عتبة العنوان حبلى بالمعاني التي تضيء النص، وتمهد للقارئ دروب السير فيه؛ فالعنوان “اعتذار”، وهو بمفرده يمثل بنية سردية متكاملة الأركان. إن الاعتذار يتطلب مغتِرًا من شيء بدر منه، ومعتذَرًا له من الشيء ذاته، وبذلك تتضح ملامح الشخصيات الرئيسة، ويتحدد الحدث الذي يربط بينهما. إن العنوان جاء مصدرًا لينهض على عاملين، يقدم أحدهما الاعتذار للآخر، حيث تكررت الجملة الحوارية مرتين، جاءت في المرة الأولى في ثنايا النص بين طرفين متغايرين “أعتذر، سامحيني”، وجاءت في ختام القصة بين الشخصية لقلبها “أعتذر، سامحني”، واضعة القصة بين قوسين، مشَكِّلة في المرة الأولى تفاقم العقدة، وتنبئ في المرة الأخيرة أن ما كان داء أمسى دواء، على غرار (وداوني بالتي كانت هي الداء). “اعتذار”، لفظة تحمل ندمًا ينقض ما قبله، بعد أن يعترف بجرمه وخطئه وجريرته.
ثمة شعور بالدونية، بالفقد، بالحسرة لدى من يتقدم بالاعتذار. ولكن الاعتذار الثاني في القصة نبع من الشخصية المعتذَر إليها، وهي بذلك كأنما تنقض هذا الاعتذار الأول والذي صدر من الطرف الآخر.
إن الاعتذار الثاني يحمل ندمًا يساوي عمر الشخصية أو دونه قليلًا، ولذلك تكررت جملة الاعتذار بحذافيرها: “أعتذر سامحني”.
وما بين الاعتذارين عمر طويل تجرعت فيه الشخصية الأولى مرارة الاعتذار الأول، والذي حملت عليه الشخصية الثانية، ثم نراها تذيل قصتها بجملة الاعتذار ذاتها، متوجهة فيها لنفسها.
فالاعتذار في الحالين متوجه إلى شخصية واحدة، ولكنه صادر عن شخصيتين متغايرتين: الأولى هي الفتى والثانية هي الشخصية الساردة للأحداث.
وقبل أن تقتحم بنا القاصة فضاء النص، مهدت له بجمل استهلالية تلقي بظلالها على جنبات النص.
“لم تكن البدايات رحبة كما يحدث للبعض، ولم تكن مليئة بالأحلام كما ينبغي أن يكون”. تمهد بتلك الافتتاحية لبؤرة الحدث، والذي يتمحور حول جملة كتبها زميل لها بحجرة الدراسة، بث فيها مشاعره النبيلة تجاه زميلته، “أنا بحبك يا إيمان”، إنها جملة تختزل أسفارًا من الكتب، وتحمل في أحشائها فيضًا من المشاعر، والتي عجز عن البوح بها بلسانه، فأناب تلك الكلمات لتفصح عما يشعر به ويحسه.
إنها مشاعر نبيلة ولدت في قلبه تجاه زميلته في الصف، وهما بعد لم يتجاوزا الثالثة عشر من أعمارهما، وهي سن مفعمة بالمشاعر الفياضة لدى الجنسين.
كانت هذه الورقة كما وصفتها في موضع آخر من القصة “أهم ورقة صادفتني حتى الآن”.
وبفض الورقة وقراءة ما فيها تدخل الشخصية في مواجهة مع الذات، تغيب فيها عن الواقع، فلم تنتبه لشرح المعلم، بل لم تنتبه لقدومه، بينما يتابع زميلها – بعد فعلته – شرح المعلم ويستمع إليه دون أن يعير نظراتها أدنى اهتمام.
إن سبب انزعاجها من الرسالة الخوف من معرفة أهلها للخبر واتهامها في سمعتها؛ ولذا راحت تبكي خشية افتضاح أمرها. إن سمعة الفتاة الريفية، هو أغلى ما تمتلكه إحداهن.
ولأنها لم تستطع أن تتحمل بمفردها هذا الأمر، باحت به لصديقتها، والتي نصحتها “بشكوى هذا الطالب إلى مدير المدرسة وتعريفه بأمر الورقة التي أرسلها”.
لم تكن تدرك أنها بذلك تئد الحب الأوحد الذي وضعه القدر في طريقها، وستحرم من القلب الذي أحبها في صمت دون أن يجرؤ على البوح بحبها لها، وإنما اكتفى بالكلمات؛ أنابها عنه في البوح بما يشعر به تجاهها.
وتسير الأحداث سيرها الطبعي، فبعد انتهاء الحصة تقودها صديقتها إلى مكتب مدير المدرسة، وحين تعجز عن التعبير أمامه، تنوب عنها زميلتها بالشرح، ليقوم المدير بتحويلها إلى الإخصائية النفسية والاجتماعية؛ لتسرد قصة الورقة أمام المدرسات المجتمعات لافي الفسحة، فتتولى إحدى المعلمات الأمر ناصحة إياها أن تهدأ، ولكن الهدوء كان قد غادرها، وضاع منها اليوم الدراسي دون أن تحصل أي شيء.
وتتوجه أثناء الانصراف إلى معلمتها الأثيرة، فتخبرها بالأمر، وأثناء الحديث يمر أمامهم صاحب الخطاب، تتحدث معه المعلمة، ويقدم اعتذاره لزميلته عما بدر منه:
ولكنها تقتحم حديثهما، “وبغضب اختزنته طوال اليوم سألته عن معنى ما فعله ومغزى خطابه”
أحاطها “بنظرة كسيرة في عينيه، ونظرة حنان مغلفة بالاعتذار قبل أن يقول لها:
أعتذر، سامحيني”.
كان هذا الاعتذار كافيًا، حسبه انكساره وخضوعه، هكذا قالت المعلمة وهي تأمرها بالانصراف، ولكنها لم تقنع، وأبلغت والدها، والذي ذهب المدير وأمر بمعاقبة الطالب.
إن الطالب بعد فعلته وافتضاح أمره، راح يتغيب عن المدرسة، حتى اضطر والده إلى نقله إلى مدرسة أخرى؛ لتهدأ الفتاة ووالدها.
إلى هنا كان يمكن للقصة أن تنتهي، حيث تم حل العقدة باعتذار الطالب أولًا وبانتقاله لمدرسة أخرى ثانيًا.
ولكن عقدة القصة أوسع من ذلك وأكثر رحابة، إن الاعتذار الذي عنونت به “سوسن حمدي” لقصتها، يسير في اتجاهين، ويصدر عن معين أشد عمقًا وأبعد دلالة، إن الاعتذار الذي يحل العقدة، ويسجل نهاية الأحداث، ليس اعتذار الفتى للفتاة، وليس نقله من المدرسة، ولكنه اعتذار الفتاة لنفسها، بل لقلبها.
إنها بعد هذا الموقف لم تعش قصة حب كما حدث لزميلاتها، ولم ترتبط بأحدهم. مرت بالمرحلة الجامعية دون أن يعترف لها أحد بحبه أو حتى يكتبها في ورقة صغيرة.
فتعيش حياتها دون قصة حب كزميلاتها، حتى إن زواجها جاء عاديًّا كزواج الصالونات، لم تعش فيه قصة حب، ولم تتبادل مع زوجها كلمات الحب. ومن ثَمَّ كان شعورها نحو زوجها لا يحمل حبًّا ولا مقتًا، ما جعلها تتشوف لمعرفة أخبار ذلك الذكر الوحيد الذي طرق باب قلبها، ولكنها أوصدت الباب في وجهه، فلم يطرقه بعده طارق؛ فراحت تبحث عنه “في متاهات الحياة حتى عثرت عليه في زحام أحد الأفراح يتأبط ذراع زوجته”، فتستعيد الشعور الأول ذاته والخوف الأول ذاته؛ فلم تستطع الوقوف أمام صاحب الاعتذار الأول والحب الأول والذي لا يزال يطل من عينيه الدافئتين ما جعلها تعجز عن الوقوف أمامه، لتصف الكاتبة حالها بلسانها “هرولت أجرّ أطفالي أمامي وأنا أعتذر لقلبي قائلة:
-أعتذر، سامحني”.
تعتذر لقلبها، والذي جنت عليه مرتين؛ وليتكرر الرفض مرتين: الأولى حفاظًا على سمعتها كبنت، يمكن أن تلوكها الألسنة، والثانية المحافظة على سمعتها كزوجة وأم.
لقد آثرت القاصة السرد بضمير المتكلم، والذي يأخذنا إلى البحث عن واقعية الأحداث، حيث تنتمي القصة إلى الأدب الواقعي، باحت فيها صاحبة الواقعة للقاصة، والتي أجادت التعبير عن مشاعر المرأة بدقة وشفافية، جلَّت فيها مشاعر المرأة سافرة في عير خفاء؛ فالمرأة هي ذلكم المخلوق المتعطش لكلمات الحب، لا تمل منه، حتى وإن خدشت الكلمات براءتها وحياءها يومًا، إلا أنها لا يمكن أبدًا أن تنسى أول مَن طرق باب قلبها، وأول من اهتزت له أوتار فؤادها نشوة وطربًا لبوحه وكلامه.
لذلك تعتذر لقلبها والذي بات محرومًا في صحراء حياته القاحلة من أنسام الحب وجرس كلماته، وإن كانت تقيم شعائره.
د. سعيد محمد المنزلاوي