ذاكرة من خلف القضبان الذاكرة والسجان

الذاكرة ليست الماضي فقط بل هي الوعي بالتاريخ والجذور والهوية وادراك الخصوصية وهي الوعي بالذات بما يتصل بالواقع وينفتح على المستقبل، و وسيلة فعالة تعمل على تثبيت ارتباط الشعوب بأرضهم وشرعية هذا الارتباط، فالذاكرة ليست مجرد أمر شخصي لكنها تنسب إلى الذاكرة الجمعية التي تترتب على التفاعل والتواصل الاجتماعي فليس هناك ذاكرة جمعية بدون الذاكرة الفردية.

أما الذاكرة الجمعية فهي مجمل المعارف والعلوم المادية والمعنوية والروحية لجماعة ما وما يترتب عليها من الوعي الجماعي الذي يرتبط بتوحد الجماعة وتضامنها، إضافة إلى أن العاطفة التي توفرها الذاكرة الجمعية تمثل أساس الهوية وتساهم في الحفاظ عليها وتطويرها.

وعلى هذا الأساس تمثل نكبة عام 1948م ونكسة 1967م عنصرا هاما في الذاكرة الجمعية لدى سكان سوريا الكبرى وذلك بوصفها نقطة تحول رئيسية في تاريخهم فقد وفرت تلك الذاكرة ومازالت توفر كمية هائلة من الموارد التاريخية لتشكيل الهوية الفلطسينية كما أنها دفعت ولا تزال تدفع إلى الكفاح في سبيل حق العودة وتحرير فلسطين.

راهن المخطط الصهيوني منذ بدايته على تآكل الذاكرة وتلاشيها بمفعول الاقتلاع والتهجير والانقطاع بين الأجيال فجاءت الاستجابة التلقائية بالتشبث بالهوية والخصوصية التي اكتشفت ذاتها وعبرت عنها بوضوح وبات صقل الهوية سواء كانت في فلسطين أو في الجولان المحتل مشروعا بحد ذاته ضد الإلغاء والطمس.

ننبش اليوم في الذاكرة الشعبية الوطنية لنبحث ونناقش احدى الذواكر الوطنية التي تستحق أن تضرب لها التحايا وترفع لها القبعات لما واجهه أصحابها من الآلام والمتاعب ومواجهة المصير المجهول بعد أن أصبحوا في يد مجرم لا يرحم، ذاكرة الظلام والقضبان والجنازير والسجان.

ان المدقق في ذاكرة الأسر وأوضاع الأسرى يجد أن هناك ميزة ظاهرة وفرقا بينا بين الأسرى في سجون المحتل وبين الأسرى في أي سجن من سجون العالم حيث نجد الأسير في سجون الاحتلال يستكمل طريق نضاله ويستمر به حتى وهو في الزنزانة الانفرادية ويسير في مواجهة سجانه وجلاده تماما كما واجه المحتل وجنوده في الساحات والخنادق ويكمل عمله النضالي دون توقف بكل الأشكال المتاحة والمستطاعة الفردية أو الجماعية ، السرية أو الجهرية، لأنه يفتخر بانتمائه ويتمسك بهويته ولأنه آمن بصدق قضيته وحتمية النصر والتحرير.

إضافة إلى ما يكتسبه الأسير خلال فترة الأسر من علم وأدب وثقافة ندر أن يحصل عليها حتى وان لم يدخل في الأسر ذلك أن عامة الأسرى في سجون الاحتلال من الحزبيين المثقفين الذين يحملون أفكارا وطنية يعملون جاهدين لنقلها لغيرهم فالسجن هناك مدرسة ومعهد وكلية بل وجامعة تخرج أناسا غير الناس الذين دخلوا فكم من أسير تعلم القراءة والكتابة في السجن وكم منهم تعلموا العربية والعبرية وغيرهما من اللغات وكم من أسير تخرج من الجامعات وهو يقبع خلف القضبان وكم منهم كتب كتابا أو أكثر وهو رابض أمام الجدار.

تبدأ تلك المرحلة بقرار يتخذه البطل أو المناضل هو قرار العودة إلى الديار وهو يضع هدفا أمام ناظريه هدف بطولي عظيم يستحق التضحية بالمال والنفس وكل مايملك فماذا عن أرض الوطن وترابها وجبالها وأشجارها وثمارها ماذا عمن بقوا في الديار وعن ديار غادرها أصحابها ليعيث فيها الغرباء فسادا، ماذا عن شعور الخطوة الأولى على أرض الوطن وهل كانت تلك الخطوة حرة أم أسيرة، وكيف كانت العملية البطولية وكم هي الأضرار؟

تبدأ بعدها التحقيقات الأولى والقاء التهم المعروفة والغير معروفة واللعب على أوتار الصداقة والوطنية للمجموعة المرافقة، ربما يكون الطعام فتات وربما لقيمات وربما لا وقت للرفاهيات.

بعدها تستأنف العملية النضالية في السجون التي تبدأ وتنتهي بالتثقيف حيث التنوع الفكري واختلاف الانتماءات وتوحد الهدف والروح الوطنية التي تعمل على تبديد الحواجز بين الأسرى. لذا وفي المقابل نجد السجان يعمل على تحطيم الروح المعنوية للمناضلين تارة بأسليب التعذيب وتارة أخرى بالعروض المغرية مقابل الخيانة بأي طريقة من الطرق حتى وان كانت الطريقة صنع الشباك المموهة للعدو أو العمل في مصنفات السجون والأسرى.

السجون الانفرادية والخروج منها فقط لأخذ قسط من التعذيب والعودة يقول الأستاذ تحسين وهو أسير محرر في كتابه …. ( ان كل فرد منا كان يتمنى أن يكون باب زنزانته الحديدي أو ل باب يفتح ليكون أول من يتلقى العذاب لأن من يتم إخراجه للضرب يزداد ألمه النفسي وتقسوا هواجسه عليه بعد أن يكون قد سمع أصوات ضرب وجلد وارتطام أجساد رفاقه اللذين تم اخراجهم وضربهم قبله)

أما تجربة الاضراب عن الطعام فهي أسلوب النضال الأخير حين تنتهي الأساليب وتنتهي الحلول فكان أول اضراب منظم شهد عددا كبيرا من المضربين في سجن عسقلان عام 1970م عندما شكلت لجنة خاصة لقيادة هذا الاضراب عندها ضم المعتقل من 350 إلى 400 أسير بأحكام مختلفة وبعد ثمانية أيام من الصمود ومحاولات العدو لتشتيت إرادة الاسرى الأبطال وزرع الفرقة بينهم سجل اسم الشهيد الأول في هذا الاضراب وهو عبد القادر أبو الفحم.

أكثر ما يدهشنا ويفيدنا معا هو اعتماد الاسرى بشكل رئيسي عل تسجيل التواريخ والأيام في كل حدث مر معهم أو عملية توثيقية وعناوينا لأيامهم المأسورة التي لم ترى الشمس إلا فيما ندر.

لكل ما سبق يحيي الفلسطينيون في الوطن والشتات يوم الأسير الفلسطيني في 17 نيسان من كل عام وقد اعتمد هذا اليوم من قبل المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 باعتباره يوما وطنيا من أجل حرية الأسرى ونصرة قضيتهم العادلة.

هو يوم يحيه الفلسطينيون ليذكروا العالم بأسره بالأسرى وما يتعرضون له بشكل يومي من أبشع الصنوف العذاب والانتهاكات والتجاوزات في السجون الإسرائيلية التي فاقت وتجاوزت كل الأعراف والمواثيق الدولية الإنسانية وفي مقدمتها القانون الإنساني الدولي واتفاقية جنيف الرابعة ومبادئ حقوق الانسان والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

من أبرز هذه الانتهاكات إساءة المعاملة والاحتجاز في ظروف غير إنسانية والتعذيب النفسي والجسدي والحرمان من حقوقهم في الزيارة من قبل غالبية ذويهم وأقاربهم بذريعة القانون الأمني والاعتقال الإداري دون محاكمة والعزل القصري الانفرادي الذي يمتد أحيانا لسنوات عدة وعدم توفير العناية الطبية الملائمة واقتحام غرفهم على أيدي وحدات قمع خاصة ورشهم بالغاز والتفتيش العاري، إضافة إلى لجوء العدو الصهيوني إلى شرعنة مماراسته بإصدار سلسة من القوانين العنصرية في مقدمتها قانون اعدام الأسرى

وتشير إحصاءات الهيئات والمؤسسات الرسمية التي تعنى بشؤون الأسرى إلى اقدام الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948م على اعتقال نحو مليون فلسطيني من بينهم الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن.

تفيد ذاكرة الأسرى في كشف الجرائم الصهيونية وإظهار الوجه الحقيقي لهذا الكيان الغاصب الذي لم يفرق بين طفل وامرأة وشاب ومناضل وحتى شهيد بل اعتبرهم سواء ووضعهم جميعهم في خانة واحدة وأحل بل واوجب قتلهم والاعتداء عليهم وتهجيرهم وأسرهم، ويجب هنا التنويه إلى ممارسة احتجاز الجثامين وهي في الحقيقة أسر الجسد وفيه أسر وتعذيب واعتقال لأرواح أهالي الشهداء وقلوبهم وهم محررون في بيوتهم ويمارسون أعمالهم بقلوب تملؤها الحسرة وعيون لا تجف دمعها.

ان الحديث عن ذاكرة الأسر واستحضار عبق أصالة المناضلين الأحرار النادرة في السجون الأسرائيلية ليس لكتابة التاريخ والتغني بمآثرهم فحسب بل وفاء للطريق الذي اختاروه واستكمالا لمسيرتهم وتبجيلا وتعظيما لكل دقيقة أمضوها وراء القضبان ولكل المشاعر والأحاسيس التي مرت بهم ولامست أرواحهم في سبيل وطنهم.

د. نجلاء الخضراء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *