالبرتقال…”

فالجوع الذي كان يقضم أمعاءه جعله يحكي ما يطمح إليه لا ما رآه، بمعنى آخر.. تختصر جملة “حسن” الوضع المأساوي العام الذي كان يصوّره الكاتب في قصته، و الذي أساسه ” الجوع” بكل أشكاله.. الجوع للطعام، و الجوع للعيش الكريم و الجوع للمعرفة و الجوع للأمان.. و هذه قفلةٌ تختصر و تفسّر و تبهر.

النص
‌‎سيارة جاز
‌‎بقلم/ مجدي شعيشع – مصر
‌‎ دفعت أم حسن ابنها بوعاءٍ فارغٍ ليملأه جازاً ، من تلك السيارة المقلوبة على الطريق.
‌‎توعدته: لأذبحنك إن تأخرت!
‌‎ خرجَ من البيتِ، والنومُ يمتطيه، يتحسس جُدرانَ البيت، كقطٍ يأنسُ بصاحبه، لا تدري من منهما يستند على الآخر، يجرُ بقايا جسدِهِ الرخو، فى إحدى ليالي شتاء 1970، سقطت ستائرُ الظلامِ على البيوتِ، بعد انقطاعِ آخرِ خيوطِ الشمسِ، شهقةُ الرعبِ، ألحانٍ جنائزيةٍ، تصُم آذانَ الليلِ

‌‎ سكنت القرية، نباحُ الكلابِ الضالةِ، يفتت سكونَ الليلِ.

‌‎قبل أن يأوي الناسُ إلى فُرُشهم، انفجر إطارُ سيارةِ نقلٍ، فاستحال نباحُ الكلابِ عواء، وتحركت المياهُ الراكدةُ فى بِركةٍ الصمتِ.
‌‎انتشر صدى الحادثِ بين البيوتِ، انتشارَ النارِ في الهشيمِ، اختلط صريرُ الأبوابِ، بخشخشةِ النوافذِ، وارتفعت الهمهماتُ متسللةً بين الجدرانِ.

‌‎كانت السيارةُ محملةً بخزانِ جازٍ يكفي لإضاءةِ قريةٍ كبيرةٍ، بحجم قريةِ (ميت حديد).
‌‎حسن طفلٌ نحيل، فى الثانيةَ عشرةَ من عمرِهِ، يغوص بين المارةِ من حوله، ولا يرى أحداً، السماءُ تُسقِط كِسفاً سوداءَ، تتعلق على الحوائطِ والنوافذِ، لم يجد أمامه إلا المسجدَ إِسْتَجَارَ به، قضى حاجَتَه، توضأ، ثم صلى العشاء.

‌‎يتخبط الناسُ فى الطُرق كعميانٍ مغتربين، أصواتُهُم بالذكرِ والهمهماتِ تحدد المسافاتِ بينهم.

‌‎جفت قناديلِ القريةِ، إلا قِنديلَ المسجدِ الذي بدا شاحباً، كالمحتضرِ المتشبثِ بالحياة؛ تارةً يفتح إحدى عينيه المرتعشتين، وتارةً يتكوم ضوؤه فى ركنٍ قصيٍ من المسجدِ، يرتجف إن لفحته نسمة باردة، يتسلق جداراً باهتاً شاحباً تعلوه صُفرةٌ داكنةٌ، صفعهُ هواءٌ باردٌ، اخترق نافذةٍ متآكلة الجوانب، فسقط مغشياً عليه، ثم عاود النهوضَ بثباتٍ، منتصباً من جديد متحاملاً على الجدار، بعد أن أضاف إليه الجد قاسم مؤذنُ مسجدِ الوصيف بعض الماء، طفى الجاز؛ فانتعش الفتيلُ وانتصب الضوء مشتعلاً.

‌‎الخوفُ يُفقد حسنَ القدرةَ على المشي، تتخبط ساقاه.
‌‎غرِقت الطُرُقُ فى طوفانِ الظلامِ، واختنقت الحاراتُ فى وجه حسن، تزاحمت الخرافاتُ وحكاياتُ الرعب؛ يعيشها الآن حقيقةً، حبس أنفاسَهُ وثقُلت خطاه، مرةً يقرأ سورةً من القرآنِ، ومرةً يلعن الجازَ ومن يطلبه.

‌‎الظلامُ أضيقُ زنزانةٍ انفراديةٍ على وجه الأرضِ، يتساوى داخلَها الصالحُ والطالحُ، الكبيرُ والصغيرُ، خطواتُ حسن ثقيلةٌ محاصرةٌ بالرعبِ، مثبتةٌ بوتدٍ فى الأرضِ، أقصى أمنياتِه، أن تهمدَ التهيؤاتُ والوساوسُ، التي تنبح فى أذنية كالكلابِ الشرسةِ، حتى يخطو بضعَ خطواتٍ بسلام، لا شيء يدغدغ أسوارَ العتمةِ، غيرَ التقاءِ الناسِ على هدفٍ واحد، حُفرُ الشوارعِ تبتلع ساقيه المُرتجفتين، والكلابُ النائمةُ فى عرض الشارعِ، تنهش من يصطدم بها.

‌‎ تقفز الأشباحُ على أكتافِ حسن، وتتراقص كالأفاعي، إن تحرك لدغته، وإن وقف نهشته، لا يستطيع الإسراعَ، أو المشي ببطءٍ، يقتات الظلامُ من خفقاتِ قلبِهِ، وتختمر مياسمُ الأمنِ فى بتلاتِ الخوفِ.
‌‎ازدحمت الطرقاتُ بالملثمينَ، استباحوا فى الظلامِ ما يستبيحه قِطٌ جائعٌ تحت مائدةٍ متخمةٍ.

‌‎الكلُ يحمل صفائحَ يغدون بها لخزانِ الوقودِ فارغةً، ويعودون بها ممتلئةً، والشُجاع من يكرر المحاولة.
‌‎لم تُرفع الحدودُ في زمنِ المجاعةِ، فلما سقطت فى الرخاءِ؛ حلت المجاعةُ.
‌‎دار حسنُ فى نفسِ المكانِ، حافيَ القدمينِ، ولم يصل إلى منبعِ الجازِ.
‌‎الخوفُ بنى لليأسِ تيهاً آخرَ استعمر عقلَهُ، وخارت عزيمتهُ، والجوعُ ينهش ماتبقى من قواه.
‌‎تحصن بدكانِ عطا، المُحاطَ بأفرعِ الشجرِ وأجولةِ الخيشِ الفارغة، تسلل بين أقفاصِ الفاكهةِ، تحسس الأنواعَ الطازجةَ، اختار أطيبَها، غرس فيها أظافرَه وأنيابَه حتى شبع، هدأ خفقانُ قلبِه وتلاشى الفزعُ، أسند رأسَهُ على ضبابِ الليلِ، شَعُر بالأمانِ؛ فنام، فالشبعُ رسولُ النومِ.

‌‎ أسعف أهلُ القريةِ السائقَ واطمأنوا عليه، ونقلوه إلى مكانٍ آمنٍ، ثم حطوا على خزانِ الوقودِ كالجرادِ يحط على الأخضرِ واليابسِ، اغتصبوا حقاً لم يكن لهم، تزاحموا على سيارةِ الجازِ زحامَ الماعزِ التي جفت أكبادُها على عينِ ماءٍ، حتى سحبوا ما تبقى من الخزانِ، ابتلعته الصفائحُ، لتبتل فتائلِ القناديلِ؛ فحطموا الظلامَ، وعادت الحياةُ للشوارعِ متوهجةً تخترق الآفاقَ.

‌‎أزاحت خيوطُ الفجرِ عتمةَ الليلِ، وأمُ حسن تقضم أظافرَها بين خوفٍ ورجاء، حتى وصلَ ابنُها الضالُ يئن تحت ثقلِ الوعاءِ، والخيبةُ تثقل قدميه أكثر، يجرهما كالكسيحِ!
‌‎ساعدته جارتُهم، التي جاءت تهدئ من روعِ أمِه، سقط الوعاءُ بين يديها، لم تجد أمُه الجازَ.

‌‎سلم لها رقبتَه، تسليمَ اليائسِ من الحياةِ، لم يقوَ على حماية وجهَهُ النحيلِ من طواحينِ الهواءِ التي أهلكته…
‌‎وأمه تدرى، أن الغزلانَ و الأسود لا تجمعهما عين ماء، فإن شبعت سبحت فيما تبقى، حتى تُعكِر النهرَ، وحسن يترنح برأسه كالبندولِ.
‌‎صرخت بصوتها الخشن:
‌‎- فين الجاز ؟
‌‎رد بصوتٍ متهدجٍ من فرطِ الصفعاتِ التي طحنته:
‌‎- وجدت على جانبِ الطريقِ، سيارةً مقلوبةً، كانت محملةً بالبرتقال…
————
‌‎الجاز : هو الكيروسين مشتق من النفط، يستخدم للإضاءة.
‌‎

الكاتبة سمية الإسماعيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *