دون تخدير

ربما هذه المرة الأولى التي أنطق بها بقول ما عانيته حقيقةً، وإن كانت الحقيقة مرة فعليكم معرفتها، وإدراك مرارتها وألمها.
في كل مرة أُنقل فيها إلى المشفى أقول: هذه الأصعب.
لكن بالفعل هذه المرة كانت الأصعب، نقلت بعد خمسة أيام من الهلاك، كنت قد فقدت الرؤية تمامًا، وبدأت أستفرغ الدم، والصداع وفيٌّ يلازمني، يشبه نغزات الإبر المتكررة في الثانية عشرات المرات.
في الليل، وحتّى لا أتعثّر دون ضوء إن ترجلت إلى المرحاض لقضاء الحاجة بعدما فقدت الرؤية دونه، اقترحت شروق إبقاء التلفاز مفتوحًا.
أيضًا هذه المرة لم أُنقل بسهولة، فقد طالت المطالب وتكررت أيامًا وساعات، ونُقلت في الليل البارد قبل السادسة، ألبستني شروق الكثير من الملابس في محاولة لتدفئتي؛ فحيفا باردة في الليل، وبدأت ياسمين بمساعدتي في ارتداء الحذاء، تأثرت حينها لأن حالتي كانت أشبه بحالة الموت، فما عدت قادرة على مساعدة نفسي، ملك الصغيرة زرعت قُبلة على رأسي في محاولة لطمأنتي، ومرح تنتظر مجيء بوسطة الإسعاف.
غادرت سجن الدامون متهالكة محاولة الصمود، وصلت إلى المشفى على كرسي متحرك، مقيدة اليدين والقدمين كالعادة، أُجريت لي بعض الفحوصات كنسبة الماء في العينين، وزيارة عيادة الطبيب الباطني والأعصاب.
قرروا إجراء عملية سريعة لأن ضغط الدماغ كان مرتفعًا، لم يكتفِ السجان بوضع قيود على يدي وقدمي فقُيدت أيضًا بالسرير في غرفة الطوارئ، وبدأت رحلة العذاب لعملية دون مخدر!
أُدخلت إبرة كبيرة الحجم في العمود الفقري دون تخدير، وعندما شعرت بوخزتها صرخت متألمة: “هاي مش إبرة المخدر!!”، فأنا معتادة على ألم أقل، وظلت ساعة كاملة تسحب الماء، فما كان باليد حيلة سوى الدعاء، دعوت كثيرًا، ناجيت الله كثيرًا، كان الجميع يضحك، الطبيب الإنساني يضحك، السجانة تضحك، وأنا أحاول أن أبقى على قيد الحياة.
عند عودتي إلى سجن الدامون بعد إجراء عملية التعذيب دون تخدير، فتح السجان الذي يقلني في البوسطة موال عربي لحاتم العراقي يقول فيه: “ومن ايد أمي الصبح محلا استكانة شاي”. تألمت أكثر.
الجدير بالذكر هنا؛ أن عائلتي لم تعرف بما حدث إلا بعد ثلاثة أيام، خسرت من وزني قرابة السبعة عشر كيلوجرامًا خلال أسبوع واحد فقط، كنت أُنقل من السرير إلى المرحاض والعكس، ولمعرفتهم بما عانيت لم أقف على العدد، لم أخرج من الغرفة عند التفتيش اليومي (السوراجيم) أي الدق على الجدران، وظل الألم يحاصرني حتى يومنا هذا.
ربما تتألم وأنت تقرأ، تبكي، تتنهد، تقول: جبارة، صبرت.. ولكن لعلك تعرف أن حكمي القليل كان رحمةً لأن أعود إلى أمي على الأقدام لا محملة على الأكتاف، هناك من عاد محملًا على الأكتاف لما عاناه من إهمال طبي طوال سنين حكمه، وآخر دفن في مقابر الأرقام، وغيرهم لا زال محتجزًا في الثلاجات.
أسأل الله القبول ..
رحلة العذاب/ حيفا -سجن الدامون.
٧.١١.٢٠٢٢

الأسيرة المحررة الإعلامية دينا جرادات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *