القراءة
كم مرة جلست وسط مجموعة من البشر و في داخلك تردد ” أنا لا أنتمي إلى هنا.. أنا لا أنتمي إلى هنا”
رمزية العنوان: “تربص ريح”
عنوانٌ يعكس حالة من الانتظار والترقب الممزوجة بالخوف، فالريح ترمز إلى قوى خارجة عن السيطرة، قد تكون تهديداً داخلياً (مثل صراعات البطل) أو خارجياً (مثل قسوة الحياة في العنبر، أو ربما الحياة بعمومها). الريح هنا رمز لاضطراب النفس وصعوبة المواجهة.
الفكرة
يناقش النص الصراع الداخلي للشخصية الرئيسية مع ماضيها وأخطائها، وتأثير ذلك على حياتها الحالية. إنها صورة الاغتراب الإنسانيّ في الوجود،
كما يلقي الضوء على العزلة النفسية والجسدية للنزلاء في مكان يقدّم رفاهية مادية، لكنها تعجز عن سد الفراغ الروحي. أو ربما فراغٌ من نوع آخر تعكسه ما ورد في جملة البطل :
“أسرد نزواتي المخجلة بدقة ودون إيجاز، وهم ينصتون في استمتاع رافعين إبهامهم إعجابًا.. وكثيرًا ما يتذمرون إن حاولت الهروب إلى حديث آخر، يُصوِّبون إليَّ سبَّاباتهم في حركات دائرية لأواصل.. “
سيميائية “الريح” في النص
الريح رمز للقلق الداخلي والصراع النفسي المستمر للبطل. كما أنها تمثل التغير الذي يهدد بالسيطرة على الشخصيات، فهي تتحرك بقوة دون استئذان، تماماً كما تفعل الذكريات المؤلمة والخوف من المستقبل.
رمزيّة المكان
العنبر يمثل القيد الذي يُفرض على الشخصيات، فهو مكان فاخر لكنه أشبه بسجن نفسي. ترتيب الأسرّة والكراسي بدقة يعكس حياة روتينية ميكانيكية خالية من المعنى العميق. تضفي عليه ” حياة” ذاك الدفء الذي يُشبه الشمس عندما تشرق على أرواحٍ فقدت هذا الإحساس، ثم ما يلبث المكان أن يتحوّل رغم ثراء أثاث، إلى مقبرة..
” كان الدفء يتسرب من أجسامنا ويضيق عنبرنا الواسع ويتحول إلى ما يشبه مقبرة جماعية.. “
الشخصيات
البطل:
يعاني من صراع داخلي بين ماضيه البائس ورغبته في التصالح مع ذاته. ماضيه الثقيل يعكس حالة من الذنب المستمر.
إن التحليل النفسي لشخصية البطل
وفقاً لنظرية سيغموند فرويد، يوضح أن البطل يعيش صراعاً بين “الهو” (الذكريات والنزوات القديمة) و”الأنا الأعلى” (الذنب ومحاولة التصالح). الشعور بالخوف من الريح يعكس قلقاً وجودياً دائماً من مواجهة الماضي والمستقبل.
نزلاء العنبر:
يمثلون جماعات فقدت الأمل، فهم شبه “جثث”، بلا تفاعل حقيقي، يعيشون حياةً رتيبةً، ينتظرون النهاية.. تسليتهم الوحيدة، ما يسرده عليهم البطل من حكايا..
“أحيانًا تنهض رأس جثة من فوق وسادتها فتقاطعني وتكمل هي بقية إحدى القصص وتضع لها النهاية التي تتوقعها ثم تعود لموضعها.”
حياة:
يمكن اعتبار شخصية “حياة” كرمز للحنان. غيابها يشير إلى فقدان الرعاية والأمان العاطفي، ووجودها يجلب الدفء النفسي والجسدي للنزلاء. اسم “حياة” بحد ذاته يعكس رغبة النزلاء في البقاء مرتبطين بما تبقى لهم من إنسانية.
في حين أن غياب “حياة” عن المشهد
يعكس غياب الأمل والدفء، ويؤكد أن وجودها لم يكن مجرد فعل يومي، بل رمز للمعنى والقيمة التي تحاول الشخصيات التمسك بها،
تأثير ماضي السارد:
يرمز الماضي إلى أعباء النفس البشرية التي لا يمكن الهروب منها، بل تتسرب لتؤثر على الحاضر، مما يجعل البطل رهينة لتلك الذكريات. إلّا أن شخصيّة البطل المتناقضة تضع علامات استفهام على ما يمكن أن يكون قد تعرّض له، و خلق لديه نوع من الصراع بين ذاته و المحيط الخارجي فهو تارةً قويٌ متصالحٌ مع نفسه :
“ولكنَّي – رغم الضغوط المستمرة – بقيت على احترام العهد – لأول مرة – بيني وبين نفسي بأن أظل صامدًا، محتفظا بتفاصيل أكثر مغامراتي قُبحًا ونذالة..”
و تارة أخرى مستسلمٌ، و ربما كارهٌ لنفسه ..
في دوامة هذا الصراع الذي يرمز إليه بـ” الريح”
“وكنت دائما على يقين بأنه في لحظة وشيكة ستنجح في اختراق الموانع وتصل اليَّ فتصعقني وتنثرني في الهواء فأصير هباءً.. أصبح ماضٍ تتأفف ” حياة ” من ذِكره..”
يحمّل النص شخصية البطل عمقاً نفسياً واضحاً، فهو الذي يعيش في صراع داخلي دائم. لكنه يفتقر إلى استكشاف التفاصيل النفسية لبقية الشخصيات: النزلاء/ حياة/ و الممرضة الأخرى / مما يجعله أكثر تركيزاً على السارد.
التقنية السردية المتبعة:
نصٌ ينتمي إلى ما بعد الحداثة حيث يعتمد على السرد الذاتي للشخصيّة الواحدة و الذي يكشف عن الصراعات الداخلية للشخصية الرئيسية، برمزية مكثفة جدًا، للتعبير عن المشاعر والأحداث، تجعلك تعيش حالةَ توترٍ تشبه ما يعيشه الشخصيّات صورة الاغتراب الإنسانيّ في الوجود، و هذا الطابع في الكتابة يقوم على توظيف شخصيّاتٍ تقع في ظروف سرياليّة وفي مشاكل تبدو بسيطة، لكنّها تؤدّي إلى نتائج مفجعة ومخيفة.
الحبكة
الحبكة بسيطة لكنها عميقة، حيث تسير في خط تصاعدي يعكس الاضطراب الداخلي للبطل مع غياب “حياة”، مما يخلق توتراً تدريجياً حتى النهاية.
يشبه النص في فكرته رواية “الغريب” لألبير كامو في تناوله للاغتراب النفسي والصراع مع الذات. كما يمكن مقارنته بأعمال دوستويفسكي التي تسلط الضوء على الجانب المظلم من النفس البشرية. و أكثر ما يشبه محمود روبي في سوداويته ” فرانز كافكا” و قد تقترب من رواية ” عنبر رقم 6” لتشيخوف.
النهاية
النهاية المفتوحة، حيث تظل الريح متربصة، تشير إلى أن الصراع لم يُحسم. قد ترمز الريح إلى الموت الذي يقترب ببطء أو إلى استمرارية الصراع الداخلي دون حل.
نجح الكاتب في خلق نص رمزي بامتياز مليء بالمعاني العميقة والرموز النفسية. ومع ذلك، قد يشعر القارئ أن الشخصيات الثانوية تفتقر إلى عمق أكبر، ما قد يُضعف التفاعل معها.
النص: تربُّص ريح
في هدوءٍ تضع الأكواب.. تعيد ترتيب ما تبعثر أثناء الليل، توزع ابتساماتها الرقيقة ثم تخرج.. تنطلق الأنًّات بلا توقف، تصاحبها أنفاس متقطعة وصيحات مبحوحة.. تَسابُق النداءات وتداخُل الأصوات يكاد يصنع سيمفونية صاخبة، لكن ” صاحبتنا ” يجب أن تُعذر فنحن أشبه بجثث ملقاة على أسرَّة فاخرة، مُتراصَّةٌ بإحكام، بينها ممرات متساوية تسمح بوجود الكراسي الكهربائية المتحركة والطاولات الخشبية الأنيقة التي تحمل الأدوية، الهواتف الذكية وزهريات الورد المُعطَّرة..
تُطل علينا كل صباح كشعاع لطيف قد نجح في اختراق الأفق المملوء بالسحب الرمادية الكثيفة، قادمًا إلينا من الشمس التي يصعُب أن ترانا.. يتسلل إلينا في صمت، يعانق أجسادنا المتجمدة فيحركها ويشعرها بالدفء المفقود، يبعث فيها الرغبة الغائبة في البقاء – لذلك سميتُها ” حياة “.. ولعلها فرصة للتخلص من تلعثمي المتكرر عند نطق اسمها..
تبلغ من العمر ثلاثين عامًا، لكنها تبدو أصغر قليلاً.. ذات ملامح آسيوية هادئة، لا يوجد فوارق لافتة بينها وبين الأخريات غير أنها أسرعهن إجابة لطلباتي وأكثرهن تحمُلاً لسخافاتي.. ولا أدري إن كان ذلك لكوني أشاركها لون بشرتها القمحي واتساع حدقتيّ عينيها، أم لسبب أخر؟!
على أية حال ” الفتاة ” لا تسأم أو تتضجر من كثرة الطلبات أو تكرارها أحيانا دون داعٍ.. اعتقدتُّ أن ذلك يرجع لتعليمات الإدارة الصَّارمة أو ربما لجودة التدريب التي حصلت عليه قبل الالتحاق بوظيفة شاقة كتلك، خاصة أن النزلاء من الأثرياء – قادرون أن يدفعوا ثمن هذا النوع من الرعاية الفائقة.. لكن سرعان ما تزعزع لديَّ هذا الاعتقاد بعدما رأيت الحال يتبدل والكآبة تحل حين تغيب: كان الدفء يتسرب من أجسامنا ويضيق عنبرنا الواسع ويتحول إلى ما يشبه مقبرة جماعية..
ولمَّا كان يُحاصرني الملل اللعين؛ كنت أحاول الفكاك منه بأن أفتح صندوق ذكرياتي المكتظ بالحكايات المثيرة: أسترجع أرشيف الماضي.. أتعجب كيف كنت بطل سلسلة طويلة من المشاهد الحقيرة.. أسرد نزواتي المخجلة بدقة ودون إيجاز، وهم ينصتون في استمتاع رافعين إبهامهم إعجابًا.. وكثيرًا ما يتذمرون إن حاولت الهروب إلى حديث آخر، يُصوِّبون إليَّ سبَّاباتهم في حركات دائرية لأواصل..
أحيانًا تنهض رأس جثة من فوق وسادتها فتقاطعني وتكمل هي بقية إحدى القصص وتضع لها النهاية التي تتوقعها ثم تعود لموضعها.. أقبل ذلك مرة وأرفضه أخرى ولكنَّي – رغم الضغوط المستمرة – بقيت على احترام العهد – لأول مرة – بيني وبين نفسي بأن أظل صامدًا، محتفظا بتفاصيل أكثر مغامراتي قُبحًا ونذالة..
وكنَّا قد تعوَّدنا أن تختفي ” حياة ” لبضع ساعات ـ مرة من كل إسبوع.. ومما كان يثير الانتباه أنها كانت ترجع بوجه غير الذي ذهبت به.. ومع ذلك كانت دائمًا تقاوم شعورها المتوتر بأن تراوغ بلطف، فلا تفصح عن شيء لكنها – رغم الإلحاح الشديد – لم تُبد انزعاجًا أو تبرز تبرمًا.. وقد أصبح ذلك الأمر مثارًا لنسج القصص من وحي الخيال بين الجميع..
ذات يوم – وكان الطقس مضطربًا والريح غاضبة – طال غياب ” حياة ” وقد بدأت الجثث تتثاءب.. وعادة كنت لا أغفو حتى أطمئن أنها عادت.. تساءلتُ مكتئبًا: هل عادت حياة؟ ضحكت مازحة: يبدو أنك تُحِبُّها، فهي تشبهك. صِحت بوجهها غاضبا: أين حياة؟! فأجابت ممتعضة: لا أعرف. وانصرفت على الفور..
ظلت الريح متربٍّصة.. وكلما هاجمت النافذة المعلقة فوق رأسي؛ تشبثت بالغطاء وجذبته إلى وجهي الذي أضحى مثل خريطة بالية.. ومع ذلك أسمع صدى أزيزها المخيف في جسدي الذي صار مرتعا لهجماتها المتلاحقة.. وكنت دائما على يقين بأنه في لحظة وشيكة ستنجح في اختراق الموانع وتصل اليَّ فتصعقني وتنثرني في الهواء فأصير هباءً.. أصبح ماضٍ تتأفف ” حياة ” من ذِكره..
محمود روبي
الكاتبة سمية الإسماعيل