(التجويع جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية)
يواصل الكيان الصهيوني المتغطرس محاولات فرض التجويع، وحجب المساعدات الإنسانية على سكان قطاع غزة بوسائل مختلفة، كان آخرها حين قامت قوّاتها باستهداف تجمّع لعناصر في لجان أهلية وشعبية تشكّلت لتأمين دخول وتوزيع المساعدات، ما أسفر عن ارتقاء 30 شهيدا وإصابة عشرات الجرحى. واستهدف القصف الإسرائيلي أيضا موظفي بلديات وخدمات عامة عملوا في حراسة وتنظيم وصول مواد الإغاثة في مناطق مختلفة من قطاع غزة. وفي ظل الرفض الإسرائيلي المستمر لزيادة دخول شاحنات الإغاثة لتلبية حاجات أهالي القطاع الأساسية ومع تفاقم حالة الأمن الغذائي وانتشار المجاعة، تعالت أصوات الاستغاثة في المنظمات والهيئات الدولية، التي حذرت من المجاعة العامة الوشيكة، وأشارت بأصابع الاتهام إلى إسرائيل وحمّلتها مسؤولية الكارثة الإنسانية، مؤكّدة أن «التجويع هو جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية». تشمل حرب التجويع الصهيونية منع الصيد، الذي يعتبر مصدرا رئيسيا للغذاء في غزة، وتجريف المزارع والمحاصيل وقصف المتاجر والمخابز ومصانع المواد الغذائية، واستهداف مواطنين متجمعين حول شاحنات الإغاثة الغذائية، إضافة لذلك تسعى إلى شل عمل وكالة غوث اللاجئين «الأونروا»، حيث دمّرت لها 157 وقتلت 165 من موظفيها، وأتلفت نسبة كبيرة من محتويات مخازنها.
مواقف دولية
في العادة يحاول المسؤولون الدوليون استعمال لغة «محايدة ومتوازنة». ونادرا ما يتجاوزون أطرها وتقييداتها، كما حدث منذ فترة إذ توالت التصريحات الواضحة، التي حذّرت من أن غزة على حافة كارثة المجاعة بدرجتها الأكثر فظاعة، وحملت اتهاما مباشرا لإسرائيل بأنها المسؤولة عن حالة المجاعة في غزة، وعن ارتكاب جريمة حرب وجريمة ضد الإنسان لاقترافها جريمة التجويع، المحرّمة في كل القوانين والأعراف الدولية منذ أكثر من مئة عام. وجاء في بيان، نُشر على الموقع الرسمي للأمم المتحدة الثلاثاء الماضي، أن مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، قال:
«القيود الإسرائيلية المستمرة على دخول المساعدات إلى غزة، إلى جانب الطريقة التي تواصل بها العمليات العدائية قد تصل إلى حد استخدام التجويع كوسيلة حرب، وهو ما يعد جريمة حرب»، وأضاف: «الكارثة التي تشهدها غزة هي من صنع الإنسان، وكان من الممكن منعها بالكامل لو تمت الاستجابة لنواقيس الخطر التي دقتها الأمم المتحدة.. الوقت ينفد. ويجب على الجميع، خاصة أصحاب النفوذ، أن يصروا على أن تعمل إسرائيل على تسهيل دخول وتوزيع المساعدات الإنسانية لإنهاء المجاعة». ودعا تورك إلى وقف فوري لإطلاق النار، لتمكين الإغاثة ولمنع كوارث أكبر. ونشرت لجنة مراجعة المجاعة «إف.آر. إس.»، هذا الأسبوع، تقييما مدروسا بأن سكان غزة يواجهون خطر المجاعة، بأعلى درجاتها، واستند التقرير إلى نظام الإنذار المبكر، الذي يدعى «تصنيف الأمن الغذائي المتكامل ـ آي. بي. سي»، والذي يقسّم المجاعة الى خمس درجات: حد أدنى، منذر بالخطر، حالة أزمة، حالة طارئة وكارثة – مجاعة. وقد جرى اعتماد هذا التقرير الموثوق من قبل منظمات الأمم المتحدة ولجان دولية وحكومية كثيرة، ولم يعد هناك مجال للشك والتشكيك في الأوضاع الصعبة والكارثية لحالة المجاعة والتجويع، حتى من قبل أقرب حلفاء إسرائيل. وحذر برنامج الأغذية العالمي من أن سوء التغذية بين الأطفال في غزة في تسارع نحو عتبة المجاعة، وقال مارتن غريفيت وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ: «على المجتمع الدولي أن يطأطئ رأسه خجلا لفشله في وضع حد للمجاعة في غزة.» وأضاف بأن 1.1 مليون، أي نصف سكان قطاع غزة قد «استنفدوا إمداداتهم الغذائية ويعانون من سوء التغذية»، ودعا إسرائيل إلى تمكين دخول المساعدات الإنسانية بلا شروط. وتوالت تصريحات مماثلة من قيادات الاتحاد الأوروبي وكندا، ومن منظمة الغذاء العالمي «الفاو» والبنك الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، ونشرت وسائل الإعلام الكبرى في العالم تقارير عن حالة الجوع في غزة. وحتى وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، اعترف بأن «جميع سكان غزة يعانون مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، وهناك أولوية لإيصال المساعدات الإنسانية». ولكن الخارجية الأمريكية زعمت بأن لا دليل بأن إسرائيل تستعمل «سلاح التجويع». وفي ظل هذا الموقف الأمريكي، المدافع عن إسرائيل حتى في قضية التجويع، لم يتطور توجه دولي جدي لفرض عقوبات على الدولة الصهيونية لإجبارها للامتثال للقانون الدولي، الذي يحرم التجويع، ويعتبره جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وحتى أداة من أدوات الإبادة الجماعية، كما جاء في دعوى جنوب افريقيا في محكمة العدل الدولية.
التجويع كسلاح صهيوني ارهابي
بعد السابع من أكتوبر أعلن مسؤولون الإسرائيليون عن فرض حصار كامل وشامل على قطاع غزة، وقال وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت: «لقد أصدرت الأوامر بفرض حصار شامل وكامل على غزة وقطع الماء والكهرباء والطعام والوقود. لن يدخل شيء». كانت تلك سياسة رسمية وليس مجرد تصريح في لحظة غضب. وجرى ترديد وتبرير هذا الموقف من قبل جنرالات احتياط، وفي مقدمتهم الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الجنرال احتياط جيورا آيلاند، الذي قال بأنه يجب تحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح لحياة البشر، وأن الخيار أمام أهل غزة هو إما البقاء والمجاعة أو الرحيل والنجاة. لاحقا ارتفعت دعوات لربط دخول الطعام والماء والوقود بإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين. ولم تقبل إسرائيل بإدخال بعض المساعدات، التي هي أقل بكثير من الاحتياجات الضرورية، إلّا بعد ضغوط شديدة، وبعد اقتناعها بأن دخول المساعدات يمنحها «شرعية مواصلة الحرب»، وفق معادلة «إدخال الطعام مقابل مواصلة حرب الإبادة». وبعد أن وضعت إسرائيل العراقيل فوق العراقيل في دخول المساعدات، وفرضت نظام تفتيش بطيء ومركّب، لجأت إلى ملاحقة مسار المساعدات داخل غزة، وقامت بقصف الشاحنات والمخازن وطالبي الإغاثة ومنظمي التوزيع. وبعد هذا كله ادعت بأن المساعدات تدخل غزة «بشكل كاف» لكن هناك مشكلة في التوزيع. بالطبع هناك مشكلة وإسرائيل هي المسؤولة عنها، لأنها تستهدف الجهاز المدني في غزة حين يقوم بتأمين الإغاثة، وتقصف مرافق وموظفي «الأونروا»، ولا تسمح بانتظام وصول المساعدات الإنسانية إلى من يحتاجونها. في كتاب صدر عام 2022 وعنوانه «المحاسبة عن المجاعة الجماعية: اختبار حدود القانون»، حلل الباحثان بريجيت كونلي وأليكس دي وال سياسات التجويع وكيف أن فاعلين سياسيين وعسكريين استعملوا التجويع لتحقيق أهداف استراتيجية وتكتيكية، وقاما باستعراض أمثلة على ذلك من القرن التاسع عشر إلى أيامنا. لقد صدرت هذه الدراسة قبل الحرب على غزة، ولكن أحد الباحثين وهو أليكس دي وال، نشر مؤخّرا مقالا في «لندن ريفيو أوف بوكس» بعنوان «التجويع كوسيلة في الحرب»، جاء فيه أن «التجويع ليس جريمة حرب فحسب، بل جريمة ضد الإنسانية والقيادة الإسرائيلية تتحمل المسؤولية كاملة». واستعرض المقال خمسة أهداف للتجويع، وردت في الكتاب الأصلي عن التجويع قبل الحرب على غزة، وهي:
1ـ الإبادة والإبادة الجماعية 2 ـ إحكام السيطرة عبر إضعاف السكّان 3 ـ احتلال أراض
4 ـ طرد السكان 5 ـ معاقبة الناس. وخلص المحاضر البريطاني، المختص في مجال التجويع والمجاعة، إلى القول بأنها تطابق أهداف التجويع الإسرائيلي، وبأن مواصلة الحرب بعد التحذير من المجاعة تجعل تهمة الإبادة الجماعية دامغة، وتستدعي محاسبة المسؤولين عن الجريمة.
“سلاح التجويع”.. وسيلة لحرب الإبادة الجماعية
تستخدم إسرائيل في حربها الإنتقامية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أسلحة محرمة دوليًا شديدة الفتك والدمار كعامل أساسي في حسم المعركة وتحقيق أهدافها، ولكن الحرب متواصلة منذ ستة أشهر ولم تحقق أيّا من أهدافها. ويبزر في هذه الحرب سلاح التجويع شديد الفتك والإبادة والإفناء، وقد عُرف سلاح التجويع كوسيلة من وسائل الحرب منذ زمن بعيد. وإن تاريخ الحرب مليء بأمثلة على الخطط العسكرية المستخدمة عمدًا بهدف تجويع جيوش “العدو” أو السكان المدنيين، كما يحصل الآن في الحرب على غزة.
منذ اليوم الأول للحرب، لجأت إسرائيل إلى استخدام سلاح التجويع المحرم دوليًا لتوظيفه في جريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحق السكان المدنيين في غزة من خلال فرض حصار كامل على القطاع. وبذلك تُطبق حرفيًا أوامر وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، التي أصدرها في حينه إذ قال: “لقد أعطيت أمرًا: غزة ستكون تحت حصار تام لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق”. كما أنها استجابة لجنرالات وسياسيون إسرائيليون الذين يطالبون بعدم التخلي عن “سياسة التجويع” في غزة. وعلى مدار ستة أشهر، لا تزال تتبع إسرائيل سياسة الأرض المحروقة في غزة، فدمرت المحاصيل الزراعية ومنعت السكان المدنيين من الوصول لها، وأغلقت المعابر ومنعت دخول شاحنات المساعدات الإغاثية الإنسانية، كما قصفت الطائرات الإسرائيلية الأشجار المثمرة والمزارع والحقول، وخزانات المياه، ومنعت دخول جميع الشاحنات التي تحمل مواد غذائية إلى أهالي القطاع. وإذا كانت وكالات الأنباء والمنظمات الإنسانية تتحدث عن خطر المجاعة الذي يتهدد غزة بسبب استخدام إسرائيل سلاح التجويع ضد سكانها، فإن شبح المجاعة صار يُخيم على أكثر من مليوني إنسان في غزة، وصارت المجاعة واقعًا يُطاردهم بسبب شُح المساعدات وفي ظل مشقة بالغة في توفير المواد الغذائية لشُحها وارتفاع أسعار المتوفر منها، وخاصة القمح، والذي إن توفر لا يجد مطاحن لطحنه، بل إن القمح المتوفر مخصص لإطعام المواشي ولا يصلح للاستخدام البشري، لكن العديد من السكان المنتظرين لدورهم في
الطابور أمام المطحنة، يشترونه مضطرين لعدم توفر البديل.
ومع تسارع استخدام إسرائيل لسلاح التجويع المحرم دوليًا منذ أحداث السابع من أكتوبر الماضي، سارعت أيضًا 11 دولة بالإعلان عن تعليق تمويلها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في أعقاب ادعاءات إسرائيلية لـ 12 من موظفيها من الفلسطينيين بالمشاركة في عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر. مع أن إسرائيل لم تقدم رسميًا للأمم المتحدة بعد ملفها بشأن اتهام موظفين من وكالة الأونروا بغزة، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام!! وهو ما يدل على أن وقف تمويل الأونروا هو المرحلة الأخيرة من الإبادة الجماعية لأهل غزة، وهو ما يزيد الحصار الإسرائيلي ويعمق معاناة السكان المدنيين في غزة ويفاقم شبح المجاعة الذي صار يُخيم على قطاع غزة نتيجة لاستخدام سلاح التجويع المحرم دوليًا.
ولا يفوتنا القول، إن سلاح التجويع المحرم ضد قطاع غزة لم يكن أمرًا مستجدًا على السياسة الإسرائيلية، فقد بدأت باستخدام هذا السلاح، وإن كان أقل وتيرة مما عليه اليوم، منذ 17 عامًا بسبب حصار فرضته إسرائيل وأمريكا ودول أوروبية إلى جانب تواطؤ الكثير من الأنظمة العربية الرسمية، لا لشيء إلا لأن الشعب الفلسطيني صاحب الحق الشرعي في وطنه هو من قرر شكل السلطة التي يريدها بشكل حر وبدون تدخل خارجي وبدون شروط ولا إملاءات من أي جهات كانت. فشحت المواد الغذائية في غزة، وتقيدت حركة سكانها، لكن لم يصل الأمر يومًا إلى أن جاع أهلها كما يحدث الآن!!
الكاتب والباحث كرم فواز الجباعي