دراسة في قصة: إطلالة من نافذة السعير” للأديب سليم بوشخاشخ للكاتبة سمية الإسماعيل

إطلالة من نافذة السعير

بات يتكرر على مسامعها حديث والديها عن ضيق الحال و شح المال و ثقل الزمان و قساوة المكان، فقد شحت عليهم الأرض بالعطاء و امتنعت قطرات الفرج عن الهطول و تحصنت بغيمات أبت أن تتلبد، و اكتفت بالمرور لتطل على بؤسهم و تعاين شقاءهم من عل…


حتى العنزة التي تنفحهم قطرات حليبها و الكلب الأجرب القابع وراء الصخرة الجرداء بان عليهما الهزال و عسر الحال، فذبلت نظراتهما، و ثقلت حركاتهما، و برزت عظامهما، و تقوست ظهورهما تحت وطأة الجدب و العوز…
سمعت أمها تحدث أباها عما حدثتها إحدى بنات القرية، عن تلك المنقذة التي تنتشل بنات القرية من واقعهن البئيس و تزرعهن في بيوت ليست كالبيوت، بيوت مطلية بأحلى الألوان، سقوفها مزركشة، غرفها فسيحة، أثاثها باذخ، زرابيها مبثوثة، يحلو فيها العيش و يهنأ البال، و فوق كل هذا، ينال الأبوان مكافأة شهرية، تعينهم عل شظف العيش، و عسر ذات اليد، تسد رمق أطفالهم الجياع، تستر عورتهم و ترجع البسمة إلى وجوههم النحيلة التي نالت منها قسوة السنين…
لما فاتحتها أمها في الموضوع، كانت نظرة منها إلى الأرض و هزة من كتفيها علامتين على تفويضها أمر القرار لوالديها و تسليمها لما يرضيانه، كاتمة خوفها من المجهول الذي ستذهب له، و رهبتها من العالم السحري التي سمعت والديها يتحدثان عنه، و هي ذات الإحد عشر ربيعا، المتعلقة بحنان أبويها و أنس إخوتها الصغار و براءتهم الفواحة من تحت أسمالهم البالية، و الآخذة على الانطلاق في أرض الله الواسعة بقريتها رفقة قريناتها و الاستمتاع بألعابهن الطفولية مرة بالقفز على الحبل و أخرى بلعبة الغميضة و مرات بالثرثرة الطفولية البريئة حول أحلام لم تبلغ بعد سن النضج….
أمضت ليلتها متأرجحة بين الأحلام الوردية و الخوف من المجهول، في الصباح، حملت سقط متاعها و توجهت مع أمها للمدينة حيث أخذتهما رسول النجاح و المبشرة بالسعادة و الحبور و الفلاح إلى جنتها الموعودة، و لاقتهما بسيدة المجتمع الراقي ذات الحسب النبيل، و المهابة المبجلة، التي استقبلتهما في حديقة قصرها الغناء، تحت شجرة الجكرندا الشامخة، فوق بساط العشب الأخضر اليانع المدلل،
استقبلتهما بابتسامة عريضة مطمئنة الأم على ابنتها، و مذكرة ببعض القواعد التي لا بد من الالتزام بها، كمنع الزيارات، و عدم الإكثار من الاتصالات، لأن بنتها في أمان، و هي ذات الحظ الذي لم يحالف قريناتها و لم يبتسم لمن هن في حالها، رجعت الأم لقريتها و قد تركت قطعة منها، عزاؤها كلام السيدة المعسول، و بضع ورقات نقدية ستقبض مثلها أول كل شهر….


نظرت البنت الصغيرة إلى والدتها وهي تنحني لتقبل يد السيدة بعد أن قبضت ما قبضت، و تركتها تواجه مصيرها المجهول..
تجولت في قصرها الجديد رفقة سيدتها المهابة، و تعرفت على شتى الغرف الفسيحة و الصالونات المريحة، ذات الفراش الوثير و المتكإ الأثير، فضاءات ولا في الأحلام، استنشقت عبق المكان الزكي، و انشرحت لبحبوحة العيش التي ستنتشلها من ماضيها الأعجف، كما تعرفت عل سيد المكان، و ابنه و بنته اللذين ستشاركهما العيش في قصر الأميرات هذا و قطتهما المدللة التي تختلف تماما عن حيوانات قريتها التعساء،
لكن أحلامها الوردية سرعان ما تبددت عندما تعرفت على المكان المخصص لها في هذا النعيم، و هو عبارة عن مخزن صغير وراء المطبخ الضخم، أفرغ من صناديق الخضر ليحل مكانه فراش قديم أخذ كل المكان، و لم يتبق فيه متسع لحركة إنسان، جدرانه تفوح منها الرطوبة، تعلو أحدها فجوة صغيرة تشبه النافذة، بالكاد تسمح بمرور بعض الأشعة المحتشمة…….


أصبحت حياة الطفلة الصغيرة معروفة و متكررة، تصحو قبل الجمبع لتحضير الفطور و تقديمه للأسرة المبجلة، ثم غسيل صحون و كنس و ترتيب البيوت صباحا، فغسيل أوان، و نشر غسيل و ترتيب للملابس في الدولابات في الفترة المسائية…
لم تسلم من تعنيف و تقريع السيدة عند كل هفوة، لن تنسى يوم سقط من يديها الصغيرتين الصحن الثمين و تحول حطاما، التقريع و التعنيف الذي نالها من السيدة، التي غابت عنها الابتسامة من أول يوم استقبلتها و أمها، و تحولت لنظرات شزراء، تضمر الشر و الوعيد، و تهدد بالويل و الثبور….


بعد يوم من العمل المضني، الذي لا يفرغ إلا بعد غسل صحون العشاء، تستلقي على فراشها بركنها القصي، تستنجد بخيالها، تسافر إلى قريتها، تقبل يد أبيها و رأس أمها، تلاعب إخوتها الصغار، تطل على عنزتها و تسابق الريح مع كلبها الأجرب، تلاعب قريناتها و تعود سعيدة لبيتها البسيط،
طبعا لن تحكي لأمها عن معاناتها، و لن تطلب مغادرة هذا السجن الوثير، لأنها تعلم حاجة والديها إلى منحة آخر الشهر، تبكي في صمت و تكفكف دموعها بشموخ،
لن تقول لأمها أنها لم تسكن الجنة، إنما تطل عليها من نافذة السعير

*دراسة نقدية لقصة “إطلالة من نافذة السعير”

الفكرة


تسلّط القصّة الضوء على الهم الاجتماعي المنبثق عن سوء الوضع الاقتصادي الذي تعيشه الأسر في الريف المهمّش، ليصبح الأطفال- العمالة الرخيصة- البضاعة التي تُباع و تُشرى، الوقدة التي تحترق لتذكي النار. يدفع الأهالي بأطفالهم ليصبحوا خدمًا في بيوتات الأثرياء المنعمين، ظانين أنهم يدفعون بهم إلى الجنّة، بينما في الحقيقة يزجونهم في أتونٍ مستعر من الذل و الامتهان و الشقاء. سوق نخاسةٍ ، و النخاس هو تلك ” المنقذة” التي سمعت الفتاة أبويها يتحدثون عما تفعله :


” تلك المنقذة التي تنتشل بنات القرية من واقعهن البئيس و تزرعهن في بيوت ليست كالبيوت، بيوت مطلية بأحلى الألوان، سقوفها مزركشة، غرفها فسيحة، أثاثها باذخ، زرابيها مبثوثة، يحلو فيها العيش و يهنأ البال، و فوق كل هذا، ينال الأبوان مكافأة شهرية”


لقد تناول الكاتب ببراعةٍ التناقض بين الوعود المغرية التي تُمنح للفقراء من قبل ذوي الثراء وبين الواقع القاسي الذي يعيّشونهم فيه بعد ذلك.

الحبكة
اتسمت الحبكة بالبناء التدريجي للأحداث، حبكة كلاسيكيّة ، في خطٍ بيانيٍ متصاعد بدءًا من وصف الوضع المأسوي الذي تعيشه عائلة الطفلة فقرار إرسالها إلى ” الجنّة المنتظرة” ليتكشّف بعد ذلك زيف الوعد فتبدأ معاناة الطفلة ذات الأحد عشر ربيعًا فتهرب من كم الشقاء الذي تعانيه عبر أحلامها بعملية استرجاع تخيلي للقرية و لوالديها و الأقران و الماعز الوحيدة و حتى كلبها الأجرب، تعيش طفولتها المسلوبة في خيالها.


يعتمد الكاتب في تعزيز حبكته على الوصف المسترسل و ذلك من خلال إبراز حدّة التناقض بين غرف السادة الوثيرة و غرفتها التي لا تتعدّ مخزنًا ضيّقًا وضع فيه فراشٌ قديم مهترئ، ما بين حياة تعب و جهدٍ و بين براح القرية و اللعب الطفولي و السعادة التي كانت تعيشها رغم الفقر. تتصاعد وتيرة الحدث عندما يحتدم الصراع النفسي الداخلي للطفلة نتيجة ما تتعرّض له من إهانات و تعنيف ذكر الكاتب شاهدًا عليه عندما سقط منها الصحن الثمين و تحوّل حطامًا.. إنها السيدة:


” السيدة، التي غابت عنها الابتسامة من أول يوم استقبلتها و أمها، و تحولت لنظرات شزراء، تضمر الشر و الوعيد، و تهدد بالويل و الثبور…
.” لكنها لا تستطيع إلّا أن تعيشه حتى تضمن قوت ذويها و أخوتها، تعاني لكنها تبقى و تتحمّل يقول الكاتب :


“تبكي في صمت و تكفكف دموعها بشموخ، لن تقول لأمها أنها لم تسكن الجنة، إنما تطل عليها من نافذة السعير”

لقد ترك الكاتب النهاية مفتوحة لمزيدٍ من التخيّل عند القارئ للوضع المرير الذي تعيشه الطفلة و ليكرّس عبر هذا التخيّل البُعد المأساوي للقصّة.

الشخصيات


الطفلة الصغيرة: رمز البراءة المسفوحة. تتميز شخصيتها بالقوّة والصبر و الاحساس العميق بالمسؤوليّة على الرغم من صغر سنها، مما يعكس قسوة الواقع الذي يفوق طاقتها.
الأم والأب: يمثلان الآباء ، فئة مستضعفةً، يعيشون على ما تجود به السماء على أراضيهم، فإن أمسكت عاشوا الفاقة التي تدفعهم إلى بيع أطفالهم في سوق النخاسة عبيدًا تحت مسمى خدمًا في بيوت الأثرياء. مما يعكس حالة العجز والاستسلام.


المنقذة: -النخّاس العصري -التي تعد ذوي الأطفال بجنّة لأطفالهم و ما ترديهم إلّا سقر


السيدة الثريّة: تجسيد صارخٌ للقهر الطبقي والاستغلال المقنّع بالمظاهر.


السيد و الابن والابنة: يمثلون الطبقة التي تترفّع عن أن تهتم لتضحيات الفقراء، حتى إن كانوا أطفالًا، يتعالون عليهم دون اعتبار لمشاعرهم أو إنسانيتهم.

تقنيات السرد


الوصف التفصيلي: يتميز النص بوصف دقيق للأماكن (القرية والقصر) ولحالة الشخصيات، مما يعمّق إحساس القارئ بالمأساة.


المفارقة: استخدام المفارقة بين “الجنة الموعودة” و”السجن الوثير” يعزز من حدة الرسالة.


الاسترجاع: استحضار الطفلة لذكريات حياتها السابقة في القرية يزيد من إحساس القارئ بالتناقض بين الماضي والحاضر.

البعد النفسي


يتناول النص تأثير الاستغلال الذي يمارسه أصحاب الثراء على الحالة النفسيّة للفقراء. يصوّره الكاتب في وصف تأثيره كلٍ من الطفلة و الأم. فالطفلة تعيش حالة من القهر و بالتالي الصراع الداخلي بين حبها و حنينها لقريتها و عائلتها ورغبتها في العودة، وبين إحساسها بالعجز عن مواجهة الواقع يدفعها ذلك إحساسها بمسؤوليتها اتجاههم فتستسلم مرغمة لتعيش كل ما تتمناه في خيالها..


يمتدّ البعد النفسي أيضًا للأم، التي تعاني من ألم فراق ابنتها وشعور الذنب تجاهها، لكنها أيضًا تقف عاجزةً عن التغيير أو الرفض.

كثيرًا ما تصدّى الأدب لهذه القضايا المجتمعيّة عبر النتاجات الأدبية لعددٍ من الأدباء. فقد عشنا هذه الأحداث في “الأميرة الصغيرة” للكاتبة فرانسيس هودسون برنيت: التي صوّرت في روايتها الانتقال من الحياة الفقيرة إلى بيئة جديدة مليئة بالمظاهر الثرية، مع كشف الزيف الكامن وراء هذه البيئة.
كذلك “الأرض الطيبة” لبيرل باك: يشبه النص في تصوير بؤس الفقراء واستغلالهم من قبل الأغنياء.

“إطلالة من نافذة السعير” تقدم تجربة سردية تجمع بين المأساة والواقعية،و قد نجح الكاتب في إيصال رسالة إنسانية مؤثرة عن قسوة الفقر والاستغلال، مع إظهار الأثر النفسي والاجتماعي لهذه الظاهرة، هذا من ناحية، و من الناحية الأخرى تدعو القارئ للتفكر في مصير الفئات المهمشة في المجتمع.

تمتاز القصّة بالأسلوب الأدبي الراقي، اللغة السرديّة البسيطة سهلة التناول و التلقّي، لكنها تميل أحيانًا إلى الإطالة في الوصف، مما قد يبطئ الإيقاع السردي. النص يعبر بصدق عن قضية اجتماعية، دون تقديم حل أو نهاية واضحة، وهو ما يمكن اعتباره جزءًا من قوة النص في تسليط الضوء على الواقع القاسي، فليس من مهمّة الأدب تقديم الحلول، من وجهة نظري.

الكاتبة سمية الإسماعيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *