سلسلة (كبد) صاحبة الشعر البرتقالي للكاتبة ختام أحمد حماد



……………………………
بين أزقة البيوت العتيقة حيث منزل الاستاذ فخري أحمد الجولاني غرفة واحدة واسعة مصمم بحجارة وطين يسمّى (العقد) يخرج من بين فواصل الحجر أعشاب رقيقة وطحالب
كانت زوجته سميرة تجثو على ركبتيها العاريتين، على أرضٍ من تراب مختلطة بحجارة صغيرة جارحة لبياض
وشفافية ركبتيها الورديتين، تدعك بيديها الناعمتين المزينة برسم الحنّاء بمكعًب من صابون الزيت على ملابس أطفالها الصغار البيضاء بوعاء كبير مصنوع من الستانلس في الحوش (قاع الدار)، مرتدية ملائة خفيفة بيضاء منقشه بنقوش وردية زاهية تعبر عن قلبها الرقيق الذي لم يمل من ذوق طعم الأسى، ما جعلها لا تقلق على وردية ركبتيها وبياض يديها التاعبتين، وشالاً مربوط الى الوراء ينسدل من أسفله ضَفيرة من شعرها البرتقاليّ، عندما جاءها خبراً زلزل كيانها وزعزع سكينتها ورزانتها صكت وجهها فزعاً مما سمعته، لطمت وصاحت وبعثرت الماء والغسيل في الهواء حتى اصبحت الملابس البيضاء مختلطة بالوحل تماماً، حيث كانت مستعدة أن تضحي براحة عظامها التاعبة وجسدها المنهك لأجل أن تراه ينصع


لدرجة أن يعمي أعين المارّة عندما يرونه معلّق على الحبل الذي وضعته بيدها، كلما كانت تعتقد أنها وصلت للراحة والإنشراح في حياتها يقابلها قدرها بعريس جديد تزفه ملائكة الرب الى حور العين في جنات الله مع النبيين والصديقين والشهداء السابقين، تلك المرأة التي كابدت الصدمات الجمّة كانت تحلم بالسعادة مع كامل عائلتها دون فقد أو حرمان، لكن! ما أصعب أن تبحث عن السعادة في فلسطين “المحتلّة” ذاك الاحتلال القذر الذي يتفنن في جرح وقارنا دون أن يأبه لرماد قلوبنا المحترقة بالغيظ والقهر، الذي يهوي بقلب كل فلسطيني نحو سراديب الأحزان وينهب اوراق ربيع كل أم شهيد قبل أوان الخريف، تلك القصة معركة صراع دائم مع هذا المحتل الغشيم منذ زمن بعيد، ليس بالشيء الصعب أن تبحث عن هداة البال في الحياة الاصعب أن تبحثه وأنت فلسطيني! وكأنك تبحث عن قشة بين خيبات ضائعة متراصّة، ففي كل بيت فلسطيني هناك رواية حزينة تُسرد عن أسير/ة أو شهيد/ة أو جريح/ة والكثير من القصص حول ضحايا انتهاكات الجيش الاسرائيلي بحق المواطنين الفلسطينيين ذكوراً وإناثاً، لكن يبقى السؤال القويّ، كيف لذاك الاحتلال أن يبني بستاناً في أرضٍ ليست له!


كيف تسكت فلسطين على مغتصبيها! لذلك لم تمل من تقديم الشهداء فداءً لها ولعودة ارضها وفي سبيل طرد اليهود من مقدساتها الطاهرة، فهم كما وصفهم الله تعالى في كتابه كمثل الحمار الذي يحمل اسفاراً لا ينتفع بها ولا يعقل ما فيها وكذلك اليهود منحهم الله التوراة ليهديهم من ضلالهم الى دين الله ونوره لكنّهم كفروا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، واستمروا في كفرهم وجحدهم بالدين الإسلامي ويخططوا لبناء هيكلهم المزعوم على أرضٍ سرقوها! هم يعلمون بأن هذه الأرض ليست أرضهم ويعلمون كذلك نهايتهم لكنّهم اذا جوبهوا بالحقيقة ينكرونها ويدّعون العلم وهم لا يفقهون شيئاً، لذلك استحقوا هذا التشبيه من الله جل جلاله ..
على لسان سميرة المرأة الفلسطينية الفولاذية كُـتبت حكاية جديدة في مجلّد حكايات من طين، ولدت سميرة وعاشت في الخليل عمرها ٤٥ عام وهي أم شهيد وزوجة شهيد وأخت شهيد وبنت شهيد، لم يعد قلبها يتحمل مزيداً من الحزن، أصبح كبيراً عاجزاً كعجز شخص طاعنٍ في السن لا يستطيع الإنحناء لالتقاط شيء وقع بين قدميه وهو جالس، حينما تلقّت صدمة جديدة وجرحها المفتوح لا زال ينزف قهراً ويعتصر قلبها وجعاً على ما فقدته، كان خبر استشهاد ابنها محمود الذي لم يتجاوز الستة عشر ربيعاً كالصاعقة الحازمة التي تصطلي القلب وتلهب الحواس بل وتكوي معالم الحياة كوياً حارقاً مخلفاً ورائه الرماد


ربما تعتقد أيها القارئ أن قصة سميرة خرافة خارقة للعادة فقد جمعت كنوز من الذكريات الحزينة الموجعة للفؤاد، لكن تأكد أن بين السطور حقائق وأحداثاً واقعية حدثت على أرض فلسطين وفي بين من بيوت الحجر و الطين حديثاً أو منذ مرور سنين
اليوم الواحد والعشرون من آذار ١٩٩٨ بعد أن تلقّت خبر استشهاد نجلها محمود، دلفت تسير الى ساحة المستشفى بخيبة عارمة تصطف على حافتيها أشجار الكينا الصغيرة المبللة بمياه السماء وأمام انهزام مشاعرها وسط الأحداث السيئة المتوالية على عقلها، انهارت تاعبة من ألم جسدها وألم قلبها، اتكأت على جذع شجرة يتهاوى فوق رأسها حبات الثلج، مثل أزهار أشجار اللوز البيضاء تربت على كتفيها لتواسيها، فبرغم من برودته الا أنه يبعث الدفء والحنين في النفس، فقد رأت من سقوط الثلج على جسدها ضرباً يرفق خاطرها الشجين، فقررت البقاء على حالها متكئة برأسها المثقل بالمصاعب على جذع الشجرة لا يهمها مزراب الماء الذي ينزل من عبائتها السوداء، خسرت الكثير فلم يعد يقلقها شيء الآن

اخرجوا الشهيد من باب المستشفى بهتاف “لا إله الا الله والشهيد حبيب الله
” “تكبير” ويصيح الجمهور بصوت جهير يزلزل الكيان رعباً “الله أكبر”
اشتد نزول المطر وسميرة ما زالت على وضعيتها
أهذه أمطار السماء أم أمطار أعين سميرة! ويكأن السماء هاجت لتُصبرها على مرارة ما فقدته، اقبلت عليها كاميرات الصحافة بتلهّف لتنقل للفضائيات شهادة طازجة في حياة سميرة التي اشتهرت بقصتها مع استشهاد أهلها واحد تلو الآخر
يقول صحفي موجهاً الميكروفون لها: استاذة سميرة، رحم الله فقيدك وأدخله فسيح جناته مع الشهداء الابرار….
ويقول آخر بنفس التوقيت: ما تعليقك على استشهاد نجلك ست سميرة!
وتقول فتاة أيضاً: اعطينا تعليق لو سمحتِ، وكيف شعورك وأنتِ حبيبة الرحمن! أحببت أن ألقبك هذا اللقب لأن الله يبتلي المؤمنين الذين يحبهم الله…
والكثير من الصحفيين حولها يثرثرون معاً بصوت عالٍ تكاد لا تفهم ماذا يقولون، أينطقون لغة جديدة!
أفاقت من سهوة لذعة الفراق ونهضت دون أن تنطق حرف الأمر الذي ادهش الصحافة وجعلهم يصمتون الى أن نطق أحد المراسلين قائلاً باستياء: كما تشاهدون اعزائي خلف الشاشات كيف استحوذت الصدمة على المرأة الفلسطينية الراسخة بعد زفة ابنها الشهيد محمود ابن الشهيد الاستاذ فخري الجولاني شهيد تلو الشهيد في حياة تلك المرأة …
فحركت هذه الكلمات عاطفتها المكبوتة لتهتف بصوتٍ عالٍ وهي ترفع قبضة يدها وتقاوم تكدّس الدموع في عينيها: فدا فلسطين يا محمود يما … لا إله الا الله والشهيد حبيب الله
وكأنها تريد أن تطمئن نفسها ولو بفعل بسيط كالمشاركة في تشييع جثمان طفلها وتخفف عن قلبها الغمة القاسية
وتابعت بمرارة الفجعة: الله يرضى عليك يحبيبي يمّا .. الله يرضى عليك يا عمري
ثم ابتلعت الغصة بنار كاوية لقلبها الضعيف وهي تقول: ضليتك تقلي بدي أجبلك أحلى هدية بيوم الأم وكررت: ضليتك تقول يما بدك اجبلك أحلى هدية … أحلى هدية .. لحد ما انت رحت من قدام عنيي يمااا ..
ثم استوقفت الجنازة وقالت وهي تبتسم متألمة: محمود كان يحب يقعد برا عالساحة مشان الله هاتوه دقيقتين يقعد فيها قبل ما يندفن .. اذا بتحبو الله جيبوه عالدار شوي .. بس شوي .. خليني أشوفو وأشبع منو بالمكان الي بحبو ..

كانت سميرة لا ترتدي الأسود عند استشهاد أحد لانها تعلم بأنهم أحياء عند الله يرزقون، لذلك بدل أن تحزن وتعلن الحداد واتخاذ اللون الأسود رفيقاً لها فهي تستبدل الولولة بالزغاريت وحدادها هو الاحتلال
فبعدما جلست بجانب جسد محمود البارد في ساحة المنزل الجلسة الأخيرة وتقبيله قبلة الوداع وجاء وقت رحيل الجثمان الى مثواه الأخير للقاء الله عز وجل أطلقت زغرودتها بابتسامة تتشح بحزن مختزل وجعلت أخرى ترش عليه الرز والثانية ترمي عليه الورود حيث رائحة المسك تفوح في المنزل وصدى أنشودة ” يا يما بثوب جديد زفيني جيتك شهيد” يصدح في البيت
للوهلة الأولى ستظنه حفل زفاف وخصوصاً عندما ترى الفخر والعز بعين سميرة وكأنها بهذا الفخر تنتقم من الاحتلال على ما سلبه منها
اقتربت من جثمان محمود للمرة الأخيرة ووضعت عليه علم فلسطين ثم قبلته مجددا لتقول بتنهيدة عالية وهي تدمع عينيها: الله يسهل عليك يما .. مع السلامة يحبيبي الله يرضى عليك يما يحبيبي يا عمري يما، سلّم على ابوك .. سلّم عليه وقول له انه احنا بخير وسلّم على سيدك وخالك .. مع السلامة … مع السلامة يما
وجعلت تنشد بصوتها الشجن العذب وهي تلوح بيدها مودعةً إياه
«مع السلامة وين رايح مع السلامة يا مِسك فايِح
مع السلامة وين بدّك لأقعُد على دربَك ورُدَّك
طَلّت البارودة والسّبع ما طَلّ يا بوز البارودة من دمه مُبتَلّ طَلّت البارودِة والسبع ما اجاش يا بوز البارودِة من دمه مرتاش
ما بيني وبينك سلسلة ووادي وين رحت يا أعزّ أحبابي
مع السلامة وين رايح مع السلامة يا مسك فايِح»
انزلت يدها عندما رحل جثمانه ولم تعد تراه تشربت الحسرة كما تشفط الارض المسطحة الجرداء المطر، بكت بعد ان امتزج قلبها باللوعة والالم مع الفخر …

الكاتبة ختام محمد حماد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *