لنص انتكاسة مؤجلة
للأديبة ريم محمد
:القصة
انتكاسة مؤجّلة
قالوا…
إنّ المطر الغزير يمحي كل أثر، فتعمدت أن أخرج والعاصفة في أوجها وكلّي أملٌ أن تغسلني كما يُغسل الشجر، لا بل إنّ طموحي كان أكبر، فقد تمنّيت أن يفارقني ألم روحي، حتى لو حلّ مكانه ألم جسدي قد لا يزول!
انطلقتُ مسرعةً مع ذلك السّيل الذي يسبق خطواتي وقد تعمّدت الخروج دون مظلّة ودون قبّعة أريد غسل روحي ، بل وعقابها بسياط الألم لتنزع عني كلّ فكرة قد تعيدني إلى نفسي.
هرولتُ مسرعةً في البداية حتى أضمن ابتعادي وعدم قدرتي على العودة، وعندما أصبحتُ وحيدةً في منتصف العاصفة والمطر ينهمرُ فوقي كشلال؛ ارتحت …أغمضتُ عينيّ وابتسمت، فداخلي مستقرّ رغم ارتعاش جسدي، حتى باتت أناملي متجمّدة وملابسي مكتظّة بالتساؤلات.
المطرُ زحف على دواخلي وبدأ يسوقني إلى أروقةٍ مُظلمة وأنا أنتظرُ بارقةً لم تأتِ بعد.
جلستُ على الرّصيف الحزين الشّاهد على انكساري وضعفي ومضغتُ آخر تساؤلٍ غبيّ كان يطرقُ باب ذاكرتي واستسلملتُ للرّعود التي عرّت روحي وأفاضت براكين من الغضب فوق جسدٍ منهكٍ أتعبهُ كل شيء، وعندما قرّرت العودة تلحّفتُ بحنيني الأزلي، برغبتي المضمرة في الفكاك …
ولكن كيف !
كيف يستطيعُ المساقُ إلى الإعدام أن تشقَّ ملامحهُ ابتسامة…
كم كان المطرُ رحيماً ! وكم كانت الذكرى قاسية !
“تزوجت بثانية وفضلتها عليّ، هجرتك ولكن..”
تمهّلتُ في طريق العودة، وعلى الرّغم من اشتداد العاصفة وتزايد الهطل فوق جسدي المُنهك، آثرتُ التّريّث في طريقِ عودتي وكلّي إصرار على تلقّي أشدّ أنواع الطّعنات الطّبيعية حتى أصحو وأستفيق، فربّما يتكاثفُ حزني ليتهاطل مع المطر فيسوق حنيني كشلالٍ يأخذه السّيل المتشكّل من استمرار الهطول.
جسدي يرتعشُ بشدّة، والماءُ المنسكبُ بقوّة يترافقُ مع ملامحي ليلتحم قليلاً بعينيّ الدّامعتين فتتحد الدّموع مع حبالِ المطر، باختصار اتّحدتُ مع العاصفة داخلاً وخارجاً حتّى لم أعد أعرف أيّنا أشدُّ هُطولاً…
السّماء الرّاعدة والأرضُ الغارقة في الوحل وأقدامي لا تشعرُ بخطاي؛ كلّي عزيمة أن أركل ذكرياتي معه.
وعلى باب منزلي المُحايد قرأتُ جملةً كشفها المطر لكنّها كانت مستقرّة في دهاليزِ الذّاكرة وامتشقتُ انكساري ودلفت…
وعندَ أوّلِ مرآةٍ شاهدتُ ملامحي المغسولة ومن داخلها
كنتَ تقبعُ هناك هازئاً ومتوعّداً..
:القراءة
تقول سيدة الغناء العربي في إحدى روائعها الغنائية
” وقلت أقدر ف يوم أنساك
وأودع قلبك القاسي
لقيت روحي ف عز جفاك
بفكر فيك وأنا ناسي “
هكذا قالت أيضا ريم محمد بأسلوبها العذب الهادئ السلس، قالت ذلك بهدوء رغم رعدات السماء فوقها واهتزاز الأرض تحتها.
قالت ذلك برقة لغوية وشجن طاغ رغم وحل الأرض وارتعاشات الجسد.
قالت ذلك وأكثر رغم انهمار الدموع كانهمار المطر، لتغسل روح من درنٍ تمكن منها وغرز أنيابه فيها، ولو أدى الغسول إلى تفتت الجسد وانهزامه أمام ألمٍ لا دواء له ولا براء منه!
أحبت حتى الثمالة وغُدر بها حد الهجر، نعم هجران لا يهمنا لماذا ولم، لأنه حدث ولا رجعة فيه، فمن باع شيئًا؛ لا رغبة له فيه ولا حاجة به إليه، ولكن…لكن ما بال المباع لا يصدق أنه بيع؟..لا يصدق أنه كان سلعة انتهت صلاحيتها؛ على الأقل في حياة البائع.
هكذا هى الدنيا التي نحياها؛ لا دوام لشيء ولا استمرارية لأحد، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولكننا نحن البشر عالقون بين حقيقة ووهم، وصاحبتنا بطلة قصتنا وعت وفهمت وأدركت ما حدث، وتيقنت أنه لا يستحق دمعة من دموعها، وسعت إلى الخلاص والاغتسال من ذكراه، وهل أطهر من غسيل الروح؟!.. قررت ونفذت متحدية كل ألم، وغير عابئة بسياط جلد ذات، اغتسلت…نعم اغتسلت من كل شيء علق بها، لتكتشف في النهاية أنها اغتسلت فعلا، ولكنها اغتسلت مما علق بها وليس ممن توطنها وسكن فيها!
الانتكاسة : تعريفها الطبي عودة المرض وأعراضه بعد الظن بالشفاء منه،
وعنواننا هنا ( انتكاسة مؤجلة ) عنوان واف وشاف ومعبر إيما تعبير عن خلاصة الفكرة وحبكتها ومعالجتها، لكنه بالطبع ليس كاشفًا أو فاضحًا لفحوى النص، بل أنني أرى كناقد بطلان مقولة * عنوان كاشف أو فاضح * بطلانًا مؤكدا، وإلا فليقل لي أحد من مؤيديه ..ما هو النص وحبكته ومعالجته قبل أن يقرأه!؟، فالعنوان في قناعتي النقدية أما متناغما ومتوافقا مع فكرة النص أو بعيدًا عنها..انتهى.
والتأجيل هنا مقصده عدم الادراك منذ البداية أن الانتكاسة آتيةٌ لا محالة ولا مناص منها ولا فرار.
لغة راقية جدا، مشبعة وجعًا حد الترف، مجموعة من التناقضات الرائعة الموظفة بحرفية مدهشة، وإن بدت لأكثرنا انهمال مشاعر عفوي وفطري.
روح يقابلها جسد
هجر يقابله توطن
دموع يقابلها سخرية
سماء يقابلها أرض
مطر يقابله وحل
داخل يقابله خارج
ومجموعة من التوافقات المتوازية طرديًا..
شدة/ قوة
مطر / اغتسال
دموع / حبال
مرآة/ شاهدت
منزل / دهاليز
مستقرة / تقبع
أقدامي/ خطاي
جمل سردية شجية صاخبة رغم هدوءها وهادئة رغم صخبها، موشاة بسجع محبب تطرب له الأدن..
انهمار // انكسار // اختصار
أروقة // بارقة
أستفيق// يسوق
كل ذلك من محسنات بلاغية أضافت للنص رونقا وسحرا وسلاسة وانسيابية تضافرت مع سردية متدفقة ظاهرها إرادة صلبة وباطنها وجع روح، ليشكلوا معًا لوحة تعبيرية مذهلة في مشهديتها وتفاصيلها مصاغة من فكرة بسيطة جدًا ألا وهى ( الهجر).
الأديب محمد البنا