رسالة إلى والدي العزيز:
أعلم أنك في أمسيات البعد تدخل غرفتنا، تلقي على جبين وسائدنا قُبل الاشتياق، وتوقف نظراتك في الزوايا، تملأ كؤوس الذكرى من دمع الغياب.
ما قصدت أن أوجعك بأخباري، ولا أملأ نفسك بحزن شديد، لكنّ الأقدار أوصتني أن أروي لك بعض ما نتعرّض له من قصف ونزوح وإبادة.
أعلم يا والدي أن العالم المنافق تحلل من الإنسانية، ونحن في أعلى مستويات من الشعور
بخذلان وتواطؤ القريب والغريب، سنوات كثيرة ونحن محاصرون، السّماء تمطرنا بالقنابل والصّواريخ، والبرّ والبحر يوجّه إلينا الآليات والمدافع، فلا يبقي لنا أنفاسا نتحايل فيها على الحياة.
والدي الغالي: لا تسل عن سلامتنا التي غابت، ولا عن جمال بيوتنا التي كانت، فقد آلت إلى التّشويه والخراب، كلّها تساوت بالأرض وأصبحت ركاما.
رحنا نبحث عن الحياة، سرنا ولا ندري أين يأخذنا المسير، الطريق مشحونة بالمخاطر والخوف.
القصف يلاحقنا، أينما ولينا وجوهنا يذبحنا، يأخذنا من التّيه إلى واقع كارثيّ قاس،
كلّما دخلنا أماكن جديدة، نتركها مرغمين ونبدأ رحلة الركض من جديد، تستقبلنا خيام تغرق تحت المطر، تهوي فوق الطين، وتجاور نهرا من المياه العادمة.
أنهك الجوع أطفالنا، ركضنا مفتّشين عن طعام، قّصف الدّقيق في غفلة منّا، تناثر مع الأجساد، حملته الرّياح ولاذت بالفرار، ركضنا مع النّاجين، ورحنا نملأ جيوبنا من بقاياه الملطّخة بالدماء.. علا ضجيج دعواتنا نحو السماء، زادت رعشات قلوبنا، وأخذنا نسرع الخطوات، ونكتب على أيدينا وأرجلنا أسماءنا؛ القاذفات لا ترحم تلاحم أعضائنا، في غفلة من الزمن، تحوّلها إلى أشلاء كي لا تنهض من جديد.
في الشوارع الثّكلى تنهش الكلاب الجوعى الجثث، هي جوعى، مثلنا تماما أنهكها الجوع.. نمضي على غير هدى، تتقاذفنا الطرقات وتبعثرنا، تلملمنا من هنا وهناك وتباعدنا، فرقتنا عن الأحبة والأهل والجيران، دمرت الحارات وسكتت الشوارع، وانهارت الأماكن من حزنها.
المطر يطرق ساحات النزوح، يغرق الأشلاء والأكفان ويجري بدمائهم،
والعواصف تدمّر أشياءنا، تمضي بها كما الناس يمضون نحو المجهول، والحرّ الذي باغت ربيع الحمّيض والعشب الذي نأكل، عجّل من جفافه، وزاد حرارة خيامنا، نار الرّمال من تحتنا، وشمس الاحتراق من فوقنا، وكأننا في خزان معدنيّ مغلق، نصيح، نختنق، من يطرق باب الخزّان؟ من يفتح باب الخزّان؟ أمراض تفتك بنا، وحشرات غريبة الأطوار تهاجم وجودنا، وسيلة أخرى من وسائل إبادتنا، شقاء بحجم الألم،
يرافق أناتنا وقلقنا، كما الظلام الذي رافق ليالينا مذ كان الحصار، لا أضواء ولا دفء ولا حياة.
صحافيون يرصدون طوابير الجوعى وطرق الأطفال على المواعين، وطوابير من الشاحنات تغفو على رصيف حزين.. تصوّر انتشال القتلى أمام عالم من الباكين المقهورين العاجزين، وعالم من المتخاذلين المنافقين المجانين.
العالم هنا مختلف تماما عما تعرف يا أبي، كلنا مشاريع شهادة، أو مشاريع إبادة، طوابير من النازحين في انتظار كل شيء ، ولا يجدون أيّ شيء.
أخبرني بربّك كيف نعتاد على هذا البؤس ونحن المرفهون رغم الحصار؟
الزّنانة لا تفارق سماء الخيام، أزيزها يؤرقنا، قلوبنا تخفق، نركض وراء أمن من سراب، ونترك وراءنا ظلالا محروقة، ووجوها مشوّهة بلا ملامح.
نجدد المحاولة في ايجاد بعض من الطّعام، وفي كلّ جولة من البحث لا نجد إلا عيونا تبحث مثلنا، وبطونا خاوية تنتظر لقيمات من خبز، وقطرات ماء عذبة، أو حتى قطرات ماء يتحجّر ملحها في بطوننا.
ها نحن نهيم بالعراء مرّة تلو مرّة، قتل وتدمير وتجويع وإبادة. لا أمان هنا، كلّ الأماكن مستهدفة، المدارس والكنائس والمساجد، ساحات المشافي غدت مقابر جماعية لا متّسع فيها لشهيد آخر، حتى صعودنا إلى السّماء، له طقوس خاصة، تدافع دون انتهاء، يتسابق الشّهداء بمهارة إلى العلا، كي ينالوا أوسمة إلهيّة، ويفوزون بعالم لا يشبه عالمنا.
أبي الغالي: لن أعدك بكتابة رسالة أخرى، فلن تكفيني حروف الدنيا لشرح واقعنا الدّامي، لكنّي أعدك بأن نبقى أسطورة صمود وأيقونة بقاء..
نزرع ما أحرقته الحرب اللئيمة، وما دمّره الجبناء.
لأننا كنا وما زلنا عظماء.
الكاتبة نزهة الرملاوي