الأدب الساخر أمام قضيّة جدّية ثنائية “القبح و الجمال “
“من أي نجم سقط كل منا على الآخر؟”
بهذه العبارة الساحرة استهل الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه لقاءه مع الكاتبة لو سالومي تحت قبة كاتدرائية سان بيير في روما.
قرأت العبارة، فأحسست و كأن شخصيتنا صاحب الدلو يقولها عند اجتماعه بفتاة الدلو عند حاوية القمامة.. فالسخرية بالسخرية.. ألم يسرد علينا كاتبنا عبد الغني تلمم قصة بطله بطريقة ساخرة، و هذا ما تميّزت به أغلب قصصه بال “sarcasm “، السخرية من الواقع بشكل عام، و ها هو يستخدم أسلوبه الساخر في تعرّضه لمسألةٍ ليست بالبسيطة، هي جزءٌ من الأدواء الاجتماعية، كانت ” المرأة” هنا دائرتها.
يأتي الأسلوب في القصّة باستعمال “السخرية” وسيلة لتحقيق مطلوب الكاتب، فللأدب الساخر عمومًا هدفًا تصحيحيًا سواءً على المستوى الأخلاقي أو المستوى الجمالي، بقصد إحداث التغيير مجتمعيًا، و إن لم يبدو كذلك في ظاهره، و ذلك من خلال إثارة الضحكة أو الابتسامة على أقل تقدير، فالغاية عند الأديب الساخر تقرر الوسيلة وإن كانت لا تنفصل عنها للوصول إلى نقطة تنوير .فالسخرية أرقى ألوان الفكاهة، لأنها تحتاج خفة وذكاء.
و هنا نرى نقطة التنوير في سعي الكاتب إلى تكوين رأي عام اتجاه قضيةٍ مجتمعيةٍ هامةٍ؛ قضية “المرأة /الرجل” في تجميعة ظرفية ظريفة، عالج فيها الكاتب قضيّة “الجمال/ القبح” و ما يندرج تحتها كأنساقٍ مضمرة : الحكمة/ الغيرة/ الذكاء العاطفي، ..كلها تُضمنها في محتواها علاقة الرجل بالمرأة
وإذا كان بل ماكفارلان في كتابه القيم حول “إلقاء الفيل الزهري” يرى أن السخرية كالسيف البتار، وتلك هي السخرية المحضة، إلّا أننا هنا بصدد السخرية كـضغينة فنية محببة، والمفارقة في سلوك الشخصيّات تنبئ عنها. فبالكوميديا المستترة، والصدمة أو القسوة في المفارقة المحببة، جاءت الثيمة و هي موضوعية المقابلة بين “الجمال / القبح” في ظاهره و باطنه
يُقال أن: “المرأة الجميلة هي بستان الرجل / المرأة القبيحة هي جحيم الرجل”، والقبح متعدٍّ بطبعه و هذا ما ظهر في سلوك الزوجة اتجاه النادلة” فتاة الدلو” ، سلوك غير مبرر حتى و إن كانت مثاره الغيرة. و هنا يظهر لنا ما قاله الكاتب خالد أبو العيمة في كتابه ” الساخر في معجم المرأة” أن “المرأة القبيحة لا تكتفي بقبحها”، فهي تقوم بتصديره نكداً لأسرتها والمجتمع بأسره”. و هذا ما أورده عبد الغني تلمم في نصّه، توافقًا مع شخصيّة الزوجة.
“- إذن أنت هي فتاة القمامة التي صادفك زوجي أمام حاويات الأزبال. يجب الاعتراف أن عطرك مميز يا آنسة،”
ترمي بكل ثقل القبح الكامن فيها، قبحًا أخلاقيًا، حتى و إن كانت تتجمل بكل مساحيق الجمال أو ترتدي أغلى و أجمل الأردية.
أما الجمال و الذي مثّلته ” النادلة” فيبدأ من العقل ويستوطن القلب، فالجمال في الأساس ليس لذات الشخص، بقدر ما هو للآخر و الذي بدوره سيمنحك جمالًا مقابلًا. قد يبدأ الجمال ظاهريًا كما حدث مع بطل قصتنا، عند لقاءه بفتاة الدلو عند حاوية القمامة، يقول :
“من فرط جمالها خلتها لو لمست حاوية الأزبال بيديها لغدت مزهرية ورد وأزهار. “
و إن كان الوضع يدعو للسخرية و الضحك في بدايته، ليصبح همّه أن يجمع ما يستطيع من القمامة ليباهي قمامتها
“خذلني دلوي اللعين. لحظتها تمنيت لو أن لي كل أزبال الحي لأفاخر بها أمام ذات الدلو البهيج”
أنضحك أم نتعجّب !!
يسير السرد على هذا المنوال في انتظار عبثيّ للبطل لفتاة الدلو علّها تظهر ثانيةً، و بحسٍ فكاهيٍ يزجّنا فيه في عملية الترقّب و الانتظار . ثم ماذا؟ يبدأ تساؤلنا
تكتمل سطور القصّة في المقهى ، في الثلث الأخير من النص لتعطينا الثيمة التي أرادها الكاتب، و ذلك عند معرفة الزوجة بحكاية زوجها مع فتاة الدلو التي أثارت اهتمامه من خلال أكياس قمامتها، لتجري محاكمة سريعة لكليهما، و تطلق رد فعلها الناريّ اتجاه النادلة و الذي أوردناه سابقًا، ردّ فعل دلّ على قبحها الداخلي المقنّع بالتجمّل ، مقابلةً مع ردّ فعل النادلة لذات الأمر، ردّ فعلٍ تكلل بصمت الحكماء، و لتلقي في نهايةِ الأمر قنبلتها المدويّة، عندما حاول الزوج الاعتذار:
“لتخفيف وقع تلك الإهانة القاسية عليها أخبرتها أني أيضا كنت أحمل دلو قمامة تلك الليلة.”
فأجابته: “و لا زلت” تقصد بذلك الزوجة
و كأننا في نهاية المطاف نصل لخلاصةٍ مفادها أن :
“المرأة جميلة بالقدر الذي يراه الرجل، وقبيحة بالقدر الذي تصنعه هي”.
تنويه :
إن موضوع المرأة خاصة في إطار الزواج قدمته كتب ساخرة كثيرة، منها “حواديت زوجية ساخنة” و”لعبة الست” لعاصم حنفي، اعترافات زوج” لعلي سالم، و و”السكوت من ذهب” لمجدي صابر، وغيرهم، ثم جاءت الكاتبة هالة فهمي فكتبت “في هجاء الزوجات”.
لا ننس توفيق الحكيم، و أنيس منصور أيضًا.
أفلاطون/ أرسطو /نيتشه / جان جاك روسو/ إيمانويل كانط/شوبنهاور/ جون لوك/ “هيجل، هيوم وفرويد، ديكارت، هوبز”، وغيرهم من كبار عقول الفلسفة الغربية، سخروا من المرأة وبقيت الصورة السوداء للمرأة على طول تاريخ الفلاسفة. باعتبار الرجل مصدر القوة، أما المرأة فهي مصدر العاطفة واللاعقلانية.
أعقّب فأقول ، هل كان إخبار الرجل لزوجته عن تلك النادلة يمت للعقلانية؟ أتساءل فقط. حتى نكون منصفين في حكمنا على الضفة الأخرى من القصّة..
تمتع النصّ بلغة سلسة سهلة لا تكلّف بلاغيّ فيها و هذا ما جعل النص أقرب للمتلقي و هذا يحسب للكاتب أراد به أن يجعل الاسترسال في القراءة الهدف الأول بدل الإنشغال إلى الصور و البلاغة المفرطة التي قد تشغل القارئ و تُفقد النص بهجته.
*ملاحظة: أهيب بالكاتب أن يهتم بالتشكيل لأن ذلك من أصول اللغة.. و الانتباه لحرف “الدال” الذي يضعه “ذال” مثل “غذت=غدت”
النص:
ذات الدلو البهيج
ذات ليلة قمت بإخراج القمامة -كعادتي- في دلوي الصغير نحو رأس الحي حيث حاويات الأزبال. قصدت مجمع الأزبال ثابت الخطى مزهوا بدليل الإثبات على إعالة عائلتي حتى لاحت لي شابة تسابقني للحاوية بدلو قمامة أكبر. حاولت أن أسبقها كي أفرغ دلوي وأرحل لكننا وصلنا في نفس اللحظة.
من فرط جمالها خلتها لو لمست حاوية الأزبال بيديها لغذت مزهرية ورد وأزهار. قدر الإمكان واريت دلوي المسكين وتركت الجميلة تسبقني فقامت بشق النفس رفع دلوها وأفرغته على دفعات.
اللعنة! وكأنها ليلة ثاني أيام العيد أو أن العالم يحتفل دوني؛ أكياس متنوعة من بقايا أطعمة وفواكه وأشياء أخرى تكاد تكون صالحة.
كانت ضربة موجعة لكبريائي أن ألفظ زبيلاتي المسكينة في لمح البصر أمام الفتاة التي بدت عليها علامات الإشفاق لحالي فأصبت بإحباط ليلي وسخ.
خذلني دلوي اللعين. لحظتها تمنيت لو أن لي كل أزبال الحي لأفاخر بها أمام ذات الدلو البهيج لكن هيهات.. رجعت أدباري وأنينه يصدح في يدي. آه يا صديقي حتى أنا أصبحت مثلك.. دلو آمال عفنة.
في الغد اقتنيت دلوا كبيرا مهابا يسر الناظرين وصرت كلما قصدت الحاويات أستزيد من الأزبال التي أصادفها كي أصل وأنا في كامل كبريائي وقيمتي.
حين أقترب من مجمع الأزبال أبطئ الخطى لأترصد فتاة الدلو البهيج، فلدي ثأر لا بد من أخذه. بذاك الدلو كنت أشبه بأحد الوكلاء المعتمدين مني إلى ذي قمامة منزل.
مضت بضع ليالي ودلوي الجديد يحملني كل مساء لحاويات الأزبال، يهرق كبريائي وطموحاتي ويرجع بي للبيت وذكرى تلك الفتاة لا تفارقني حتى صادفناها أنا وزوجتي في مطعم وسط المدينة حيث تعمل ناذلة به. استقبلتنا بلباقة ومدتنا بقائمة المأكولات. يا للمفاجأة! وأخيرا علمت لم قمامتها كانت بذاك التنوع.
أثناء الأمسية أخبرت زوجتي وهي تخلع معطفها المرقط من تكون الناذلة. الأضواء أخرجت الشابة من شرنقتها وبدت في شكلها الحقيقي، جميلة المحيا بتضاريس تكاد تزلزل الزوار لدرجة أن زوجتي التهمتها بنظراتها أكثر ما التهمت طبقها.
حين هممنا بالمغادرة توقفت زوجتي أمام الشابة الجميلة، تفحصتها مليا ثم قالت لها بنبرة مهينة:
- إذن أنت هي فتاة القمامة التي صادفك زوجي أمام حاويات الأزبال. يجب الاعتراف أن عطرك مميز يا آنسة، ثم هرعت إلى السيارة بعد أن قصفت المسكينة.
يا للموقف المحرج! حاولت -كعادتي-الاعتذار لكن الشابة كانت صامتة وكأنها تنصت لقلبها يتدحرج بداخلها. لتخفيف وقع تلك الإهانة القاسية عليها أخبرتها أني أيضا كنت أحمل دلو قمامة تلك الليلة.
لحظتها نظرت إلى زوجتي وقد أخذت مكانها في المركبة وبنبرة مواساة همست لي كلمتين اختزلت معاناة عشر سنوات:
ولا زلتٓ!!
عبد الغني تلمم
الكاتبة سمية الإسماعيل