دائرة
بَعْدَ أَنْ أَطَاحَتِ الْعَاصِفَةُ بِتَمْثَالِ الطَّاغِيَةِ فِي سَاحَةِ الْقَرْيَةِ، تَجَمَّعَ النَّاسُ حَوْلَ الْقَاعِدَةِ الْخَرَسَانِيَّةِ الْفَارِغَةِ.
كَانَتْ أَيْدِيهِمْ تَعْمَلُ دُونَ كَلَلٍ، وَعُيُونُهُمْ تَلْمَعُ بِالْأَمَلِ، يُرَدِّدُونَ: «هَذَا سَيَكُونُ مُخْتَلِفًا!».
طِفْلٌ صَغِيرٌ يَسْأَلُ: «لِمَاذَا تَعْجِنُونَهُ مِنْ نَفْسِ الطِّينِ؟».
وَبَيْنَمَا كَانَ الْمَطَرُ يَغْسِلُ الصَّنَمَ الْجَدِيدَ…
القراءة
العنوان ، النصّ الموازي ” دائرة” و ما يحمله من دلالاتٍ تحفّزنا للدخول إلى المتن و استكشاف الرابط بينهما. تمثل الدائرة النموذج الأصلي للحركة والاستدامة التي لا نهاية ولا بداية لها، فاعتبرت بذلك رمزاً لإيقاع الحياة ودورتها وتناغمها، حيث تصبح نهاية مرحلةٍ ما بدايةً لمرحلة أخرى في تتابع لانهائي .فما علاقة العنوان بالنصّ؟
“دائرة”، نص قوي، مكثف، يعالج فكرة فلسفية عميقة بأسلوب رمزي محكم.
الطوطمية آفةٌ العصور..
في نصٍ للأستاذ نزار يعالج فيه الدائرة المغلقة للسلطة والاستبداد، حيث يتم استبدال الطاغية بآخر من نفس الطين، في إشارة إلى أن التغيير ليس جوهريًا، بل مجرد إعادة إنتاج للقمع بوجه مختلف. هذه فكرة الطوطم، حيث تستمر الجماعة في تقديس الرموز، حتى لو تغيرت أشكالها.
فالنصّ يعكس دورة الطغيان والتقديس الجمعي للسلطة، حتى بعد إسقاط الطاغية.فهو يستخدم المفارقة والسخرية الضمنية لتوضيح عبثية فكرة التغيير حين لا يكون جذريًا، هنا يمثّل الطفل الصوت الوحيد الذي يرى الحقيقة، لكنه يبقى معزولًا أمام الحشود الغافلة،
فيخرج بسؤاله عن السياق الجمعي، سؤالٌ بريئ لطفلٍ لم تُعتقل فطرته بعد، ” لماذا تعجنونه من نفس الطين؟”
سؤالٌ لا يستطيع الكبار طرحه، فقد جُبلوا على الخوف من جهة و استمراء العبودية . و هذا أمثولة حيّة لما صنعته الأنظمة الشموليّة في شعوبها.
ثم تأتي النهاية المفتوحة لتؤكد أن التاريخ يعيد نفسه بلا نهاية، في دائرة لا تنكسر.
إذا أردنا تأويل الجمل تباعًا حتى نستطيع استقراء ما تحمله من ذخائر المعنى لوجدنا:
“بَعْدَ أَنْ أَطَاحَتِ الْعَاصِفَةُ بِتَمْثَالِ الطَّاغِيَةِ “
فالعاصفة كعامل خارجي هي التي أحدثت الفعل لذلك نراهم يسارعون إلى نصب تمثالٍ آخر، فالمنظومة الفكريّة التي شكلها النظام القمعي، جعلتهم تحت وصاية هذا المقدّس الذي صنعوه بأيديهم. يقولون:
“هذا سيكون مختلفًا!”
هذه العبارة تعكس وهم التغيير، حيث يعتقد الناس أنهم يصنعون مستقبلًا جديدًا، لكنهم يكررون أخطاء الماضي دون وعي.
هذه الجملة تستخدم أسلوب التأكيد الجماعي، مما يشير إلى أن الناس يقنعون أنفسهم بهذا الاختلاف، رغم أن الواقع يثبت العكس.
فالمفارقة هنا أن القارئ يدرك، عبر السياق، أن الاختلاف لن يحدث، مما يخلق نوعًا من التضاد بين الأمل والواقع.
في حين يأتي سؤال الطفل: “لماذا تعجنونه من نفس الطين؟”
ليمثل البراءة والوعي الفطري الذي لم يتلوث بعد بالمفاهيم الجمعية الزائفة.
فسؤاله هذا يكشف الحقيقة التي لا يراها الكبار، أو لا يريدون الاعتراف بها: أنهم يعيدون صناعة الطاغية بنفس الأسس التي أسقطوا بها الطاغية الأول؛ أي “نفس الطين” و هذا رمز للمفاهيم والمعتقدات والسياسات التي تُنتج الاستبداد نفسه، حتى وإن اختلفت الأسماء والصور.
و الطفل، بعفويته، يكشف زيف العملية بأكملها، وهو الوحيد الذي يجرؤ على التساؤل، في حين أن البالغين مستغرقون في إعادة صناعة الصنم.
أما الجملة الأخيرة “وبينما كان المطر يغسل الصنم الجديد…”
حملت في طياتها مفارقةً أخرى، في حين أننا ننظر للمطر على أنه رمز للتطهير والتجديد، لكنه هنا “يغسل الصنم الجديد”، مما يعكس العبثية في هذه الدورة المستمرة من صناعة الرموز وتقديسها.
هذه الجملة تلمّح إلى أن الصنم الجديد لم يكتمل بعد، لكنه في طريقه لأن يكون نسخة أخرى مما سبقه.
و قد يشير المطر أيضًا إلى مرور الزمن، وكيف أن التاريخ يعيد نفسه رغم كل المحاولات للتغيير.
-يترك لنا الكاتب النهاية مفتوحةً بثلاث نقاط (…)، فما القصديّة من وراء ذلك؟
من وجهة نظري أرى أن الكاتب فعل ذلك ليرمز بنقاطه هذه إلى الاستمرارية وعدم الانتهاء، وكأن ما يحدث ليس نهاية، بل حلقة جديدة في سلسلة لا تنتهي.
الأمر الذي يدعو القارئ إلى التفكير في المصير القادم، فالنص لا يمنح إجابة، بل يترك الباب مفتوحًا لطرح التساؤل الأهم: هل سيتغير شيء فعلًا، أم أننا عالقون في دورة لا نهائية من الطغيان؟
و هي بدورها، أقصد النقاط، تعكس أيضًا نوعًا من الإحباط والتسليم الضمني، وكأن الكاتب يقول: “ما يحدث الآن ليس جديدًا، ولن يكون الأخير.”
هذه القصة القصيرة تحمل رمزية عميقة حول إعادة إنتاج الاستبداد رغم النوايا الحسنة، وهو موضوع متكرر في الأدب العربي والعالمي، حيث نرى أن النصّ هنا يتقاطع مع عدة أعمال أدبية من حيث الفكرة والأسلوب الرمزي، تناقش فيها دورات التاريخ وإعادة إنتاج السلطة. ومن أبرز هذه الأعمال في الأدب العالمي:
-“مزرعة الحيوان” لـ جورج أورويل، إذ يتكرر في هذه الرواية مفهوم الثورة التي تنتهي بإعادة إنتاج الاستبداد، حيث تحل سلطة جديدة مكان القديمة لكنها تمارس القمع نفسه.
-أسطورة سيزيف لـ” ألبير كامو”، التي تعكس فكرة العبثية، حيث يظن الناس أنهم يصنعون تغييرًا لكنهم في الواقع يدورون في حلقة مفرغة.
-كذلك رواية “1984” لـ جورج أورويل أيضًا التي تذكرنا بكيفية إعادة بناء الديكتاتورية من نفس عناصرها القديمة، مما يعكس استمرارية القمع حتى في ظل محاولات التجديد.
و هكذا نرى أن القصة تحمل رسالة قوية حول فشل التغيير عندما يُبنى على نفس الأسس القديمة. و بسخرية مبطنة، يحكي الكاتب حال الشعوب التي تستمرء العبودية. بمعنى آخر إنها “الطوطمية “…حيث لا يستطيع البعض إلّا أن يصنعوا لأنفسهم إلهًا حتى لو كان من ” طين ” ليمارسوا عبوديتهم. هكذا تعوّدوا، و بهذا تطمئن قلوبهم . فمن اعتاد أن يكون عبدًا لن تستطيع أن تُقنعه بأن الله خلقه بفطرته حرًا… “سيشعر بالبرد ” أحببت أن أورد هذا التعبير لأن الطأطأة ديدنهم، و هي دثارهم.. متى خلعوه؛ تعرّوا… فبردوا .
الكاتبة سمية الإسماعيل