1
بلغة لا تعوزها الدقّة في التعبير عن المشاعر، وبإيقاعات سريعة عبر الجمل المبدوءة بالفعل الماضي حينًا، وبالفعل المضارع في بعض الأحيان، ومن خلال تعدّد الرواة وبلورة الحدث الروائي تبعًا لنظرة كلٍّ منهم إزاءه، يذهب وليد أبو بكر إلى دواخل شخصيّاته، لكشف نوازعهم الذاتيّة وتأمّلاتهم وردود أفعالهم تجاه الموت والحياة والصداقة والعزلة وعدم الوفاء، وغير ذلك من القيم التي تؤطر حياة البشر وتصوغ شخصيّاتهم من زاوية تعاطيهم معها لجهة السلب أو لجهة الإيجاب.
بطل الرواية نبيه يدخل مستشفى للأمراض الصدريّة من جرّاء عدوى لا يعرف مصدرها، ولا يزوره في البداية سوى صديقه رؤوف، أما سلوى التي كانت تربطه بها علاقة عشق ممتدّة فلم تسأل عنه، لأنّها لم تكن تعلم أنّه مريض في المستشفى، وحينما تعلم بذلك من رؤوف، فإنَّ نبيه لا يوافق على قدومها لزيارته أثناء مهاتفة بينهما، وذلك كيلا ينقل العدوى إليها، وهي تلح على زيارته لكي تفضي له بأمر مهم، وفي النهاية يلتقيان خارج المستشفى وخارج منزلها الذي اعتاد زيارتها فيه من قبل، لكي تفضي له باعتراف مؤدّاه أنها مريضة بالسل، وهي التي كانت تخفي عنه مرضها، وهي التي ربما أصابته بالعدوى.
2
اللافت في الرواية وعلى امتداد صفحاتها (206صفحات) هو صراع الأمل مع اليأس، وقد نجحت سلوى في التغلب على المرض أوّل مرّة، ثم أهملت متطلّبات حماية جسدها بعد أن شعرت بالشفاء، وعادت إلى ممارسة حياتها على نحو عابث، ما أوقعها في براثن المرض الفتّاك مرّة أخرى، وما جعلها تعترف لنبيه بذلك بعد لقائهما الأخير، هذا اللقاء الذي أنهى العلاقة بينهما، وجعل نبيه ينصرف بكلّ مشاعره إلى علاقة الحبّ التي ربطته ببشرى؛ شقيقة صديقه رؤوف.
استطاع نبيه أن يتغلّب على المرض القاتل، لأنّه غلّب الأمل على اليأس بتشجيع من الممرضة أمل ومن رؤوف، ومن بشرى التي أوصت عليه من خلال معارفها لكي تكون له معاملة مميَّزة في المستشفى.
في المقابل، يعرض الكاتب، بطريقة سلسة ومن دون إقحام، لشخصية مريض تغلّب اليأس في نفسه على الأمل، وكان يجامع زوجته وهو يلهث ويبصق دمًا أثناء زياراتها له في الحمّام التابع للغرفة المشتركة بينه وبين نبيه، فيغضّ نبيه النظر عن هذا السلوك الذي كان يفسّره صاحبه بأنّه رغبة منه في تحصيل المتعة من دون هوادة قبل أن يدركه الموت، وكانت الزوجة تنصاع لرغباته وهي مغلوبة على أمرها، وفي النهاية كان مصيره تغلّب اليأس عليه إلى الحدّ الذي تسبب في موته من جرّاء المرض.
3
ولا يكتفي الكاتب بذلك المثال، بل إنّه يقدّم نموذجًا بشريًّا آخر من زاوية أخرى؛ هو سليم الذي عاش حياة صاخبة، ثمّ وقع صريع المرض الذي أدخله إلى المستشفى؛ حيث الممرّضة أمل (اسمها دالٌّ على رسالتها في الحياة) والمريض نبيه والآخرون. سليم هذا شبع من الحياة، كما انتهى إلى القول، واستسلم لليأس ولم يعد يتوقّع أيّ فرصة للنجاة من المرض، ما دفعه إلى أن يتصرّف على العكس من تصرُّف ذلك المريض، شريك نبيه في الغرفة، إذ حين زارته حبيبته، عايدة، فقد خرجت من الزيارة باكية، لأنّه أنهى العلاقة معها، ولم يُرد لها أن تتعذَّب بسببه، وكان تصرّفه هذا ينمُّ عن تسرُّع ويأس من شفاء قد يحدث ذات يوم.
وبالفعل، ينتقل سليم إلى الغرفة التي يقيم فيها نبيه، بعد إخراج ذلك المريض اليائس منها، وحين يرى سليم رأي العين كيف انتصر نبيه على المرض، وكيف راح يتهيَّأ لحياة جديدة مع بشرى، وحين راحت الممرضة أمل تحيطه بعنايتها واهتمامها، ما ترك أثرًا إيجابيًّا عليه وجعله يتخلى عن يأسه، ويفتح كوَّة في حياته للأمل، وهكذا بدأ سليم يتماثل للشفاء، وراح يجدّد علاقة الحب التي ربطته بعايدة؛ التي واصلت الاستفسار عنه من الممرضة أمل، ما جعل هذه الممرضة الإنسانة تشعر بالفخر بالنظر إلى نجاح مساعيها في إنقاذ المرضى الذين لديهم استعداد لمقاومة المرض، وكان نبيه ثم سليم خير مثال على ذلك.
4
يبدو قارئ هذه الرواية كما لو أنّه أمام مختبر أنشأه وليد أبو بكر لكي يمتحن قضيّة وجوديّة تتمثّل في معاينة ردود فعل الناس حين تحلُّ بهم مصيبة أو مأساة أو مرض قاتل قد يودي بالحياة، كيف يتصرّفون؟ وكيف تتبدّى ردود أفعالهم؟ وهل يُتركون لكي يعانوا وحدهم مما أصابهم؟ أم ستمتدُّ إليهم الأيادي الخيِّرة لكي تساعدهم على مغالبة اليأس والمعاناة؟ هل سيكون للحبِّ الذي يربطهم بنساء مخلصات مكان في إنقاذهم؟ أظنُّ أنَّ التجربة البشريّة التي مكَّنت لوجود الخير في الناس تلعب هنا دورًا مميَّزًا في التغلب على الصعاب، فالممرّضة أمل التي عانت من هذا المرض ذاته ثمّ تخلَّصت منه آلتْ على نفسها أن تكون خادمة لمن يصيبهم هذا المرض، وبالفعل كان لها فضلٌ على نبيه وسلوى (أثناء مرضها الأوّل) وسليم، وعلى كلِّ من لديه استعداد لمساعدة نفسه في الأساس، لكي تأتيه المساعدة الحميمة من أمل، ومن نساء محبّات مخلصات من أمثال بشرى وعايدة.
أخيرًا، ما يلفت النظر في هذه الرواية غلبة الحوار على السرد فيها، حيث يتطوّر الحدث ويكثر جدل الأفكار عبر حوار الشخصيّات، ما يشحن الرواية بفيض من التشويق لمتابعة التأمّلات والأفكار والاستخلاصات التي يزخر بها الحوار، وما يجعل هذه الرواية مكرَّسة للدفاع عن عظمة الحياة، والانتصار لها بمنطق رصين أخّاذ.*
*من كتاب سيصدر قريبًا بعنوان: قراءات في الرواية الفلسطينية.
الكاتب والروائي محمود شقير