ذات ليلة قمت بإخراج القمامة -كعادتي- في دلوي الصغير نحو رأس الحي حيث حاويات الأزبال. قصدت مجمع الأزبال ثابت الخطى مزهوا بدليل الإثبات على إعالة عائلتي حتى لاحت لي شابة تسابقني للحاوية بدلو قمامة أكبر. حاولت أن أسبقها كي أفرغ دلوي وأرحل لكننا وصلنا في نفس اللحظة.
من فرط جمالها خلتها لو لمست حاوية الأزبال بيديها لغذت مزهرية ورد وأزهار. قدر الإمكان واريت دلوي المسكين وتركت الجميلة تسبقني فقامت بشق النفس رفع دلوها وأفرغته على دفعات.
اللعنة! وكأنها ليلة ثاني أيام العيد أو أن العالم يحتفل دوني؛ أكياس متنوعة من بقايا أطعمة وفواكه وأشياء أخرى تكاد تكون صالحة.
كانت ضربة موجعة لكبريائي أن ألفظ زبيلاتي المسكينة في لمح البصر أمام الفتاة التي بدت عليها علامات الإشفاق لحالي فأصبت بإحباط ليلي وسخ.
خذلني دلوي اللعين. لحظتها تمنيت لو أن لي كل أزبال الحي لأفاخر بها أمام ذات الدلو البهيج لكن هيهات.. رجعت أدباري وأنينه يصدح في يدي. آه يا صديقي حتى أنا أصبحت مثلك.. دلو آمال عفنة.
في الغد اقتنيت دلوا كبيرا مهابا يسر الناظرين وصرت كلما قصدت الحاويات أستزيد من الأزبال التي أصادفها كي أصل وأنا في كامل كبريائي وقيمتي.
حين أقترب من مجمع الأزبال أبطئ الخطى لأترصد فتاة الدلو البهيج، فلدي ثأر لا بد من أخذه. بذاك الدلو كنت أشبه بأحد الوكلاء المعتمدين مني إلى ذي قمامة منزل.
مضت بضع ليالي ودلوي الجديد يحملني كل مساء لحاويات الأزبال، يهرق كبريائي وطموحاتي ويرجع بي للبيت وذكرى تلك الفتاة لا تفارقني حتى صادفناها أنا وزوجتي في مطعم وسط المدينة حيث تعمل ناذلة به. استقبلتنا بلباقة ومدتنا بقائمة المأكولات. يا للمفاجأة! وأخيرا علمت لم قمامتها كانت بذاك التنوع.
أثناء الأمسية أخبرت زوجتي وهي تخلع معطفها المرقط من تكون الناذلة. الأضواء أخرجت الشابة من شرنقتها وبدت في شكلها الحقيقي، جميلة المحيا بتضاريس تكاد تزلزل الزوار لدرجة أن زوجتي التهمتها بنظراتها أكثر ما التهمت طبقها.
حين هممنا بالمغادرة توقفت زوجتي أمام الشابة الجميلة، تفحصتها مليا ثم قالت لها بنبرة مهينة:
- إذن أنت هي فتاة القمامة التي صادفك زوجي أمام حاويات الأزبال. يجب الاعتراف أن عطرك مميز يا آنسة، ثم هرعت إلى السيارة بعد أن قصفت المسكينة.
يا للموقف المحرج! حاولت -كعادتي-الاعتذار لكن الشابة كانت صامتة وكأنها تنصت لقلبها يتدحرج بداخلها. لتخفيف وقع تلك الإهانة القاسية عليها أخبرتها أني أيضا كنت أحمل دلو قمامة تلك الليلة.
لحظتها نظرت إلى زوجتي وقد أخذت مكانها في المركبة وبنبرة مواساة همست لي كلمتين اختزلت معاناة عشر سنوات:
ولا زلتٓ!!
الكاتب عبد الغني تلمم