طائري المحلق
نظرت مطولا إلى الوشم الجميل على ساعدي الأيسر، طائر يفرد جناحيه ليحلق عاليا ويعانق سماء الحرية، كان ذلك يوم عيد ميلادي الثامن عشر حين أصررت أن أشِمَه على ذراعي، كيف لا وقد غادرت وطني، هناك حيث تحاصرك القيود من كل الجهات، أكره القيود وأكره العبودية، أنا ذلك الطائر الموشوم على ساعدي، سأكسر جميع القيود وأحلق في سماء الحرية…
وصلنا إلى المخيم المنتصب في الخلاء، ترَكَنا نلج بعد أن تطلَّعَ إلى تذاكرنا وبريق غريب يشع من عينيه، نصبنا خيمتنا الصغيرة وسط مئات الخيام المبثوثة.
ولجت دورة المياه، بصعوبة وجدت مكانا شاغرا وحشرت نفسي وسط الأجساد الواقفة أمام المرآة، مررت صباغة سوداء على محيط عيْنَيَّ، وأنزلتها دموعا عملاقة تعبر خدَّيَّ، طليت شفتَيَّ بالأسود، وصففت شعري متأملا لونه البنفسجي البراق المنتصب أعلى رأسي، بينما مررت راحة يدي على جوانب رأسي الملساء التي تحررت من كل شعرها، تذكرت بريق عيني الحلاق مبدع تسريحتي عندما كان ينظر إلي من خلال المرآة المزينة بشتى أنواع الجماجم الحديدية …
ملأت أصابع يدي بالخواتم البرونزية، خاتم الجمجمة الضخمة غطى وسطاي كاملة، الجمجمة المتوسطة لإبهامي الخواتم المدببة للخنصر والبنصر، وخاتمي الفريد الذي يحمل شعار الحب والسلام لإبهامي، هذا الخاتم بالذات كان البائع يخزنه في دولاب خاص لايعرضه للعموم، أخذته بلا تردد بعد أن قبل بيعه إياي، يستحق ثمنه!
أحسست بثقل القرطين المعدنيين على أذناي وتبثت قرط الحلقة الصغيرة في أنفي.
لم يتبق لأكمل (اللوك) إلا تثبيت الإكسسوارات الجلدية السوداء المدببة بقطع معدنية على ساعدي الأيمن، سأترك ساعدي الأيسر عاريا ليحلق طائري الموشوم في سماء الحرية والسعادة.
ساحة الرقص الكبرى ممتلئة عن آخرها وموسيقى الميتال أخذت تستنفر روحي، طاقة خارقة تغمرني، يبدو أن حبة النشوة التي تناولتها هي فعلا كما وصفها لي البائع، مر بخيالي بريق عينيه المستديرتين وهو يصف لي مفعول حباته السحري، تصاعدت وتيرة الموسيقى وبدأت أفقد السيطرة على جسمي الذي أخذ ينتفض متخلصا من بقايا العقد والقيود التي كبلتني طوال حياتي، شلال هادر من السعادة يجتاحني…
كانت ترقص قريبة مني، جسمها الذي لم يتبق من بياضه الناصع إلا بعض الفراغات القليلة التي تركتها رسومات الوشوم التي تغطي جسدها، تحاورت عينانا الضاحكتان ثم تآلف جسدانا الجامحان ليلتحما في عناق وقبل، وجدت نفسي وسط جماعة من أصدقائها نسبح في بحر النشوة والسعادة….
فتحت عيني الثقيلتين بصعوبة بالغة، صداع رهيب يكاد يفجر رأسي، هي في حضني تغط في نوم عميق، ويد غليظة لشاب تطوقني من خلفي، أخذت أنظر لذراعي متأملا طائري الذي لم يحلق بعد….
دراسة نقدية لقصة “طائري المحلق”
الفكرة الأساسية:
تناقش القصّة مسألة شائكة، ينطوي تحتها جيلٌ من الشباب الذين حملوا في أفكارهم فكرة ” الحريّة” فعاشوا “الضياع “. شباب ينظرون إلى قيم و مبادئ و مفاهيم مجتمعهم على أنها قيودٌ، فيجتهدون على كسرها لنيل تلك الحرية التي برأيهم تكمن في الانعتاق من قيم المجتمع والقيود الأخلاقية. تستعرض القصّة رحلة التحول من الطموح إلى السقوط في مستنقع الفوضى والانحلال الأخلاقي، في بلادٍ لا تنتمي لهم و لا ينتمون لها يقول بطل قصتنا:
” غادرت وطني، هناك حيث تحاصرك القيود من كل الجهات، أكره القيود وأكره العبودية، أنا ذلك الطائر الموشوم على ساعدي، سأكسر جميع القيود وأحلق في سماء الحرية…”
إنها تعالج قضيّة الاغتراب النفسي بين ما يحمله هذا الجيل من أفكار و ما يفرضه الواقع، سواءً في أوطانهم أو الأوطان الأخرى. تتبلور الفكرة أكثر عندما يحتدم الصراع بين التطلعات الفردية والواقع المجتمعي، خاصةً عندما لا يكون الفرد مؤهلًا لعيش تلك التجارب.
الحبكة:
تبدأ بالطائر المحلق و تنتهي به ساكنًا دون تحليق بحبكة دائرية.
من لقطةٍ يسلطها فيها الكاتب على ساعد شابٍ في الثامنة من عمره، يحمل وشمًا لـ”طائرٍ محلّق” على ساعده الأيسر تبدأ رمزية الفكرة التي يريد طرحها،؛ رمزيّة قوية التركيز، إنها “الحرية”. من هذه اللقطة يتطور السرد بشكل تتابعي ليكشف عن حالة الانفصال بين الطموحات الفردية (الحرية) ونتائج السلوكيات المتحررة غير المسؤولة و التي تنتهي بالضياع.
الحبكة تصاعدية، تأخذ القارئ من لحظة اتخاذ قرار الوشم إلى الانخراط في عالم الفوضى (المخيم، الموسيقى، الحفلات، المخدرات) لتصل إلى ذروة التوتر حين يتخبط البطل في دوامة فقدان السيطرة، وتنتهي بمشهد الإحباط والندم، برمزية الطائر الذي لم يحلّق.
الشخصيات:
*البطل/الراوي: شخصية مثيرةٌ للتعاطف والجدل بآن واحد، تُظهر تناقضًا بين السعي لتحقيق الحرية الفردية والانحدار في سلوكيات تدميرية، شخصيّة تمثّل جيل الشباب الذي تبهره هذه الحياة دون حساباتٍ لكم الخسارة التي ستسقطه.
*شخصيات ثانوية: الفتاة الموشومة/ أصدقاءها في المخيّم: تمثّل صورة العالم الذي انخرط فيه البطل، وتعزز الشعور بالضياع الجماعي.
البنية السردية:
القصة مبنية على مزيج من السرد والوصف الداخلي، حيث يعتمد الكاتب على نقل المشاعر والأفكار الداخلية للبطل، معتمدًا على لغة رمزية وأسلوب تصويري.
حيث تُقسم البنيّة إلى ثلاث مراحل:
*التمهيد: اختيار الوشم وتقديم الرغبة بالتحرر.
*الصراع: التورط في عالم جديد يحمل إغراءات مدمرة.
*الذروة والنهاية: الشعور بالفراغ والندم بعد تجربة مؤلمة.
تقنيات السرد:
*الرمزية: الوشم و الطائر يمثلان الحرية والطموح، لكن بقاء الطائر “غير محلق” يعكس فشل تحقيق الحرية الحقيقية، و الوقوع في قيد الضياع، ترمز إليه حفلة ” الميتال” طقوس يمارسها عبدة الشيطان.
*الوصف التفصيلي: التركيز على مظهر الشخصيات، مثل الوشوم/ الإكسسوارات /تسريحة الشعر: كل ذلك يعكس حالة الاغتراب عن الذات الحقيقية في محاولةٍ للتفلّت من ضوابط المجتمع.
*المونولوج الداخلي: يجعل القارئ قريبًا من أفكار البطل وتناقضاته.
*الزمن المتقدم: تسلسل الأحداث من البداية إلى النهاية يساعد في بناء فهم تدريجي للتدهور.
البعد النفسي:
تكشف القصّة الإرهاصات التي تعيشها النفس البشرية التواقة للحرية، لكنها تكشف أيضًا عن هشاشة هذه الرغبة عندما تُبنى على أسس غير صحيحة، و مفاهيم مغلوطة.
يبدو الصراع النفسي واضحًا بين الإحساس بالسعادة المؤقتة (النشوة، الموسيقى) والإحباط الطويل الأمد (الندم والفراغ).
“طائري المحلّق” نسخةً عربيةً قدّمها الأستاذ سليم بوشخاشخ بمعالجةٍ خاصة به، لكنها تذكرنا بكثيرٍ من الروايات التي عالجت هذه الفكرة عند أدباء سابقين؛ منها
“الأمواج” لفيرجينيا وولف: حيث يسيطر التيه النفسي والرغبة في التحرر.
“الطريق” On the Road لجاك كيرواك/ Jack Kerouac: الذي يتناول حياة الشباب في مجتمع يبحث عن الحرية المطلقة لكنه يصطدم بالفراغ.
“النادي الليلي” لدونا تارت: يناقش التأثير المدمر للثقافة المادية والانفصال الأخلاقي.
رسالة القصة:
توجه نقدًا غير مباشر للمفاهيم الخاطئة للحرية، حيث تُظهر أن التحرر دون قيم أو هدف قد يؤدي إلى ضياع الذات والانغماس في أنماط حياة مدمرة. تستخدم القصة مزيجًا من الرمزية والواقع لإظهار مأساة الأجيال التي تبحث عن الحرية في المكان الخطأ.
الكاتبة سمية الإسماعيل