الرمزية والواقعية الاجتماعية
تمثل هذه الرواية رمزية واقعية واجتماعية يصور الكاتب من خًلالها معاناة الشعب الفلسطيني وما يلاقيه يوميا من غطرسة المحتل ومن إذلال يومي على حواجز الاحتلال وما يلحقه من ظلم ومرارة وضياع وفقدان للهوية، محاولا سلبه كرامته وحياته الكريمة وحتى أمام زوجته وأبنائه، زيادة في القهر والإذلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تصور واقعا اجتماعيا تعيشه كثير من زوجات الشهداء حيث التغاضي من قبل المؤسسات الوطنية لاحتواء حالتها الاجتماعية والاقتصادية فيزداد الحال سوءا، وتتعقد الأمور حتى تكون حلقة ضعيفة حتى أمام ولدها العاق وإن كان وحيدا، الذي يصبح الآمر الناهي لأمور حياتها فيزداد القهر قهرا والظلم ظلمات.
وينسج الكاتب بداية روايته من خلال سرد حدث إنسانيّ، حيث يلقي الضوء على إنسانيّة فلسطينية شابة تدعى “خديجة”، تعبر عن إحساسها اتجاه حدث إنساني حول طفل يكاد يسقط من علو “…إنه يتعلق بيديه الضعيفة في الدربزين، سيسقط، نعم سيسقط، لطفك يا رب، ركضت مسرعة انكمشت، توترت، انشدّت أعصابها، يديها لفوق تضرع إلى الله اتسعت فتحة عيونها، تجمد دمها، اقشعر بدنها…”، إلا أن شهامة شاب فلسطيني يدعى “خالد”، هذه الشهامة المعهود بها كل فلسطيني في كل مكان، تمثّلت في انقاذ الطفل من سقوط محقق قد يؤدي به الى الموت أو الأذى الكبير مما أثار إعجاب خديجة بهذا الشاب “فتحت فمها مندهشة….ذاهلة…ضحكت…فرحت كثيرا….، عندما شاهدت شابا طويل القامة، مثبتا قدميه على الإسفلت، يطبق بيديه القويتين على الطفل قبل وصوله إلى الإسفلت وكأنه حبة برتقال، أو كرة سلة”.
هذا اللقاء الإنساني يترجم إلى علاقة حب عفيف تُتوّج بزواج ينقطع يوم العرس نفسه بسبب عادات مقيتة تعود لثأر معين منذ زمن طويل، إلى أن الإصرار والتحدي أدى بقرار خططه الحبيبان في زواج سري بعيدا عن الأهل والخلان، تكون ثمرته طفلا أطلقا عليه اسم “وسيم”، ولكن هذه الفرحة لم تدم طويلا، إذا كان أثناء عودتهما من فحص لتطعيم ابنهما إذ يصلان إلى حاجز عسكري يحاول الجنود الاستفزاز متعمدا إهانة خالد أمام زوجته:
ـ “شو…أنت بلعب مصارع يا جيفر ـ بطل؟ أنت عامل نفسك قوي، هاه…احكي!!!!؟(ص 40).
…..
ـ “احكي…أنت موش جيفر -بطل – أنت حمور”.
ـ “حمار كبير…أنت فاهم يا حمور؟؟؟”(ص41).
يدور صراع بين خالد وبعض الجنود وتكون الغلبة لخالد أولا إلا أن جنديا حاقدا يفرغ العشرات من الرصاصات تخترق جسد خالد وتسقطه شهيدا…ومن خلال هذا المشهد يضعنا الكاتب في صورة من الصور التي يواجهها كل فلسطيني يوميا على حواجز الاحتلال من السخرية والإهانات وينتهي كثير منها باستشهاد العشرات من شبابنا الفلسطيني.
ـ “وصيتك وسيييييم ….يا….خ….د…ي….ي…ج …ـة…”(ص42).
هذا آخر كلمات صرخ بها الشهيد “خالد” تاركا زوجته “خديجة” زوجة شهيد مع وليدها، حيث يبدأ الراوي حبكة قصصية أخرى أكثر إثارة تصور واقع زوجة الشهيد ما بعد استشهاد زوجها.
ولتوضيح الفكرة التي يريد الكاتب إيصالها سنحاول تفكيك الرواية إلى عناصرها الأساسية وتحليلها على النحو التالي:
العنوان:
ينجح الكاتب في أن يشد انتباه القارئ من خلال عنوانه المتميز “أمضي أم أعود؟”، حيث يكون مدخلا للرواية، ومضمونه يمثل حالة صراع وتمزّق دائمين تواجهه الفلسطيني في حياته اليومية في كل مكان وزمان، هي حالة الصراع التي تراوده عند حواجز الاحتلال، أيعبر الحاجز أم يعيده الجنود، أيقبله صاحب العمل أم يعود أدراجه بقية أيامه باطلا عن العمل، أيمضي في قرار الهجرة من الوطن بحثا عن لقمة العيش أم يعود ويستقرّ في وطنه في حالة فقره المدقع ويتقبل واقعه المرّ، هذا حالة الصراع الدائمة التي تواجه الفلسطيني خلال مسيرته حياته بسبب الظروف القاسية التي يمرّ بها يوميا تحت الاحتلال.
المكان: انطلقت الأحداث في رواية “أمضي أم أعود؟” من مكان حدث يكون فيه طفل في حالة سقوط من علو، حيث كان متعلقا بدربزين البيت يكاد يقع على الأرض، وتتوالى الأحداث حيث يتم إنقاذ الطفل على يدي شاب يدعى خالد، ينتهي بلقاء في بيت والدة الطفل الذي تمّ إنقاذه بين خديجة وخالد، ومن هناك تنسج بينهما علاقة حب. وقد حرص الكاتب على ألا يذكر مكانا معينا خلال الرواية كلها بالإشارة إلى موضع ما صراحة، مدينة أو قرية، بل أشار إلى اسم إحدى المدن بالحروف (س ص)، لأن الكاتب أراد الإشارة أن أحداث هذه الرواية قد تحدث في كل ومكان من المدن أو القرى الفلسطينية.
الشخصيات الرئيسة: تدور أحداث رواية “أمضي أم أعود؟”، بين عدد من الشخصيات الرئيسة
خديجة: تُعدُّ من الشخصيات الرئيسة في الرواية، وحتى يمكن اعتبارها الأكثر رئيسية لما يدور من أحداث حول هذه الشخصية الإنسانية، وهي التي أخذت قرارا عكس التيار في الزواج من خالد سرا بعيدا عن أهلها متمردة على العادات والتقاليد البغيضة التي أرادت أن تحرم هذا الزواج بين حبيبين عفيفين، وهي زوجة الشهيد التي تبقى وفية لزوجها الشهيد خالد، لترعى طفلها الوحيد وتقضي جلّ حياتها في خدمته وتربيته، ومن ثم تعاني ظلم ابنها الوحيد الذي ربته “برموش العين”، كما يقال في عاميتنا الدارجة، إلا أنه ينقلب عليها بعقوق وصل به أن يقوم بمحاولة قتلها لا لسبب إلا أنها رفضت أن تلبي ما يريد هو رغم ما قدمته له من حنان وعطف وعطاء، حيث يصور الكاتب في كلمات الإهداء:
“إلى الأمومة المعذبة الشقيّة، إلى الأمومة المقدمة على مذبح الحب والحنان، والعاطفة الصادقة البريئة دون أثمان”(الإهداء).
ثم تتوالى الأحداث حول هذه الشخصية فتشق طريقها بعصامية منقطعة النظير، بعد أن تنكّر ابنها لمعروفها، بعيدا عن أهلها وابنها وتبني حياة جديدة في مجتمع جديد يقدّر إنسانيتها وأسلوبها الراقي في التعامل، لأنها تستحق ذلك وبجدارة لما قدمته من تضحيات، بدءا من وفائها لزوجها الشهيد، واستمرارا لتربيتها لابنها في ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، هذه الحياة الجديدة من تقدير الناس لها أثلج صدرها وعوضها خيرا عما كان الحال مع ابنها.
خالد: زوج خديجة، الشاب الشهم الذي أنقذ الطفل من موت محقق، وهو الشاب الفلسطيني الشهم الذي أبى أن ينقاد للعادات والتقاليد وأصر أن يتزوج خديجة ولو سرا وفاء لحبه لها ويقينا أنه على حق، وأنهما يستحقان الزواج على سنة الله ورسوله كباقي البشر رغما عن كل العادات والتقاليد، وهو الشاب الذي أبى أن يذلّ، وانتفض لكرامته أمام محاولة جنود الاحتلال إذلاله والسخرية منه وخاصة أمام زوجته، فدفع ثمنا غاليا، وهذه الشخصية تمثل في سلوكياتها كل شاب فلسطيني يحمل كرامة يعتز بها ويكافح من أجلها، وهي الشخصية المتعلمة التي تتمرد على العادات والتقاليد وتأبى الانصياع لها، هو شاب كما وصفه الراوي:
“خالد ليس من الشباب الطائشين، هو رجل نبيل بحق وحقيقة، كامل متكامل، لديه الكثير من خصائل الرجولة والشهامة والنخوة، أينما وجد ولا يوجد رجال يكون هو الرجل، هو صاحب موقف لا يتنازل، لا يتراجع أو يتقاعس، يتصرف بما تمليه عليه أخلاقه الكريمة ورجولته….”(ص37).
هذه الشخصية التي جعلت خديجة “تاجرت فيه ولم تفرط، انتظرته تحملت الإهانات من أهله وأهلها لأكثر من ثلاثة أعوام، …كذلك إن الصفات والمواصفات العالية التي يتمتع بها خالد، فرضت على خديجة احترامه وتقديره والتمسك به، وتضرب بعرض الحائط خاطر أهلها، ثم تهرب معه دون اعتبار لأي منهم”(ص37).
وسيم: ابن الشهيد خالد، وخديجة زوجة الشهيد، المرأة التي كانت وفية لزوجها الشهيد، أبت الزواج حتى تربي ابنها الوحيد وسيم، وكان حلمها كبيرا نسجته لمستقبله وأعطته بلا حدود “لم تبق لها أي شيء لتحتفظ به لقادم الأيام، فكلّ ما كانت تملكه أعطته لابنها، أعطته بسخاء بدون حدود ودون تحفّظ”، ورغم هذا العطاء الكبير الذي ناله وسيم من أمه والتضحيات الكبير، جعلت في شخصيته الأنانية، وقد حملت نفسها مسؤولية “الأنوية” التي رافقت ابنها وحب التسلّط حتى على أمّه الذي ربته وسهرت عليه ليلا ونهارا:
“فالاهتمام الزائد الذي أولته خديجة لابنها وسيم، كذلك حبها الكبير له في كلّ مراحل حياته، أوصل وسيم للاعتقاد أنه ابن ملك أو أكثر، أو أن وجود أمه خديجة على هذه الأرض يرجع الفضل فيه إليه، لذا تكوّن لديه مفهوم خاطئ لعلاقته مع أمه وغيرها، وكأنّ الآخرين ملزمين بإعطائه كل ما يطلبه، فدوره في الحياة هو الأخذ فقط، أصبح وسيم يأخذ ولا يعطي، يسمح لنفسه بالأخذ ويمنع نفسه من العطاء، وبالتالي كبر لديه مفهومي التملّك والاستحواذ، ومفهوم الأنا تضخّم عنه كثيرا، صار صارّا لنفسه أكثر من ضرره لغيره، أنانية كبيرة ومفرطه، طمع زائد عن الناس، اعتقاده الواهم بسهولة الحياة، وأن كلّ ما يطلبه يستطيع الحصول عليه بسهولة، وغيرها من الصفات التي أصبحت مسؤولة عن أنويته ومسلكياته بشكل عام”.
هذه الشخصية التي نالت كلّ شيء بلا حدود، التي تربت أن تأخذ ولا تعطي، استعظمت أن يُرفض لها طلب، لأنّه اعتاد أن تكون أوامره كلها مستجابة على الفور، استعظم أن ترفض أمّه طلبا له أن تلبس ما يريد هو من لون، ورغم تفاهة هذا الطلب، أدى به أن يقوم بسلوك عدواني بالاعتداء على أمه وحتى إلى قتلها:
” من شان اللللله لا تقتلني…آاااااااااه..ساعدونننننننني يا ناس…. جااااااي يا أهل البلد…يا عالم حد يساعدني”.
فوسيم هي الشخصية التي تمثّل أناسا كثيرون في مجتمعاتنا الذين تقدم لهم خدمات كبيرة، إلى الحد الذي لا يمكن الردّ عليه، يردون عليك بنكران الجميل، فيصبح عدوك لفرط ما أحسنت إليه.
منى (أم بشير): بعد أن قررت خديجة (حيث سمت نفسها فيما بعد زبيدة أم الوفا حتى تخفي هويتها) الرحيل عن بلدها كانت تبغي الابتعاد كثيرا عن جرحها وبلدها، والوصول إلى ابعد الأمكنة التي يستحيل على أي من معارفها إذا فكّر في البحث عنها أن يجدها خاصّة ابنها وسيم. وبعد مسير طويل وبعد أن تحملت مشاق السفر تلتقي ببائعة خضرة تدعى “منى أم بشير”، امرأة طيبة مضيافة، شهمة بعد أن عرفت أنها غريبة عن البلد ولا تعرف أحدا يضيفها قالت لها:
ـ إذن أنت ضيفتي هذه الليلة إن شاء الله إذا قبلت، أنا أختك اسمي منى أم بشير”(ص67).
منى امرأة صابرة زوجها أسير لدى سجون الاحتلال الصهيوني، والذي يقضي حكما مؤبدا، امرأة كافحت شظف العيش وقسوة الحياة بعد سجن زوجها مما اضطرها للخروج إلى العمل في بيع الخضار، وكما وصفتها ابنتها سميه”….فأمي أطال الله بعمرها تقوم بدور الأب والأم، ….فهي إنسانة حديدية بكل معنى الكلمة، تنهض باكرا مع الفجرية، تذهب إلى الحسبة مع الناس، وتهتم بي وبأخوتي، وكل أسبوعين تذهب لزيارة والدي في سجم عسقلان، وتعود مهمومة مغمومة، كثيرا من الأحيان تمرض وتتعب، حياتنا قاسية يا خالتي، ولكن الحمد لله على كل حال“(ص74).
وشخصيتها كما رسم الراوي حياتها كبقية النساء الفلسطينيات اللواتي عانين قسوة الحياة مما اضطرهن للعمل في مجالات شتى لسد حاجات الأبناء من الطعام، والتعليم حين غياب الزوج إما لاستشهاده، أو سجنه، أو هجرته.
سميّة: ابنة منى أم بشير، طالبة جامعية طيبة بطيبة أمها، أحبتها خديجة (زبيدة أم الوفاء)، وكذلك سمية تعبر لها عن حبها لام الوفا “خالتي أم الوفا أنا بحبك كثيرا“(ص75)، وقد اصطحبتها في جولة إلى المدينة تعرفها على معالمها وحال الناس فيها، وتنشأ علاقة طيبة بينما دامت طويلا، وسمية هي الشخصية التي تمثل أيضا الكثير من الفتيات الفلسطينيات اللواتي أيضا عانين مرّ العيش، إما بسبب استشهاد الوالد أو سجنه، وإما باستشهاده، وتعبر عن ألمها من فراق الأب بسبب سجنه بقولها:
ـ الحمد لله يا خالتي، والله أنا بحب أمي وأبي، والله عندي حسرة كبيرة؛ بسبب اسر والدي في سجون العدوّ الصهيوني، والله لو حد يطلب من روحي، مقابل أن يفرج عن والدي ويفكه من سجنه لأعطيته إياها. أنت ما بتتخيلي كم المعاناة الكبيرة التي نعانيها جراء أسر أبي…”(ص74).
إقبال: خاتمة الفرح، حفيدة من غير ميعاد لبطلة هذه الرواية خديجة (زبيدة أم الوفا)، التقت بها في مقهى كانت قد أقامته أم الوفا بالتعاون مع سمية قرب الجامعة استقطب طلاب الجامعة، وكانت إقبال ممن يرتادون المقهى مع بقية الطلاب، أم الوفاء (خديجة) قربها من قلبها، وعند مرض أم الوفا الشديد نتيجة وساوس أصبتها أو ما أسماه الأطباء الوسواس القهري، انتقلت إقبال للسكن معها وقدمت لها أفضل الرعاية تعافت أم الوفاء جيدا، واستشعرت إقبال حبها الخاص لأم الوفا:
ـ “صرت لا أستوعب حياتي ووجودي في هذه المدينة، بدون أن تكوني فيها خالتي أم الوفا، فأنت اللغز المحير بالنسبة لي بحنيتك وحبك، بقهوتك، ضحكتك، وذوقك النادر حبيبتي، أنا وجدت نفسي مشدودة إليك بسر لا يعلمه إلا الله”(ص149-150).
وحين كتبت أم الوفا مذكراتها منذ التقائها بخالد وحتى اللحظة الأخير ذاكرة تفاصيل حياتها بدقائقها، وما حدث مع ابنها حين أراد قتلها وهجرتها إلى مدينة أخرى، ورأوا أنها تصلح لعمل أدبي روائي، تستحق التكريم عليه، و يذيع صيت الرواية ويفوز بجائزة الإبداع، ثم دعوة من البنك المركزي للتكريم، وتكون المفاجأة حيث يكون أحد المكرمين هو ابنها وسيم، وتكون إقبال حفيدتها، ويكون الهرج والمرج من هول المفاجأة، والبكاء والعويل، وصرخات إقبال وأبيها لاكتشاف أن أم الوفاء ما هي إلا خديجة التي رحلت منذ زمن:
ـ ” أنت ستي…أنت ستي خديجة، أنت لست خالتي زبيدة أم الوفا…أنت ستي أم وسيم، حبيبتي يا ستي خديجة…”(ص173).
لم يخب حدس أم الوفا ـ خديجة بمشاعرها اتجاه إقبال لأنها كانت الأقرب على القلب.
رسالة الرواية
استطاع الكاتب أن يقدم للمكتبة العربية عامة، والفلسطينية خاصة إبداعا متميزا، كان له حس مرهف استشعره في كل بيت من بيوت الوطن فلسطين، فما من بيت إلا وفيه، شهيد، أو أسير، او مهجّر عن وطنه قسرا، إذ قدّم لنا نموذجين لما تعانيه الزوجة:
الأولى زوجة الشهيد، اليت ظلمها المجتمع، وظلمها الأقربون، وظلم ذوي القربى اشد مضاضة، بجاية مع ظلم مجتمع لم يرد لها الزواج ممن تحب وتراها سندا لحياتها، وسعادة دائمة، مما اضطرها إلى التمرد على هذا المجتمع وعاداته والزواج من شريك حياتها بعيدا عن إرادة الأهل والمجتمع، فقد دفعوها دفعا لذلك لتحيا مع زوجها بالحلال، ثم صور لنا كيف تفرّد بها ابنها الوحيد رغم عطائها اللامحدود لها ليفرض أنانيته، لأنه استشعر أن الكل يجب أن يدور في فلكه، وأنه
الأحسن والأفضل، مما دفعها لأن تشقّ طريق حياتها بمفردها وتبني مستقبلا زاهرا من النجاح، وهذا معهود عن المرأة الفلسطينية التي تتحدى الصعاب، وتتخطى الحواجز وتنطلق كالريح المرسلة إلى الأمام فلا تقل عن شأن الرجال، وكما يُقال “امرأة أخت رجال”، تفرض في نهاية الأمر نفسها على المجتمع وعلى من ظلمها وتحظى بكل احترام مرفوعة الرأس رغم الألم والجراح.
الثانية: هي أم بشير زوجة أسير حكم عليه بالمؤبد في سجون الاحتلال الصهيوني الغاشم، وهي كبقية زوجات الأسرى تحد نفسها معيلة لأبنائها، تعاني من الصعوبات المادية والاجتماعية، تذهب مسيرة ساعات من المعاناة للوصول إلى سجن عسقلان لزيارة زوجها، وتعود مهمومة مغمومة، وفي كثير من الأحيان تعاني المرض، وقد نجحت هذه المرأة بعد مضي زوجها في السجن مدة 31 عاما فوق أنت تعيل أبنائها أن تعلمهم في الجامعات ويكونوا ناجحين، ميسون تزوجت وهي طبيبة أنف وحنجرة مشهور، سمية أنهت رسالة الدكتوراة في الجامعة، وهي رئيسة قسم، متزوجة ولها أسرة رائعة، بشير مهندس ناجح وله اسرة وأموره موفقة، وتبقة أم بشير وحيدة في بيتها صابرة تنتظر الفرج، حتى يأتي اليوم ويفرج عنه مع عدد من الأسرى في صفقة تبادل أسرى وتعم الفرحة البيت وسائر بيوت الأسرى.
وقد قدم لنا الكاتب رسائل عدة من خلال هذه الرواية:
الرسالة الأولى: هي رسالة موجهة لعموم أبناء الشعب الفلسطيني يبعث من خلالها الأمل في قلب كل فلسطيني، تضمنتها رسال سمية حين قرأتها في حفل تكريم أم الوفاء على كتابها:
“نعم صحيح أن ليلنا طال؛ إنما نهارنا قادم، ستشرق شمسنا وسيرحل الجراد عن أرضنا، وستنطفئ نيران الوجع لهذا الزمان البائس، وسيحتفل الوطن ويفرح بميلاد الإنسان الفلسطيني وانبعاثه من جديد. القدس تنتظرنا، لكل بداية نهاية، ولكل نهاية بداية، إنّ مع العسر يسرا، والفجر لا بدّ قريب، أليس الصبح بقريب.”(ص170).
الرسالة الثانية: رغم قسوة الحياة التي تواجهها زوجة الشهيد أو زوجة الأسير، إلا أن الصبر مفتاح الفرج وتبقى الأم عظيمة بعطائها، وحنانها، وحبها، تحتوي الجميع، ورغم قسوة الأبناء اتجاه الأمهات، إلا أنه سيأتي اليوم وتدور الدائرة ويكونون آباء لأبناء ويعرفون معنى الأبوة، وسيستشعرون كم ظلموا آباءهم أو أمهاتهم، وهو الحال بالضبط الحال الذي حصل مع وسيم مع أمهم، يأكل يديه ندما وحسرة على ما فرطه بحق أمه الحنونة الطيبة المعطاءة.
الرسالة الثالثة: هي أن الصبر والمثابرة والثبات على الحق هي مفتاح لكل نجاح، فما حدث مع خديجة لا يعني نهاية الحياة بل هي بداية جديد وأفضل، تصل بصاحبها أعلى المراتب واحترام الناس ومحبتهم، فالأصيل يبقى أصيلا، وهكذا بقيت خديجة أصيلة بمبادئها، بحنانها وطيبتها، وهي دعوة لكل من واجه صعابا أن يبحث عن بديل أفضل، وقد افرغت خديجة همومها في الكتابة وأبدعت في ذلك، فمن المحنة تنتج المنحة، ومن الظلمة يخرج النور، ومن الأحزان يبزغ الفرح “ربما لا يستطيع الإنسان أن يكون شاعرا أو كاتبا، إلا إذا صار وزن أحزانه يعادل وزن جسمه، عندما يعيش الإنسان صراعا داخليا عنيفا مع فوضى متصاعدة من الأحاسيس والمشاعر، بهذا يكون الإنسان كاتبا”(ص170)…وحتى مبدعا.
وأخيرا أحيي الأستاذ فوزي على هذه الرواية الرائعة التي لامست المشاعر والقلوب والوجدان متمنية له المزيد من العطاء والتقدّم.
الكاتبة والباحثة وفاء داري