أولاً ـ تمهيد:
ثمة في التراث الإنساني كثير من التجارب التي تعتمد على أنسنة الحيوان، وإناطة أدوار حياتية أو سردية به، ولعلنا نذكر الهُدهد والغراب والناقة والكبش والحوت …إلخ في تراثنا الديني، و”كليلة ودمنة” و”حكايات لافونتين” و”مزرعة الحيوان” في تراثنا الأدبي؛ لنؤكّد أن الحيوانات كانت وما تزال مشجباً نعلّق عليه دوراً حياتياً أو سردياً، أو حكمة ضلّت طريقها إلى الإنسان.
ونحن هنا بصدد تناول رواية شهيرة، تسند دور البطولة إلى دجاجة؛ إنها رواية “الدجاجة التي حلمت بالطيران”، للكاتبة الكورية صن ـ مي هوانغ، التي تصنّف ضمن روايات الأطفال، غير أنّها عند التحقيق، تقترح مستوى آخر من الفهم، غير مستوى التعبير المباشر.
تعرض الرواية حكاية الدجاجة إبساك من خلال أحد عشر فصلاً، عناوينها على التوالي: لن أضع بيضاً بعد الآن، وإبساك تترك القنّ، وطيور الحظيرة، والصديق، والفراق واللقاء، وإبساك تغادر المزرعة، والجوّال والصيّاد، وماما.. لقد خلقتُ لكي أبطبط، وابن عرس يجول قرب البركة، والإيقاع بالصياد، وعندما يتساقط الثلج مثل أزهار الخرنوب.
تحلم إبساك بالحرية، وتنظر دائماً إلى عالم تراه سعيداً خارج القنّ، كما تشتاق إلى أمومة محرومة منها، فتضرب عن الطعام؛ لأنها لا تريد أن تضع بيضاً للبيع. وحين تصاب بالهزال يأخذها المزراع؛ ليلقي بها مع مجموعة من الدجاجات المحتضرة في حفرة الموت؛ حيث تنجو بتشجيع من فرخ البط البري المتشرد، من أنياب ابن عرس يترصّدها من بداية الرواية حتى نهايتها، فتعود إلى الحظيرة غير مرحّب بها، ثمّ تغادر إلى شجرة الخرنوب الأسود، ثم إلى أجمة تجد فيها بيضةً فترقد عليها، تحت حراسة فرخ البط البري المتشرد ورعايته، إلى أن يفترسه ابن عرس في ليلة عجز فيها عن السهر بسبب إنهاكه الشديد؛ وذلك بعد أن طلب منها أن تغادر الأجمة بعد أن تفقس البيضة، لا إلى الحظيرة بل إلى البركة، غير أنّها عادت إلى الحظيرة كي تأمن ابن عرس، فوجدت المزارع وزوجته متفقين بشأن فرخ البط الصغير وشأنها: أن يقصّا جناحي فرخ البط الصغير (الرأس الأخضر ـ بايبي) كيلا يطير، وأن يجعلاها وجبة شهية؛ فتهرب مع صغيرها بعد أن أدركت اختلافه عنها، إذ لاحظت بأن رجليه تمتلكان غشاء جلدياً، وتستنتج أن فرخ البط هو ابن صديقها وبطته البيضاء التي افترسها ابن عرس، وتعيش في حقل القصب مع صغيرها الذي يتدرب مع رئيس البط وبطات الحظيرة في البركة. وبعد مدة يظهر سرب كبير من طيور البط البري، وتدرك أبساك أنّ صديقها كان يريد من ذهابها إلى البركة أن يلتحق الصغير بعائلته الكبيرة التي يغادر معها أخيراً نحو بلاد الشمال.
وفي تطور درامي مثير تسمع إبساك قرب شجرة الصفصاف صوت بكاء حيوانات صغيرة، تكون لأنثى ابن عرس، ولكنها لا تنتقم منها، بسبب وحشية الأنثى الكبيرة، بل إنها تشفق عليها، وعلى أنثى ابن عرس التي تسهر ليلاً ونهاراً؛ لتصطاد، وتؤمن طعام صغارها الجائعة.
وعندما يغادر سرب البط نهائياً، تفرح إبساك لابنها؛ لأنه حقق حلمها في الحرية والطيران، وتحزن في الوقت نفسه بسبب فراقه، وتخاف الوحدة أكثر مما تخاف أنثى ابن عرس، فتغمض عينيها ليداعبها حلم الطيران، وفتقترب منها أنثى ابن عرس وتصطادها.
ثانياً ـ فضاء الحرية في زمن إبساك:
قدّمت صن ـ مي هوانغ حكايتها ضمن حبكة بسيطة، تتحرك أحداثها تعاقبياً، على الرغم من استذكارات قليلة للماضي، وإرهاصات قليلة تشي بأحداث مقبلة، وربما كان سبب هذه التعاقبية أن الرواية تتوجه للأطفال في مستوى من مستوياتها. وقد بدا الفضاء الروائي في المستوى الطفلي مفتوحاً بشكل غالب، إلا أنه حمل رمزية تحفل بالحرية، ورمزية أعمق تتلمّس في كل مكان مفتوح جديد مفتوحاً آخر أكثر اتساعاً وغموضاً؛ فحين كانت الدجاجة إبساك “تعيش في قن أشبه بالقفص”، ص11، كانت الحرية بالنسبة لها لا تتجاوز ساحة الحظيرة التي ترى فيها كل ما تحبه من مفردات الطبيعة الرومانسية: “كانت تتذكر كل شيء يجري في العالم خارج باب سجنها؛ بدءاً من تزايد حجم القمر وتناقصه بعد ذلك، وصولاً إلى شروق الشمس، والشجار بين الطيور في ساحة الحظيرة”، ص15. وكانت حين يفتح باب الحظيرة تتمكن “دائماً من رؤية شجرة خرنوب أسود كبيرة. أحبّت إبساك هذه المنظر، وتعلّقت به أكثر من أي شيء آخر”، ص12. لقد تعلّقت بالخارج/ الحظيرة عندما كانت في القن، ثم تعلّقت بالخارج/ الحقل عندما كانت في الحظيرة، ثم تعلّقت بالبركة حين كانت في الحقل، وحين نالت حريتها على الأرض وجدت حرية أخرى في السماء لا تُنال إلا من قبل ذوي الأجنحة القوية التي تستطيع التحليق، فحققتها من خلال صغيرها ومن حلم ما قبل الموت.
غير أن هذا التعلق الرومانسي بفكرة الخارج/ الحرية سرعان ما يتبدى لها عن خطر مرتهن به، فالحرية مسؤولية وانتباه: “مكثت إبساك في الحقل طوال النهار، وأكلت ديدان الملفوف، تمددت على بطنها بعد أن نكشت التراب بمخالبها، كانت تستمع بدرجة أكبر مما تخيّلت (…) لكنّ مخاوفها ازدادت عند الغسق: يجب أن أعثر على مكان آمن لأمضي فيه الليلة. أعرف أن ابن عرس يتواجد هنا في مكان ما”، ص55.
أدركت إبساك بعد الخروج من القن أنها كانت تعيش في مكان يقايض أمنها بحريتها، وتلك فكرة تريد الكاتبة أن تصل للكبار أيضاً، فقد “أوشكت الدموع على الانهمار من عينيها حين أدركت حقيقة وضعها، فقد ظنّت أن كل شيء سيكون على ما يرام ما إن تخرج من القن”، ص40؛ لذك راحت تحاول البحث عن مكان يؤمن لها شبه حماية، ثم عن مكان نصفِ خَطرٍ ونصف حرّ، ثم عن مكان حرّ تحرسه بيقظتها وقوّتها.
لقد جرّبت أن تحرس حريتها عبر الإفادة من نباح الكلب قرب الحظيرة لتحقيق أمنها، فقد “كان يزمجر في كل مرة يشم فيها رائحة ابن عرس، وهكذا لم يتجرّأ هذا الأخير على الاقتراب، فشعرت إبساك أنها آمنة من دون أن تلجأ إلى الحظيرة”، ص59. ثم “اكتشفت أن الحياة في في باحة الحظيرة أصعب بكثير مما كانت تتوقع، لكنها مع ذلك رفضت أن تفكّر في العودة إلى القن”، ص50.
ومثلما أفادت الكاتبة من ترميز المكان أفادت أيضاً من تحميله بعداً اجتماعياً طبقياً، وتجلى ذلك في عالم الحيوان ترميزاً لما يحدث في عالم البشر، فالمسير والاستقرار والطعام يتم حسب تراتب اجتماعي يتضح من خلال السياقات التالية:
- “توجه الديك مع دجاجته إلى الحظيرة أولاً، وتبعهما رئيس البط والبطات الأخرى، وأخيراً دخل فرخ البط البرّي. عندها دخلت إبساك بكل حذر”، ص43.
- “استقرّ الديك ودجاجة الحظيرة في مكانهما العالي، ونظرا إلى الأسفل نحو الطيور الأخرى. فيما تجمّعت البطات معاً، لكنّ فرخ البط البري جثم بعيداً عنها قرب الباب”، ص43.
- “أخفت البطات رؤوسها في وعاء الطعام وانهمكت في ابتلاعه، لكن الرأس الأخضر تناول الطعام وحده من الإناء الصغير الذي قدمته له زوجة المزارع”، ص145.
كما حمّلت هوانغ الألوان في أثناء تأثيث المكان دلالات موروثة، فحمّلت الأسود عبء الإرهاص بالنهاية الدامية حين أشارت إلى شجرة الخرنوب الأسود التي كثيراً ما رأتها، حتى وهي داخل القن حين يُفتح بابه: “تمكّنت دائماً من رؤية شجرة خرنوب أسود كبيرة. أحبّت إبساك هذه المنظر، وتعلّقت به أكثر من أي شيء آخر”، ص12.
ترى.. هل هي إشارة مبكرة للمكان الذي سيشهد موتها، نتذكر هنا رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، حيث يشير الافتتاح السردي إلى طائر أسود يحلّق على غير هدى، ولا سيما أن اللون ذاته يحضر هنا وهناك ليؤشرا إلى موتين قادمين. يقول غسان كنفاني عن أبي قيس:
“واستلقى على ظهره حاضناً رأسه بكفيه، وأخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر أسود يحلق عالياً وحيداً على غير هدى”.
ومثلما حمَلَ الأسود دلالته التاريخية الموروثة فعل الأصفر والأخضر الأمر ذاته، فحملا ـ على التوالي ـ دلالة اقتراب النهاية في الخريف، ثم التجدد والاستمرار في الربيع، وهما الأمران اللذان لم يكن لإبساك أن تكتشفهما لو بقيت أسيرة القنّ:
“تعجبت إبساك من كيفية تحمّل الأوراق الرياح القاسية وقطرات المطر الشرسة، قبل أن يتحول لونها إلى الأصفر. وتعجبت مجدداً عند قدوم الربيع حين ظهرت الأوراق ذات اللون الأخضر الفاتح مجدداً”، ص14.
أمّا الرائحة فجاءت لصيقة بمفهوم الحرية؛ فهي نتاج الخارج، حتى يبدو الداخل، وكأنه بلا رائحة، فلا تتنسم إبساك إلا العبير القادم من الخارج:
- “وارتحلت رائحة الأزهار بعيداً مع نسمات الهواء، وتسللت إلى القن، ثم إلى قلب إبساك”، ص13.
- “حملت نسائم الهواء معها العطر اللطيف لأزهار شجرة الخرنوب”، ص24.
أما الزمن فقد جاء فيزيائياً حيناً، وفلسفياً حيناً آخر، مرتبطاً بمؤشرات الطبيعة وعناصرها، فالصبح الحيادي يعلن عنه الديك: “استيقظ الديك، وسرعان ما رتّب من مقعده العالي ريشه للحظة، مستخدماً منقاره، ثم نشر جناحيه، صاح بعد ذلك: كوكو كوكو”، ص45.
غير أنه يمكن ألا يكون حيادياً، ويمكن له أن يحمل الأسى لإبساك التي فقدت صديقها فرخ البط البري/ المتشرد، فقد “انبلج فجر يوم جديد (…) لكن فرخ البط البري الذي اعتاد أن يراقب الجوار بينما كان يحرك جناحيه اختفى”، ص ص86ـ86، كما يمكن له أيضاً أن يكون نذير شؤم يشي بالخطر الذي يعنيه تحرّك القصب، ما يدلّ على أنّ ابن عرس بين جنباته: “في الصباح الباكر هبّت رياح قوية، وتحرّك القصب بطريقة تنذر بالخطر، فارتجفت إبساك عندما اخترقت الريح الباردة ريشها”، ص155.
ولا تلتزم هوانغ طريقة واحدة للإشارة إلى الزمن، فقد تستخدم اليوم والشهر والفصل؛ إذ “لم يقترب أحد من العش في حقل القصب منذ بدء ولادة القمر الجديد، وحتى اكتماله”، ص116، وهذا مؤشر زمني شهري يدلّ على مدةٍ، يمكن أن تطول في سياقات أخرى؛ لتدلّ على فصل محدّد على نحو ما نقرأ في السياقات التالية:
- “استمرّ هطول المطر الغزير لفترة طويلة. كان ذلك معتاداً في فصل الأمطار”، ص129.
- “عاشت إبساك حياتها خلال فصل الشتاء متنقلة، ولم يتوفر لها الطعام في ذلك الحقل البارد، كما أن ابن عرس كان أكثر إزعاجاً من أي وقت مضى”، ص172.
- “مرّ الخريف على هذا النحو”، ص155.
- “وشيئاً فشيئاً ازدادات برودة الخريف”، ص155.
- “كانت السماء ملبدة بالغيوم، وانحنت القصبات عند هبوب الرياح”، ص157.
كما يتخّذ الزمن بعده الفلسفي من خلال تداخل متزامن لعدة أحداث أبرزها ولادة فرخ البط البري الجديد/ الرأس الأخضر ـ بايبي بينما كانت إبساك تشيع صديقها بصيحة أخيرة أرسلتها نحو الشمس؛ إذ تذكرت البيضة، فعادت راكضة نحو أجمة الورد:
“ما يحدث الآن أشبه بحلم. كان كل شيء فيه صغيراً: عينان صغيرتان، وجناحان صغيران، ورجلان صغيرتان. لكن، كل شيء فيه كان رائعاً إلى حدّ كبير”، ص87. وقد أفادت الكاتبة من ترسيخ هذه الفكرة عندما أكدت أن ذلك “الصباح كان خاصاً بالنسبة لإبساك. هناك شيء ما يحدث في هذا العالم على الدوام. هناك كائن ما يموت وآخر يولد، هناك فراق ولقاء”، ص88.
وإذا كنا نفتقد الاستذكارات، إلا القليل منها، في هذه الرواية، فإن الاستباقات حاضرة؛ ذلك أن الدجاجة إبساك شخصية مشغولة بالمستقبل الذي يعني لها أحلاماً لا تتزحزح عنها: أحلام الأمومة والحرية والطيران، ويمكن لنا أن نجلّي هذه الصفة من خلال الصياغة اللغوية التي تحيل دائماً إلى ما بعد.. ويمكن أن نستعين ها هنا بالمقتبسات التالية:
- “سأتمكن من أن أجثم على البيض، ومن تربية فراخي”، ص24.
- “سأخرج الآن من هذا القفص”، ص24.
- “سأضع بيضاً، وسوف أتمكن من تربية فراخي”، ص48.
- “لم نر الصياد منذ يومين، لكنه سوف يأتي. أنا متأكدة من أنه سوف يتسلل إلى حقول القصب”، ص130.
ثالثاً ـ موجات السرد:
فضّلنا استخدام تعبير (موجات السرد) على تعبيرات أخرى مثل حركات السرد أو دوائر السرد؛ لأنّ الأحداث جاءت تعاقبية تعاقُبَ الأمواج، فلا حركة ترتدّ إلى الخلف، ولا حدثَ يعيد النهايات إلى بداياتها، ويمكن للمرء في هذه الرواية أن يشهد الموجات السردية التالية:
- الموجة السردية الأولى: الدجاجة في طريقها إلى الخارج.
تطالعنا في بداية هذه الرواية دجاجة لا تريد أن تبيض، لأن بيضها يذهب للبيع؛ لذلك تمتنع عن الطعام والشراب، وهو الأمر الذي أدّى إلى هزالها، فأخرجها المزارع من القن مع الدجاجات المحتضرة، وألقاها في حفرة خارج الحظيرة، وكان من الممكن أن يفتك بها ابن عرس الذي يبحث عن دجاجة محتضرة قبل أن تموت، ولكن فرخ البط البري المتشرد ينقذها، فتعود إلى الحظيرة غير مرحّب بها، فتغادر إلى حقل قريب، وتكتشف أنه “لم يكن بإمكان أي كائن حي ـ حتى الديك والدجاجة ـ في باحة الحظيرة التمتع بحقول واسعة كهذه”، ص51، وعندما تحاول العودة في المساء إلى الحظيرة يتصدى لها الكلب، فتفضل أن تبقى قريبة تحت شجرة الخرنوب الأسود.
الموجة السردية الثانية: البطة البيضاء: قصة الحب والموت:
تدخل الموجة الثانية ها هنا بهدوء لتقوم البطة البيضاء كالثلج بدور محوري؛ إذ تقع مع فرخ البط البري المتشرد في شباك الغرام، ويحرّك هذا الأمر شبه غيرة في نفس إبساك التي افتقدت رفقة صديقها، غير أن ذلك لم يدم طويلاً؛ إذ إنها حين رأت أجمة ورد سمعت صرخة “كواك” ورأت كائناً بذيل يبتعد خلسة، (هو ابن عرس الذي افترس البطة المسكينة)، ثم حين اقتربت من الأجمة، ورأت أنها مناسبة لبناء عش، شاهدت بيضة فقررت الجثوّ فوقها، وصارت تحرسها حتى من فرخ البط دون أن تعرف أنه والد الفرخ الصغير الذي سيخرج منها.
الموجة السردية الثالثة: إبساك ترقد فوق بيضة البطة البيضاء:
تمتاز هذه الموجة بكشف خصّيصة الأبوة عند فرخ البط البرّي المتشرد الذي كان يحرس البيضة التي ترقد فوقها إبساك خائفةً من أن يَكتشف سرها (الذي يعرفه)، بل خائفةً “من أن يقوم فرخ البط البري بإخافة فرخها”، ص72، على الرغم من أنه ظلّ يحضر لها سمكة كل يوم، ويحرسها كلّ ليلة، ولا يغادر أجمة الورد إلا في الصباح، بعد أن يعارك ابن عرس كلّ ليلة ويمنعه من الاقتراب: “كان فرخ البط يركض في بعض الأحيان وهو يصفق بجناحيه. اعتبرت إبساك الأمر غريباً؛ لأنه لم يكن يفعل ذلك في باحة الحظيرة”، ص71. وكانت تعترض على ضجيجه الليلي دون أن تدرك ما يجري، فتقول له: “كنت لطيفاً معي وأنا ممتنة لك، ولن أنسى فضلك ما حييت. لكنني وكما تعلم، أعتني ببيضة”، ص73. وقد استمرّ فرخ البط البري بحراستها وحراسة بيضتها، حتى نام بسبب السهر والإنهاك المستمر، وصار لقمة سائغة بين فكّي ابن عرس: “عبس ابن عرس وهو ينظر إليها بشراسة، بينما أطبق على فرخ البط البري بين فكّيه”، ص85، وفي الصباح التالي كانت هناك حياة جديدة لمولود جديد.
الموجة السردية الرابعة: الرأس الأخضر من الحظيرة إلى حقل القصب:
عندما فقست بيضة فرخ البط البري الصغير الذي أطلقت عليه إبساك اسم “بايبي” ولقب “ظل الرأس الأخضر”، عادت إلى به إلى الحظيرة خلافاً لتعليمات أبيه الذي طلب منها الذهاب إلى البركة مع فرخها الجديد، وهناك لم يقبلها أحد، خاصة الكلب ودجاجة الحظيرة التي أنجبت “ستة فراخ صفراء اللون، وقد كسا الريش أجسامها”، ص93، فـ”قررت ألا تترك باحة الحظيرة إلى أن يكتمل نموه بالكامل، ومهما كان ما ستقوله الطيور الأخرى التي ستهزأ منهما، لكن ذلك أفضل من أن يأكلهما ابن عرس”، ص95. وقد فوجئت إبساك بأن الديك يسمي ابنها فرخ البط الصغير، ولاحظت أن رجليه تمتلكان غشاء جلدياً، وبدأت بتحليل الأمور: “كنت جاثمة على بيضة البطة البيضاء كالثلج. كان المتشرد يعرف ذلك منذ البداية، وكان يعرف كذلك أنه على وشك أن يموت”، ص97. ولكنّ رغبة المزارع في قص جناحي الفرخ الصغير اصطدمت بحلم إبساك بالطيران حتى من خلال صغيرها، فقررت الهرب به إلى حقل القصب قرب البركة: “أيريدان قص جناحيه؟ هذا مستحيل”، ص103.
الموجة السردية الخامسة: فرخ البط الصغير يبطبط:
ابتنت إبساك لها ولصغيرها عشاً في حقل القصب، وجعلته يتدرب على السباحة مع رئيس البط، ورفضت عودتها أو عودته مع أسرة البط إلى الحظيرة، وأحست بخطر ابن عرس فغيرت مكانها، وحفرت عشاً جديدا في منحدر يطل على حقل القصب، ولكن الصغير يريد أن يذهب إلى الحظيرة ليبطبط، على الرغم من أن الدجاجة عملت على إقناعه بالبقاء خارجاً: “إننا لا نمتلك أي سبب يا صغيري للعودة إلى المزرعة. فأنا دجاجة لا فائدة ترجى مني، أما أنت فتتفوق على كل الطيور هناك”، ص140. لكنه عاد، وعانى بعض الاحتقار، وربطته زوجة المزارع تمهيداً لقص جناحه، فبكته إبساك على البعد: “ظلّ الرأس الأخضر في الحظيرة مربوطاً إلى عمود بجانب القن، وبذل مجهوداً كبيراً كي يتخلّص من القيد، ولكن من دون جدوى، فانفجر بالبكاء، وبكت إبساك معه”، ص146. ثم هاجمت إبساكُ زوجةَ المزارع، بينما تريد نقله إلى داخل الحظيرة، فهرب طائراً إلى خارجها.
الموجة السردية السادسة: إبساك وصغيرها من الأرض إلى السماء
تدرك إبساك متأخرةً سبب نصيحة صديقها فرخ البط الراحل بالذهاب إلى البركة، وذلك حين يظهر سرب كبير من طيور البط البري، فصديقها كان يريد من ذهابها إلى البركة أن يلتحق الصغير بعائلته، وحين يحاول ترفضه العائلة، فيعود إلى أمه، ثم يقبله السرب حارساً بسبب رهافة سمعه، بعد أن افترست بنات عرس حارس السرب ومرشده.
وعندما يغادر سرب البط نهائياً مع صغيرها تغمض عينيها؛ ليداعبها حلم الطيران، فتقترب منها أنثى ابن عرس وتصطادها، لتكون النهاية التي يختلط فيها الواقعي بالخيالي: “حركت إبساك جناحيها الكبيرين والجميلين، وطارت وهي تنظر إلى الأسفل. أجل كان كل شيء تحتها. رأت البركة، والحقل الذي غطته العاصفة الثلجية، وأنثى ابن عرس التي كانت تسير مرهقة، وهي تحمل دجاجة نحيلة”، ص190.
وعلى الرغم مما أسلفنا فيه القول عن تعاقبية الحدث، فإن ثمة إشارات برقية غامضة تقدّمها الكاتبة إيذاناً بأحداث قادمة، فهي تقدّم الحدث من خلال مفردات تحتمل التأويل، ثم يكشف السرد فيما بعد حقيقتها، فأول تلميح إلى موت البطة البيضاء جاء في السياق التالي:
“ما إن اقتربت إبساك من أجمة الورود البرية حتى سمعت صرخة حادة ترددت أصداؤها عبر الحقول: كواك.. رأت إبساك كائناً يبتعد خلسة، ولمحت ما يشبه الذيل القصير والسميك، وهو يختفي من الأجمة الكثيفة”، ص62.
وحين رأت إبساك البيضة كان ذلك المشهد محمّلاً بالتشويق والغموض الذي سيشرحه السرد فيما بعد: “رمشت بعينيها عاجزة عن التصديق، ثم أرجعت راسها ونظرت مجدداً:
ـ يا لجمالها.
(…) كانت بيضة كبيرة وجميلة، لكنّ إبساك لم تر أحداً قربها”، ص64.
كما استخدمت الكاتبة الحلم بمعناه الرؤيوي، حين حلمت إبساك بأن تخرج من القنّ، وأن ترقد على بيض، وأن تصبح أماً، وأن تطير، ومن هذه الأحلام حلم اليقظة النهائية ما قبل الموت بين فكّي ابن عرس، وحلم يشبهه كانت قد رأته في يقظتها وهي في عربة الدجاجات الذاهبة إلى الموت في بداية الرواية: “رأت إبساك نفسها جاثمة فوق بيض في عش، وكان ديك شهم يسهر على راحتها، بينما تدلّت أزهار الخرنوب حولها مثل ندف الثلج”، ص27. و”جعلت إبساك نفسها تصدّق أنها تجثم فعلاً على البيض، وابتسمت فيما كانت تفقد وعيها”، ص27.
رابعاً ـ إبساك وامتدادها:
استخدمنا عنوان “إبساك وامتدادها” لدراسة شخصية إبساك وصديقها المتشرد، وابنه التي غدت أمه باحتضان بيضة البطة البيضاء، ونبدأ من شخصية الدجاجة إبساك التي نسجت هوانغ حولها مدار الحكاية، وقد بدت لنا دجاجة متميزة، سمّت نفسها بهذا الاسم لأنها تشعر بخصوصيتها وفرادتها في عالم لا يقيم وزناً للأسماء، ولأنه معنى هذا الاسم يحيل على الطبيعة وتجددها وحريتها:
- “يعني اسم إبساك الورقة، وهي تعتقد أنه أفضل اسم في العالم، إذ تحتضن الأوراق نسمات الهواء وضوء الشمس، ثم تسقط على الأرض، وتفسح المجال لأوراق أخرى بالنمو مكانها”، ص14.
- “أعجبت إبساك بأوراق الشجرة كثيراً، إلى حد أنها سمّت نفسها إبساك”، ص14.
وقد كان الترجّح بين القوة والضعف أظهرَ الصفات الجسدية لهذه الدجاجة: تضرب عن الطعام، فتضعف، وتأكل في سهول الحرية فتقوى، ثم يرهقها السهر والمطر فتضعف من جديد:
- “أصيبت بالزكام بسبب تبلل ريشها على الدوام، وكانت نحيفة بشكل مختلف، لأنها كانت تبدّل مكان نومها كلّ ليلة من دون أن تحصل على ما يكفيها من النوم في الليل”، ص129.
- “ازدادت إبساك قوة بالرغم من نحافتها”، ص130.
- “أصبحت إبساك أكثر هزالاً من أي وقت مضى. فقد كانت تأكل ما يشبع جوعها فقط”، ص153.
وكان ضعفها يرتبط إلى حد بعيد بحذرها من ابن عرس، وكان لذلك أثر نفسي وآخر جسدي؛ إذ كانت حياتها خارج الحظيرة تتطلب كثيراً من الحذر؛ إذ لم تمكث مع صغيرها/ الرأس الأخضر “في المكان ذاته ليلتين متتاليين، كما كانت (…) تتمكن من مراقبة ابن عرس وهو يعود خائب الأمل”، ص130، وقد كانت تشعر كل يوم بالجوع، حيث تزداد ضموراً بسبب انشغالها بالخطر الذي يمكن أن تتعرض له مع صغيرها في أية لحظة: “شعرت إبساك بالجوع، وهي التي لم تأكل أي شيء من أن انشغلت بمراقبة ابن عرس”، ص166.
وبالرغم من كل ذلك الهزال الذي عانته بين فترة وأخرى كانت تواقة للقوة، تحسد ابن عرس على قوته، وتتمنى أن تمتلك قوة أكبر منها: “ابن عرس، ذلك الصياد الرهيب! إنه يخيفني، وأنا أكره كثيراً؛ لأنه سلبني كل شيء ذي قيمة بالنسبة إلي. ليتني كنت أقوى منه”، ص113.
غير أنّ فقدان القوة في أي مرحلة من المراحل لم يعنِ أبداً فقدان الشجاعة، وقد أشار فرخ البط المتشرد إلى شجاعتها بينما كان يخاطب بطات الحظيرة: “لقد هربت هذه الدجاجة من حفرة الموت. هل تمكنت أي دجاجة أخرى من الخروج حية من تلك الحفرة سابقاً؟ لقد استطاعت هذه الدجاجة تسلق الحفرة بكل جرأة؛ بالرغم من أن عيني ابن عرس كانتا مركزتين عليها”، ص41.
وقد أصبحت أكثر ثقة بنفسها حين احتضنت البيضة، وحققت أمنية غالية من أمنيات حياتها، ولا سيما أنها عاشت الأمن والاكتفاء في ظلّ حراسة صديقها فرخ البط المتشرّد الذي كان يجلب لها سمكة كل يوم: “أنا بخير الآن، وأمتلك مخالب صلبة ومنقاراً قوياً”، ص74.
ولا شك أنّ إبساك كانت تدرك ضعفها أمام قوة ابن عرس وتتحاشاه، ولكنها حين تضطرُ إلى مواجهته، خاصة إذا تعلق الأمر بفرخها الصغير، تتحول إلى دجاجة مقاتلة: “ارتعب الرأس الأخضر، واستمرّ يصفق بجناحيه. أظهرت إبساك مخالبها، ونفشت ريشها، التقت عيناها عيني ابن عرس. قالت إبساك بلهجة تحدّ تدلّ على استعدادها لمواجهة الموت: كوك كوك، لن أسمح لك بالإمساك به”، ص132.
وفي معركة شرسة بينها وبين ابن عرس دافعت بشراسة عن الرأس الأخضر/ بايبي، وتدحرجت مع ابن عرس إلى أسفل الوادي، وتمتمت بصوت ضعيف، بعد أن كادت تفقد وعيها: “اهرب يا بايبي”، ص133.
كما تميزت بالتحدي والجرأة والإصرار على تحقيق أحلامها رغم الخطر الذي يتربّص بها، فعند إخراجها في عربة الدجاجات المحتضرة قالت في نفسها “لن أموت هكذا (…) لا يمكنني أن أموت بهذه الطريقة. ليس الآن على الأقل؛ أريد الذهاب إلى باحة الحظيرة”، ص26. كما قارعت الموت حين سارت بتشجيع من فرخ البط البري/ المتشرد، نحو نهاية الحفرة التي تحتوي جثث الدجاجات الميتة، وحين نجحت في ذلك سألها فرخ البط: إلى أين ستذهبين؟ فأجابت: “حسناً، لا أنوي العودة إلى القنّ بالتأكيد”، ص33، وعلى الرغم من عدم رغبة طيور الحظيرة بعودتها، لم تفقد إيجابيتها؛ لأنها غادرت القن، وها هي ذي تقول: “ليس هناك سبب كي أحزن؛ لأن أمنيتي الأولى قد تحققت”، ص48.
وقد قادها الإصرار على حرية فرخها الصغير أن تغادر الحظيرة، وتدخل إلى عالم المجهول: “غادرت الدجاجة المزرعة مع فرخ البط الصغير، ومرا أمام شجرة الخرنوب الأسود (…) كانت إبساك أكثر تصميماً، وهي تدخل عالم المجهول”، ص104، كما قادها إلى مواجهة رئيس البط، ومنعه من اصطحاب ابنها إلى الحظيرة من جديد، فقالت له: “أرجوك أن تأخذ عائلتك، وتغادر هذا المكان، نحن لن نعود”، ص119؛ لذلك لم يجد رئيس البط أخيراً بُدّاً من التعبير عن احترامه لها، وإعجابه بها: “أنت مختلفة عن دجاجة باحة الحظيرة، تبدين أكثر ثقة بنفسك، وأكثر مهابة”، ص174.
كما خاضت معركة أخرى مع زوجة المزارع التي أرادت، بعد المجزرة التي ارتكبها ابن عرس بحق الديك الصغير، أن تُدخل الرأس الأخضر إلى الحظيرة، وهو ما يعني أن إبساك لن تراه لاحقاً؛ لذلك هاجمت زوجة المزارع ونقرتها بشراسة: “حاولت زوجة المزارع إبعاد إبساك عنها؛ ولذلك أفلتت الحبل الذي يقيّد الرأس الأخضر”، ص152، فطار بناء على طلب إبساك واختفى سرعت وراء الجبل، وأسرعت إبساك إلى خارج باحة الحظيرة متفادية مكنسة زوجة المزارع.
أما أظهرُ صفات الدجاجة النفسية التي تحتل أهمية قصوى في هذه الرواية، فهو طموحها الذي أورثها قدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها، من أجل تحقيق أحلامها، حتى في أصعب ظروف المعاناة؛ فقد رفضت أن تبيض لأن بيضها يذهب إلى السوق، ولا يتيح لها المزارع أن تصبح أمّاً، وهو ما أدى إلى شعورها بأن حياتها بلا جدوى: “كانت تشعر بفراغ في قلبها في كل مرة تأتي زوجة المزارع وتأخذ بيضها”، ص13، من هنا ظلّ حلم الأمومة يراودها، وقد أكّدت عليه غيرَ مرّةٍ، فقالت: “ليتني أتمكن من أن أجثم على بيوضي، وأن أراقبها عندما تفقس”، ص12، كما أعادت تكرار رغبتها لاحقاً: “أريد أن أحضن بيضي أنا، وأن أحصل على فراخ أهمس لها: لن أتخلى عنك أبداً”، ص27، وصرّحت بأمنيها دون مواربة: “عندي أمنية.. أريد أن يفقس البيض الذي أضعه، وتخرج منه فراخ صغيرة”، ص59، بل إنها حسدت دجاجة الحظيرة، ليس لأنها رشيقة فقط، بل لأنها “على وشك أن تحتضن فراخها”، ص44.
هذه الدجاجة الطموح، العنيدة المتمردة اتخذت قرارها بعدم وضع البيض، وقررت أن تفعل ما في وسعها؛ لتنفذ قرارها:
- “لن يتكرّر هذا مجددا”، ص11.
- “لا أريد وضع البيض مجدداً! أبداً”، ص18.
وحين تضرب عن الطعام وتهزل تعطي المزارع بيضة صغيرة بشعة وملوثة بالدماء (وغير صالحة للبيع)، فيلقي بها على الأرض؛ وإذ تنكسرُ تنكسرُ معها روح إبساك التوّاقة إلى الأمومة: “رمى المزارع تلك البيضة أرضاً، فتناثرت محتوياتها دون أن تُحدث أي صوت (…) بكت إبساك للمرّة الأولى في حياتها، وارتجفت بشدة، وأغلقت منقارها”، ص18.
لقد سعت إبساك إلى تحقيق حلمها الأول وبدأت بتحقيقه حين وجدت بيضة لا يرقد عليها أي طائر (بيضة البطة البيضاء)، وبدأ قلبها يخفق بسرعة: “لا تستطيع إبساك أن تترك البيضة بمفردها. بدأ قلبها يخفق بسرعة، وكانت قلقة من أن تموت البيضة إن لم تحضنها وتبقيها دافئة”، ص64، وقد وجدت في ذلك فرصة سانحة؛ لكي (تتبنى) بيضة لا أمّ لها، وتصبح أمّاً تأخذ دورها في منح الدفء وسرد الحكايات: “هذه بيضتي أنا. يمكنك يا صغيري أن تصغي إلى حكاياتي”، ص65، وقد “أحبت إبساك البيضة التي تضغط الآن على صدرها العاري”، ص65، و”تمكّنت من سماع دقات قلب الفرخ الصغير داخلها من خلال القشرة”، ص66. أما بعد خروج الفرخ من البيضة، فإنها لم تصدّق أنها تراه؛ إذ كان دافئاً وحقيقياً:
“أهذا أنت يا صغيري؟!
اندفعت إبساك إلى الفرخ الصغير الذي خرج حديثاً من البيضة، وأمسكته بجناحيها. كان حقيقياً وصغيراً ودافئاً”، ص87.ٍ
كانت إبساك أمّاً حقيقية تتعاطف مع صغيرها، وتحس بالإشفاق لأجله، حين يرفضه سرب البط الكبير، وحين يجلس بعيداً ويسبح وحيداً، وقد دأبت على حراسته، وهرّبته من الحظيرة قبل أن تقص زوجة المزاراع جناحيه، وقد كانت تلك الأم مثالية حتى النهاية؛ حين فرحت بالصغير الذي التحق بسرب البط، وطار معه إلى بلاد الدفء، على الرغم من أن ابتعاده عنها يسبب له الكثير من الألم.
- “يجب عليك أن تغادر. ألا تعتقد أنه يجب عليك أن تكون مع عائلتك”، ص171.
- “وقفت إبساك فوق التلة، وراقبته وهو ينضمّ إلى طيور البط البري، وشعرت بفراغ كبير في قلبها”، ص172.
وقد بدت إبساك في هذه الرواية أكثر رقّة مما يُنتظر منها، بوصفها أمّاً، ولا نقصد هنا الموقف السابق الذي تخلت فيه عن (ابنها) كي يلتحلق بأسرته، بل نقصد تعاطفها مع غريمتها أنثى ابن عرس التي تقضي حياتها في الجري من أجل صغارها: “إنها أم تركض في أنحاء الحقل عندما يحل الظلام، وهي الأم التي تضطر إلى العودة بسرعة من أجل صغار لم تفتح عيونها بعد. إنها الأم التي لن تتمكن من البقاء على قيد الحياة إذا لم تركض بمثل سرعة الرياح”، ص181.
وكما حققت حلم الأمومة بإصرارها انطلقت لتحقق حلمَيْ الحريّة والطيران، فمن أجل حلم الحرية غادرت القن، ومن أجله غادرت الحظيرة، وفيما بعد غادرت حقل القصب، بل إنها غادرت فكرة العش ذاتها، حتى تضمن حياتها الحرة وحياة صغيرها، فـ “صممت ألا تصنع عشاً لها في أي مكان من هذا العالم، وأن تظلّ يقظة، كي تلاحظ ظل الصياد قبل اقترابه منها”، ص125.
أما حلم الطيران فقد راودها مراراً، و”كان أكثر ما تتمناه أن تتمكن الدجاجات من الطيران مثلما تفعل الطيور الأخرى”، ص118، وقد حققت ذلك الحلم واقعياً ورمزياً: واقعياً من خلال صغيرها الذي التحق بسرب طيور البط البري المهاجرة، بعد أن صرّح لأمه إبساك “أريد أن أطير.. أريد أن أطير بعيداً”، ص188، ورمزياً من خلال الحلم النهائي الذي شكّل السياق الختامي للرواية: “حركت إبساك جناحيها الكبيرين والجميلين، وطارت وهي تنظر إلى الأسفل. أجل كان كل شيء تحتها. رأت البركة، والحقل الذي غطته العاصفة الثلجية، وأنثى ابن عرس التي كانت تسير مرهقة، وهي تحمل دجاجة نحيلة”، ص190.
فإذا انتقلنا إلى الحديث عن فرخ البط البري المتشرد، المنبوذ من قبل سرب البط غير البري الذي يعيش في الحظيرة، نجد أنه كان ذا سمات مميزة، فهو “أخضر اللون مثل أوراق شجرة الخرنوب، ولهذا لم يكن يشبه بقية البطات”، ص17، وكان ثمة لون بني يخالط اخضراره، فيتميز بهذا الاختلاف عن الجميع، ويخسر فرصة انضمامه إلى أسرة البط. وقد امتاز هذا الفرخ المتشرّد بشهامة لا تتصف بها بقية البطات، وشجع إبساك على الخروج من حفرة الموت، حتى لا يظفر بها ابن عرس، على الرغم من أن هذا الفعل يعرضهما معاً لغضبه، وأنيابه، فقد قال يشجعها: “أنت لست ميتة، قفي بسرعة (…) لا تتكلمي. اركضي فقط، بسرعة (…) سيمسك بك إذا لم تخرجي من هناك”، ص28.
وقد شهدت حياته تطوراً مهماً حين وقع مع البطة البيضاء في شباك الغرام، وقد شاهدته إبساك، فشعرت على الرغم من غيرةٍ حَرَمَتْها صديقها، بالسعادة من أجله، “وهو يغطس في المياه مع البطة البيضاء، ثم يقفز على ظهرها. كانت إبساك سعيدة لأن فرخ البط البري الذي كان وحيداً على الدوام وجد رفيقة له”، ص60.
وتثمر هذه العلاقة عن بيضة وحيدة، لأن ابن عرس سرعان ما يفترس البطة البيضاء، فيبقى فرخ البط البري يحرس بيضة بطته التي رقدت عليها إبساك طول الليالي المتتابعة، ولا يغادر أجمة الورد إلا في الصباح، بعد أن يخوض ليلياً معارك دامية مع ابن عرس، دون أن تعرف إبساك سرّ علاقته بالبيضة، ودون أن تعرف سبب إحضاره سمكة كل يوم لكي تتناولها:
- “كان فرخ البط يركض في بعض الأحيان وهو يصفق بجناحيه. اعتبرت إبساك الأمر غريباً؛ لأنه لم يكن يفعل ذلك في باحة الحظيرة”، ص71.
- “في إحدى الليالي لم ينم فرخ البط البري مطلقاً، وظل يركض هنا وهناك، وكأن أحداً ما يلاحقه”، ص73.
لذلك كانت تعترض على ضجيجه، وتقول له: “كنت لطيفاً معي وأنا ممتنة لك، ولن أنسى فضلك ما حييت. لكنني وكما تعلم، أعتني ببيضة”، ص73، ولكنّ البط البري يطمئنها أنه لن يزعجها للأبد، فيتمتم، “كأنه يحدّث نفسه: سأبقى فقط إلى أن تفقس البيضة”، ص74. وحين تحاول أن تفهم سبب إصابة جناحه، يختفي مزاجه الهادئ فجأة، وحين تسأله عن رفيقته البطة البيضاء يقول لها: “طلبتُ إليك ألا تتحدثي في هذا الموضوع”، ص78. وأخيراً تدرك كل شيء بعد أن يفترسه ابن عرس، فقد حماها وحمى بيضة بطته، وعارك ابن عرس، حتى تمكّن منه الأخير، فتقول: “كنت أباً عظيماً أيها المتشرد”، ص97، وتقدّر أنه طلب منها الذهاب مع الصغير إلى البركة، هرباً من مقصّ زوجة المزارع: “هل كان فرخ البط يعرف أن لأمر سوف يكون هكذا.. اذهبي إلى البركة وليس إلى باحة الحظيرة”، ص103، غير أنها تدرك حكمته وبعد نظره حين تعرف أنه أراد منها الذهاب مع الصغير إلى البركة؛ حيث تأتي أسراب البط البري كل عام: “سبق لفرخ البط البري أن أبلغ إبساك بضرورة الذهاب إلى البركة مع بايبي. ظنّت إبساك أنها فهمت ما يعنيه، لكن ذلك لم يكن صحيحاً، والآن فقط، فقد أراد فرخ البط البري أن يكبر صغيره ويطير كي يلحق بعائلته”، ص159.
لقد كان فرخ البط البري المتشرد أهلاً للصداقة، وكان من الطبيعي أن يكون جديراً بحزن إبساك بعد أن رأت بأم عينها ابن عرس، وهو يمسكه بين فكّيه: “سارت على غير هدى وسط الظلمة، وتمنت أن تعثر حتى على ريشة واحدة منه”، ص85، وراحت رغم ضعفها وعجزها تلوم نفسها: “مات المتشرد، لكنني لم أفعل شيئا، لم أتمكّن من التحرّك لأنني كنت خائفة”، ص86.
وإذا كان فرخ البط البرّي (الأب) يمثّل للدجاجة الصديق الصدوق الذي يُعتمد عليه، فإن فرخ البط البري الصغير يمثّل للدجاجة أكثر من ابن، فهو ابن بالصدفة، ومن شبه المستحيل أن يتكرّر، وهو وساطة حلم الأمومة والطيران، وقد برز في الرواية من خلال مجموعة من الصفات الجسدية والنفسية، “كان الرأس الأخضر يمتلك سمعاً مرهفاً، ولذلك كان يحسّ على الدوام بشبح ابن عرس الزاحف إليه قبل وصوله”، ص ص154ـ 155، وقد كان تميّزه الشكلي، بلونيه الأخضر والبني، وبالاً عليه، إذ عاني الرفض والإهمال من قبل بطات الحظيرة، كما عانى التهديد بقص الجناح من قبل زوجة المزارع، وعلى الرغم من أنّه كان يريد أن يبطبط لا أن يقوقئ، فقد تأخرت إبساك قليلاً في استيعاب هذا الأمر، بدافع الخوف عليه، فحين حاول رئيس البط أن يدفعه إلى الماء “نفشت إبساك ريشها، وصاحت غاضبة: دعه وشأنه.
ركض بايي عائداً إليها، واختبأ تحت جناحها، فتنهد رئيس البط بحسرة:
ـ أنت مخطئة، يظل فرخ البط فرخ بط، حتى لو حضنته دجاجة”، ص113.
غير أنّ الأمر بدأ يستقر تدريجياً لصالح قانون الطبيعة، وصارت البركة والسماء مكانين طبيعيين للصغير بايبي:
- “لم تتمكن إبساك من الوصول إلى بايبي، لأنه ابتعد كثيراً في الماء (…) كان يطفو على سطح الماء، وإن كان يفعل ذلك بطريقة مضحكة”، ص115.
- “في أحد الأيام سبح بايبي إلى مسافة أبعد من المعتاد، وعاد مع رئيس البط الذي كان يسبح خلفه”، ص116.
- “كان الرأس الأخضر منشغلاً بالطيران، ويمضي يومه بكامله عند البركة، وهكذا كانت إبساك تتجوّل في حقل القصب، أو تتسلق التلة لتشاهده وهو يسبح ويطير”، ص136.
وهناك جانب نفسي مهم في شخصية فرخ البط الصغير بايبي الذي بدأ، مع تفتّح وعيه، يعيش صراع ثنائية الانتماء، بين مشاعرة الميّالة إلى أمّه الدجاجة، وبين قانون الطبيعة، وكثيراً ما تسرّب الحزن إلى نفسه نتيجة لذلك الصراع: “ازدادت كآبته هذه بعد أن تغيّر لون ريشه”، ص130، وقد راح ينفرد بكآبته، وبأفكاره بعيداً عن إبساك التي كانت تحس، بوصفها أمّاً، باستغراقه في التفكير بعيداً عنها؛ وإذ يبتعد عنها تشفق على وحدته ووحدتها في آن:
- “شعرت إبساك بالإحباط لأن الرأس الأخضر لا يشاركها أفكاره حتى عندما تسأله”، ص130.
- “كان الرأس الأخضر غافلاً عن الوحدة التي تحس بها إبساك، لكنه كان وحيداً أيضاً”، ص137.
وتدرك الدجاجة الأم تدريجياً أن عليها أن تتحمل عقابيل اختلافه عنها، يساعدها في ذلك ابنها البار بايبي الذي يريد أن يبطبط، ولكنه يعبّر في كل مرة عن ذلك بطريقة عاطفية، لا تلغي المشاعر المتبادلة بينهما:
“أعرف أنك تحبينني يا أمي. لكننا مختلفان”، ص139.
“تبدين مختلفة عني، لكنني أحبك يا أمي”، ص172.
وقد ظهر هذا الحب بأنصع بيان في أثناء تطور الأحداث؛ إذ أظهر بايبي كثيراً من العاطفة، وهو يودع أمه إبساك أولاً، وهو يشيعها، ثانياً، بنظرات أخيرة إذ يحلّق مبتعداً عن سربه حتى تراه، بينما أظهرت الأم حبها من خلال تضحيتها ببقاء ابنها لصالح انتمائه لمملكة السماء والحرية.
خامساً ـ حيوانات في سجن الحظيرة:
وفي المقابل برزت حيوانات الحظيرة في موقف عدائي تجاه إبساك، وهو موقف لا يمكن تسويغه إلا بالغيرة من استقلايتها، وتميّزها، أو بعدم استيعاب أحلامها وطموحاتها في مكان يؤمّن طعاماً ممزوجاً بالخنوع الأليف. وتبدو مثل هذه الثيمة التسويغية (الغذاء مقابل الخنوع) مألوفة للقارئ العربي، وحسبنا هنا أن نشير إلى قصة (النمور في اليوم العاشر) لزكريا تامر.
فالكلب الحارس يحرس سجناً هو سجين فيه، ويعمل على منع الدجاجة مع فرخ البط البري الصغير من الدخول إلى الحظيرة: “لا يمكنني السماح لأي كان بالدخول إلى هنا. إنّ سمعتي كحارس لا غبار عليها”، ص39. ويمنع أي محاولة تقرّب الدجاجة من الحظيرة، وكأنّ نباحه لا يُستحضر إلا لطردها: “حاولت إبساك جاهدة إقناع طيور الحظيرة بعدم طردها، لكن شراسة الكلب كانت تزداد عند كلّ محاولة”، ص41.
إنه يتعامل مع الدجاجة، بوصفه موظفاً عند المزراع، مكتفياً بقوت يومه، شأنه في ذلك شأن الديك/ الملك الذي تخاف منه جميع حيوانات الحظيرة، بمن فيهم الكلب (ونستخدم هنا (مَنْ) مع إدراكنا أنّ (مَنْ) تشير إلى العاقل، و(ما) لغير العاقل؛ إذ إننا أمام شخصيات تقترب من النماذج البشرية في مونولوجاتها، وأحلامها، وطرائق تفكيرها، وهي في الأساس تمثّل إسقاطات لشخصيات ذات امتدادات واقعية، تحيل أفكارها على الخير والشر، وعلى السجن والحرية، وغير ذلك مما يقرّب عالم الحظيرة من عالم البشر)، فالديك هنا ملكٌ غير متوّج، أو لنقل إنه ملك ليس له من سطوة الملوك سوى الطعام والتبختر وسط حيوانات السجن/ الحظيرة، والصراخ عليهم، وتدليل دجاجة الحظيرة التي كانت، برغم جمالها ومكانتها، تغار من إبساك: “لا يمكننني أن أرتاح إذا لم تغادر تلك الدجاجة عند الصباح. إن أعصابي لا تحتمل وجودها، وخاصة لأنني على وشك أن أضع البيض”، ص44.
إنه ملك “يمتلك ريشاً جميلاً وعرفاً أحمر اللون. وبدا أنيقاً بعينيه اللتين لا تعرفان الخوف ومنقارِهِ الحاد”، ص16، وهو يستمتع بوظيفته الصباحية “كان ينادي في كل صباح بصياحه المميز كوكو كوكو، لكنه لم يكن يفعل شيئاً عدا عن ذلك غير الاسترخاء مع دجاجة الحظيرة”، ص15، ويفرض سطوته على الكلب، ويأكل من إنائه، ولا يخاف نباحه، و”كانت هذه هي طريقة الديك في تذكير الجميع بأنه ملك باحة الحظيرة”، ص16. ويتجاوز رغبة الكلب في عدم استضافة إبساك في الحظيرة، فيمهلها ليلة واحدة؛ ليثبت للجميع (جميع سجناء الحظيرة) أنه ملك:
- “سوف أسمح للدجاجة بدخول الحظيرة، وإنّما لهذه الليلة فقط (…) عليكِ أن تغادري ما إن أصيح معلناً طلوع الفجر”، ص43.
- “خاطبها كأنه يذيع مرسوماً: من الأفضل لك عندما أصيح في المرة التالية أن تكوني في الخارج”، ص46.
ومن الطريف أن تُبرز صن ـ مي هوانغ عيب استئناس المرء بعبوديته، من خلال هذا الديك الذي
يقول لإبساك: “أنت عار كبير على الطيور ذات الأعراف”، ص98، ويتهمها بعدم الخجل، والاستهتار بقيم الطيور ذات الأعراف: “ألا تخجلين من نفسك، أنت التي تنتمين إلى فصيلة الطيور ذات الأعراف، لأنك حضنت بيضة طائر آخر؟”، ص98، في حين أنه يتناسى أن إبساك عملت على تحرير نفسها، بخلاف جميع سجناء الحظيرة البائسة، بمن فيهم الملك/ الديك نفسه.
في هذه المملكة التعيسة يفكّر الجميع بالطريقة نفسها، ويعزّ تفريد الشخصية، وتغلب الصفات الجمعية التي تتماثل في طعامها، وفي تفاصيل حياتها، وفي طريقة تعاملها مع إبساك، ويمكن تجلية ذلك من خلال المقتبسات التالية:
- “كانت مجموعة كبيرة من البط متجمعة حول إناء خشبي ورؤوسها تكاد تختفي عن الأنظار نحو علفها، فيما ذيولها تشير نحو السماء”، ص15.
- “وقد دفعها [الكلب] بخطمه عدة مرات، فيما ضحكت البطات كثيراً”، ص40.
- “دفعت إبساك راسها إلى الوعاء، وابتلعت المزيد من الطعام، غير أن البطات تجمعت حول الوعاء وقد رفعت أذيالها في الهواء، من دون أن تترك فراغاً يسمح بمرور شيء بينها”، ص ص 48ـ 49.
- “طيور باحة الحظيرة تكرهني على أي حال”، ص61.
ولم يكن سجّان الحظيرة سوى مزارع يمثّل السلطة التي تفيد من الناس، فهو يطعم الدجاجات لكي تعطي البيض؛ إذ يقول وهو يقدّم لها طعام الإفطار:
- “أريدك أن تضعي عدداً كبيراً من البيض كبير الحجم؛ فقد ارتفع سعر العلف مجدداً”، ص13.
- “كلي جيداً لتضعي بيضاً كبير الحجم”، ص15.
وقد “كان يردد الكلمات ذاتها في أثناء تقديمه كل الوجبات”، ص15، ويفترض الطاعة في الجميع، لذلك ـ حين رفضت إبساك تناول الطعام “وقف أمامها متعجّباً لأن الطعام الذي وضعه لها يوم أمس بقي كما هو”، ص17.
ولم تختلف عنه زوجته كثيراً ودارت في فلك المنفعة الشخصية، تستأنس الطائر البري بقصّ أجنحته، وتُخرج الدجاجات العليلة من القن، وتقرّر الإفادة من لحم الدجاجة حين يتعذّر بيضها:
- “حسناً، إنها لم تعد تضع البيض. هل يجب علينا أن نطبخها”، ص49.
- “هل يجب علينا أن نضعها في القن؟ أم نصنع منها حساء للعشاء في الغد؟”، ص103.
في المقابل، تبدو شخصية ابن عرس خارج نسق الشخصيات الأخرى، إذ تمتلك حريتها، وتستثمرها في الشرّ (الذي تكتشف إبساك نفسها ارتباطه بالصراع من أجل البقاء)، وتمثل هذه الشخصية القدر الذي لا يكاد يُردّ، فهي الموت الذي يلاحق الجميع، وقد بدأ تعرفها إلى الدجاجة في الوقت الذي تعرفت فيه إلى فرخ البط البري المتشرد الذي ساعدها في الخروج من حفرة الموت، فكان نصيبه حقداً يعتمل في نفس ابن عرس، سرعان ما تجلى بافتراس بطته البيضاء، ثم بافتراسه، وأخيراً بافتراس إبساك: “كان ابن عرس يقف على قائمتيه الخلفيتين، ويحدّق إلى إبساك من بعيد، ولا بد أنه كان يشعر بالغضب الشديد من فرخ البط البري، لأنه حرمه من فريسته”، ص31.
لقد كان ابن عرس شديد الغضب، وشديد القوة والبطش، وقد ازداد غضبه وبطشه حين تمكنت إبساك في معركة بينهما من اقتلاع إحدى عينيه: “كان ابن عرس ذو العين الواحدة أكبر وأسرع بكثير من العدد الآخر من فصيلته، كما كان رشيقاً وماكراً جداً”، ص163، كما أن “مواجهته صعبة بالنسبة إلى الجميع”، ويندر أن يتمكن أحد من الهرب من بين فكّيه؛ لذلك كانت إبساك محظوظة جدا؛ إذ نجت في البداية منه، غير أنها كانت تخافه كثيراً: “أحست إبساك بموجة من الخوف تخترق جسمها. لم يكن ذلك غريباً لأن عيناً كانت تلمع وهي تنظر نحوها. أدركت فطرياً أن ابن عرس يراقبها”، ص148.
وكان ابن عرس ذاته ميّالاً إلى بث الرعب في نفس إبساك، خاصة بعد أن اقتلعت عينه، لذلك كان يقول لها بين وقت وآخر “إن فرخك شهي، وسوف ألتهمه قريباً”، ص148، و”احرصي على أن تظلّي حية وراقبي جيداً ما سأفعله بصغيرك”، ص149.
وإذا كان ابن عرس يمثّل القدر الحتمي لكل الطيور التي يصادفها على الأرض، فقد استطاعت إبساك أن تتحدى هذا القدر حين حافظت على صغيرها حتى كبر وتمكّن من الطيران إلى مملكة السماء التي لا يطالها أصحاب مملكة الأرض مهما اشتدّ بطشهم.
كلمات أخيرة:
ثمة أشياء أخرى كثيرة يمكن متابعتها في هذه الرواية، لولا خشية الإطالة، من مثل إمكانية مقارنتها مع قصة “البنفسجة الطموح” لجبران خليل جبران، ومن مثل فلسفة إبساك وانشغالها، إذ تراقب الطبيعة، بفكرتي التجدد والاستمرار، إضافة إلى تطور فكرة الحرية لديها. غير أن ما قدّمناه يبدو لنا كافياً لإعطاء فكرة عن رواية جديرة بالقراءة، من قبل مستويات مختلفة من القرّاء؛ لأنها مبنية أساساً على تعدّد الدلالات.
د. يوسف حطيني