رواية (تل).. فلسفة الاستخدام السردي للتاريخ -تحليل نقدي- ل د. وائل أحمد خليل الكردي

(أ) الاستخدام السردي للتاريخ:


“زرين.. المجد الزائف للتاريخ، الحرية في اعتناق الدين.. أتنوي إحياء طائفتها” (تل).

رواية (تل) للروائية السعودية أمنة صدقي بوخمسين، ربما تبدو كسردية تاريخية أو شبه تاريخية فوقائعها حدثت من لدن شخصية كانت تعيش بالفعل في زمان مضى، ولكنها في واقع الأمر رواية (في استخدام التاريخ) وليست تأريخاً لحقبة وشخوص ومعتقد، وليست أيضاً رواية تاريخية. إن المقدمة المنطقية في هذه الرواية لم تُبنى على ما تم في ذلك التاريخ ولكنها تبنى على الأثر الذي أحدثه ما تم في التاريخ وجر بنفسه إلى عصرنا الراهن. فإذا كان (السرد التاريخي) لا يخترع الكاتب فيه شخوصه ووقائع هذه الشخوص وإنما هو فقط جعلها ناطقة، حية، تفعل وتنفعل وتتفاعل، وما ذاك إلا بنطق المؤلف، وحيث ليس المكتوب سوى الكاتب. فمؤلف كل سردية تاريخية كما لو أنه يجري من نفسه عملية تحضير روحاني لشخوصه التي انقرضت منذ قرون؛ ولذلك يجئ التعبير السردي عن الشخصية التاريخية الواحدة ووقائعها تعبيراً متعدداً مع كل مؤلف أو كاتب بحسب وجدانه وزاوية الرؤية لديه والتصور الذهني عنده للأحوال والاعراض الإنسانية فيما وراء الواقعة التاريخية والفعل التاريخي وليس في التاريخ الصارم نفسه، لذلك صارت سرداً وليس وثيقة تاريخية. وفي الغالب أن المتذوق او المتلقي الناقد هو من يكتشف هذه الابعاد في النص السردي التاريخي التي تجعل منه فناً أدبياً، ليكون (الاستخدام السردي للتاريخ) فن من مقام آخر مستقل عن (السرد التاريخي)، وهذا ما يمكن أن يكون الإطار الذي يتم تصنيف رواية (تل) في داخله كنوع من الفن الأدبي.

ويمكن القول، أن السرد التاريخي هو ما يساعد الباحثين في التاريخ والمؤرخين وفق منهج البحث التاريخي استحضار الماضي إلى الحاضر بكل تفاصيله المدونة وتفاصيله التفاعلية الإنسانية وتجسيدها عبر الوسائط الاتصالية لتكون حالة من الماضي تعاش في الحاضر وعند جمهور اليوم الراهن. أما عن الرواية من نوع (الاستخدام السردي للتاريخ) فشأنها مختلف، إذ هي تخلق شخوصاً جديدة ووقائع جديدة متخيلة وأزمنة جديدة في قلب الحدث التاريخي وحول أشخاصه التاريخيين وأحداثه التاريخية، على نحو ما تم في رواية (تل) حول شخصية زرين الحقيقية ووقائعها التاريخية وأيضاً أبعادها الإنسانية المتخيلة في ثنايا التوثيق التاريخي لها. فهذا النوع من السرد يضيف الكاتب فيه وجوداً وأبعاداً جديدة لحدث قديم يعالج بها أحداث معاصرة تتعلق بمعاناة أو صراع إنساني يعايشه الناس في زمانه الراهن. ولذلك، فبينما يقصد كاتب (السرد التاريخي) إلى استحضار الماضي تفاعلياً، يقصد مؤلف (الاستخدام السردي للتاريخ) إلى كشف حاضر متخيل بحدوث الماضي الحقيقي وفيه تصور للتداعيات المستقبلية. إذاً، فرواية (تل) هي نموذج بارز لروايات الاستخدام السردي للتاريخ.

(ب) المقدمة المنطقية:


“عسى أن يكون ابراهيمي النشأة” (تل).

لكل عمل أدبي فني مقدمة منطقية تكون هي الفكرة الأساسية أو الغرض الذي تستهدفه الرواية في بناءها العام ومن تحقيق كل فعل أو حركة أو تصوير للمشاعر، ولذلك لابد أن تسري هذه المقدمة المنطقية بنحو أو بآخر عبر كل وحدات وفصول الرواية. فيستشعرها المتلقي ويبني عليها، وليس بالضرورة أن ما يجده المتلقي في الرواية هو حتماً ما قصد إليه المؤلف، فالأمر في الابداع متاح للإنسان فيه تعدد التفاسير والتأويلات، فالمقدمة المنطقية للرواية ليست هي الرواية وإنما ما يُفهم من الرواية.

إن الإنسان حتماً يكون ابن الأرض التي انتمى إليها بإرادة الله تعالى وسنته في خلق الشعوب والقبائل، ألم تصف الراوية حال الفتى الموصلي في الصحراء مقارنة بمن معه من أوروبيين حين مواجهة العاصفة بأن “غرس قدميه في الرمال ورفع ساعديه يقي عينيه من موج الغبار كعمود رخام دك الأرض دون أن يُزاح، لا لعضلاته المفتولة، بل لأنه ابن الأرض التي يقف عليها، ولتقل الريح كلمتها بأي اتجاه تشاء -تل”. فهذا ما يجعل المقدمة المنطقية في رواية (تل) هي: (تغلغل وتمكن البعد الأسطوري الروحاني في وعي الشرقيين في أي زمان ومكان). والاسطورة هنا ليست قصة أو معتقداً واحداً بعينه وانما هي حالة روحانية نفسية “وحيث كانت بلاد الرافدين موطناً حاضناً لأساطير لم يبقى منها إلا الطل، الذي خلف مجتمعاً مشبعاً بإحساس التجذر في أعماق الأرض التي يسير عليها، مقدساً ترابه، ومؤمناً بأن كنوزه تسير على الأرض في رجالات الدين، لا في الفخار المدفون ولا في قطع الرخام المحفورة أو ألواح الطين المدقوقة بالمسامير -تل”.

وتظهر هذه الحالة الأسطورية للوعي عندما يعلو الإنسان بقيمة معنوية وجودية معينة، وهو دلالة رمزية المعنى في تسمية عنوان الرواية (تل)، والذي هو علو يمكن أن يكون في أي موضوع أو مجال إنساني وليس قاصراً على موضوع محدد يعلو فيه الانسان وإلا لجاءت تسمية الرواية بأداة التعريف (التل)، برغم أن التل في الرواية بالفعل هو ميدان أو منطقة بحث آثاري ولكن التنكير في المسمى أخرجه من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية الرمزية؛ فصاحب هذا العلو إما أن يكون مواجهاً بردة فعل سلبية بجعله في مرمى حرب الناس واحراقهم له بنارهم على نحو ما أعدمت زرين تاج على يد أعدائها، وبنحو ما قتل المتطرف في بريطانيا أصدقاء وأحباء عماد المقربين بنفس الحسد أو الغيرة العاطفية التي قتل عليها قايين أخوه هابيل أول مرة، ربما نسبة لاعتقادهم في عقيدة أخرى مغايرة تشبع عندهم حاجة نفسية مهمة. وإما أن يواجه بردة فعل إيجابية بأن يرفعه الناس شيخاً وسيداً روحياً عليهم يستمدون منه بركتهم على النحو الذي تجلى في سلوك حواريي زرين تاج والباب والبهاء خلال الرواية، وتجلى أيضا في العصر الحاضر في سلوك وتفاعلات شخصية عماد حفيد زرين وأستاذ الجامعة للرياضيات في بريطانيا حيث كان من المتوقع بوضعه ذاك أن يكون ذا تفكير موضوعي منطقي صارم كما الرياضيات وكما هي طريقة الانجليز في حياتهم، ولكن جاءت تفاعلاته واحواله تحكي ذلك البعد الأسطوري الروحاني في انتمائه الشرقي لجدته زرين إرثاً جينياً ووجدانيا.

على هذا النسيج الأسطوري الروحاني القديم كان قول الشيخ صاحب محل الكتب في الرواية “أترك له أن يختار ما يقرأه لي كل مساء ليعيد لقلبي الحياة التي سرقها النظر -تل”، فالإنسان الشرقي يحب دائما أن يبصر الأشياء بقلبه أكثر مما يبصرها بعينيه، أولم يبدأ إبراهيم الخليل أول استدلالاته على حقيقة الله تعالى ليس بحجة منطقية وإنما بتفاعل وجداني عاطفي وهو الشعور بالحب أو عدم الحب (فلم أفل قال لا أحب الآفلين –قرآن كريم) ثم تدرج بعد ذلك في مراقي الاستدلال المنطقي. وكذلك دليل الروح الشرقي في مناداة الناس له بكنيته (أبا محمد) أحدث لديه نوع من الوحدة الوجودية جعلته يتوارى خلف اسم ابنه حيث قال “حين أسميته لم أدري حينها بأنني أعيد تسمية نفسي -تل”.

ودلالة العلو الإنساني بالقيمة كمقدمة منطقية للرواية تمثلت عند رزين تاج في توصيف الراوية لحالها بأن “سرت روحها في طريقها الخاص، وازدادت يقيناً برسالتها يوماً بعد آخر، وتشكلت رؤاها أمامها، وقادها الصوت الدفين في أعماقها، صوت الله، همس الوحي، والطاقة التي أمدتها لتخوض كُلاً فيما رفضه الجميع من حولها -تل” ليظهر ذلك السريان نوع ودلالة الصراع وعنصر الأزمة الدرامية في الرواية.

(ج) الصراع:


“هؤلاء الشرقيون يتحدثون عن ظلم النساء، ونساؤهم تخرج بدين جديد” (تل).

يمكن القول أن رواية (تل) هي دراما بنحو تكوينها لأنها تجسد أقوى أنواع الصراع الدرامي وهما (الصراع الصاعد) و(الصراع المرهص)، فالصراع الصاعد هو الذي لا ينفك يشتد ويقوى كلما تقدمت أحداث ووقائع الرواية، والصراع المرهص هو الصراع الذي يشف عما سوف يقع من أهوال دون أن يكشف عنها بنحو مباشر حتى يحقق التهيئة النفسية الانفعالية لدى المتلقي بإذكاء حرارة التشويق. وما كان محوراً لأنواع الصراع تلك في رواية (تل) ما المح إليه الشيخ ناسخ الكتب فيها بقوله “لن يقود أي نقاش مع شخص يحجب عينيه عن الحقيقة، وإن حمل الطرف الآخر أطراف الشمس بين يديه وقدمها قرباناً يدلل على الحقائق التي يعرضها بما يثبت صحتها من المتوارث والموثوق -تل”. وما ذاك العناد إلا لأن الاعتقاد في نفس الانسان الشرقي بعقيدة ما دائماً أقوى من تسليمه بحقيقة مخالفة لهذا الاعتقاد ولو قام عليها البرهان، وهذا في رواية (تل) يسير على سياق المقدمة المنطقية بها لخاصية تكوين الوعي الشرقي.

فيتخذ الصراع المتصاعد المراحل الثلات الاتية: في البدء، تعالي زرين على التقليد والموروث. ووفي الوسط، انتماء رزين لمعتقد جديد غريب تحت عناية شيخ هذا المعتقد. وفي الأخير، تصبح هي صاحبة الدعوة الجديد وتضع فيها بصماتها، الأمر الذي أفضى بها إلى الصعود ثم الهلاك.

وهذا الصراع الدرامي الصاعد لرزين في وقائع زمانها كان مرهصاً لاستمراره مع عماد في المستقبل وعلى نفس التصاعد بدأً من مرحلة البحث العميق وصولاً إلى مرحلة الاعتقاد وانتهاءً إلى معاناة اختلط فيها وجدانه الشرقي بواقع حياته ومتطلباتها في الغرب، ثم مقتله.

والملفت للانتباه في حبكة الصراع في الرواية هو مصدر هذا الصراع؛ والذي تكشف عنه الحرب الأزلية للإنسان في العالم على نموذج الصراع في الديانة الزرادشتية القديمة بين الروح الذي هو النور (اهورمازدا) وتمثله زرين تاج، والجسد الذي هو الظلمة (اهرمن) الذي مثلته شخصية هرمز المنقب الآثاري؛ فإن “هرمز يمثل صراع أجسادنا.. العطشى للخلود.. هو وآثاره وتنقيبه ومعاركه الهادئة. حاول أن يصنع من نفسه شخصاً ذا قيمة.. حاول جسده أن يجابه الموت..

بإكتشافه.. بسبر قصص الموتى الطاعنين في التاريخ.. أما زرين فتشكلت حكايتها من صراع الروح.. معركة ضروس لتحمل الأرواح للمنزلة أعلى -تل”. لهذا كان مصدر الصراع في الرواية أن المشكلة ليست تكمن بالأساس في ظهور وانتشار الدعوة الجديدة وانما المشكلة الأساسية، وما وراء الظاهر من الأمر، تكمن في أن هذه الدعوة الجديدة قائدتها إمراء أو بالأحرى فتاة؛ فقد كان ذلك مسعراً للنيران بمخالفة العرف الذي درج وتربى عليه الناس في الشرق أن الرسول في قومه رجل وأن الشيخ الخليفة رجل وبالتالي فإن القيادة من أي نوع هي سمة الرجال دون النساء ناهيك عن أن تكون قيادة روحية دينية يحج إليها الناس أقواماً لأخذ العلم والبركة فإذا هي امرأة. لقد “فردت الدعوة الجديدة أجنحتها، بتعاليمها التي جذبت عدداً لا يستهان به من الاتباع، ورزين تجدف وسط رياح الصد العارمة التي جابهت دعوتهم، تنتشل من استطاعت تبليغه بإمكانية إنقاذه -تل”. ونتيجة التضخيم لحجم الجرم في تولي فتاة زعامة روحية، أن جعلت من زرين بذاتها طائفة يدور حولها الحواريين والاتباع في زمانها كما يدور حولها عماد عالم الرياضيات في زماننا المعاصر. فإن أساس العقدة الدرامية في رواية (تل) هي “الوجه الأنثوي والوجه الذكوري.. الكيان الطيني والكيان الروحي.. الصراع الدائم بين ما نجاهر به وما نخفيه.. ما نستسلم له وما نقتاد إليه.. وما نخشاه -تل”.

(د) البناء والمغذى الفني:


“ماتت الكلمة على شفاهه وتقوض قاموسه، توقف قلبه عن النبض، وتوقف رأسه عن عتق الأفكار المقيدة، وسكنت العضلة النابضة في صدره” (تل).

تحمل الرواية إمكانية التحويل الدرامي المسرحي والسينمائي. أولاً، باللغة التشكيلية ذات الطابع الشعري التي كُتبت بها الرواية والتي ترسم العبارات اللغوية رسماً وتضع لها إيقاعاً نظمياً في سرد الوقائع والأقوال فتتكون الصورة الذهنية عن أدق الخلجات النفسية وردود الأفعال الخفية ووصف الحال الباطني تجسيداً شبه مسموع ومرئي. ثم أيضاً بتقنية نقل العرض بالتبادل للصراع والاحداث على طريقة (الارتجاع الماضوي التأثيري) أو ما يشابه تقنية (فلاش باك) Flash back بين وقائع عماد في لندن ووقائع زرين في فارس والعراق بانسيابية تلقائية سلسة وبدون شذوذ أو الاحساس بانتقال مفاجئ برغم أنه انتقال بين أحداث حقب تاريخية مختلفة دون فواصل تمهيدية وهو ما يمثل عنصراً ابداعياً في اخراج الدراما السينمائية. فهذه التقنية جعلت أن المغذى المهم في رواية (تل) ليس شخصية وتاريخ زرين تاج وإنما المغذى المهم هو نوع التأثير والتفاعل القوي والممتد حول ما أحدثته زرين في زمانها وزمان غير زمانها وما قد حدث لها ولمن تابعها في غير زمانها، التأثير والتفاعل بين ما هو واقع تاريخياً وما هو متخيل أن يكون في الراهن. ولعل أن هذا التأثير والتفاعل لدعوة زرين كامرأة حسناء أثبت بنحو ما أن التأثير على الرأي العام يلعب دوراً كبيراً فيه جمال الخلقة بجانب الخُلُق “ولم ير قبل ذلك اليوم بائع الحلوى إلا جزءاً من تلك الصورة البديعة لاتقان الخالق، ظل متسمراً يخزن حديثهما في خلاياه -تل”، ولنفس هذا السبب كان انتشار الدعوة الجديدة على يد امرأة جميلة هو أشد خطراً وتهديداً، فلقد “ظهرت زرين على ساحة الدعوة، الامرأة الجميلة التي الهبت الأرض، وأفزعت رجالات الدين، بفصاحتها واتقاد ذهنها التواق لبلوغ مقاصده، لتصعد سلمها الروحي ولتبني جسوراً للعلم تقود عليه بنات حواء، في جزء من العالم لم يكن يحفل بما تتلهف أرواحهن له -تل”. إن هذا التأثير والتفاعل قد جعلا من زرين ليس مجرد مادة دراسية لعماد في تاريخ أجداده وإنما كانت حلماً وجودياً لما يطمح أن تكون عليه قيمة حياته، “لوكان له سرقة اسم زرين، أن يحكي لها عنها، أن يخبرها بأنه كان بانتظار صورة تشبهها، وبأنها فاقتها، بأن علياء كانت معجبة بإقدامها، بأن تاريخها طُمس، وبأنها تحدت الرجال العرب -تل”، هنا يكمن الرمز الحقيقي لـ (تل) في غاية موت زرين وعماد. ويبقى الأثر الأسطوري الشرقي قائماً خلف الضلوع الشرقية مهما وارته الثياب “هرمز بملابسه الإنجليزية، التي تغطي جلده العراقي الذي تشرب هواء إنجلترا، وأثخن به، حتى صدق جوازه المختوم باسم البلاد التي يُحكى بأنه مواطن وفي لها -تل”.

د. وائل أحمد خليل الكردي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *