لعبت الكاتبة الوُجُوديَّة الفرنسيَّة «سيمُون دي بُوفوار» خلال مسيرتها الأدبيَّة دورًا رائدًا في حركة تحرير المرأة، ليس على صعيد فرنسا فحسب بل تعدَّاها إلى مُعظم حركات التَّحرير النِّسائيَّة في العالم. وقد أعتبرها البعض امرأة شجاعة جسَّدت في حياتها كُلّ المبادئ التي طرحتها في كتاباتها بصفتها امرأة مُستقلَّة ومُلتزمة سياسيًّا، فألهمت بذلك الأجيال من النِّساء المُتطلِّعات إلى التَّحرُّر والمُساواة.
وُلدت «سيمُون دي بُوفوار» في التَّاسع من يناير عام 1908م، في باريس لعائلةٍ بُرجُوازيَّةٍ، كانت أُمُّها كاثُوليكيَّة، قدَّمتها إلى أوساط المُناقشات الدِّينيَّة والطٌّقُوس الصُّوفيَّة، ولكن انسلخت لاحقًا عن هذه الأجواء ودخلت عالم الفلسفة الوُجُوديَّة. أمَّا والدها فكان يعمل مُحاميًا ينتسب إلى أسرةٍ من النُّبلاء، ولكنَّه ما لبث أنْ خسر بعض أملاكه إبَّان الحرب العالميَّة الأولى.
درست الفلسفة في جامعة «أكُول نورمال سوبراير»، وفي عام 1929م حصلت على دبلوم الفلسفة. وفي الفترة المُمتدَّة من عام 1931م وحتَّى عام 1943م درَّست الفلسفة في ثانويَّات مُختلفة في أرجاء فرنسا، ثُمَّ عملت كبُرُوفيسُور في جامعة السُّوربُون.
تعرَّفت على الفيلسُوف الوُجُودي«جان بُول سارتر» مُنذ كان طالبًا في قسم الفلسفة، ونشأت قصَّة حُبّ استمرَّت حتَّى وفاته في 15 أبريل عام 1980م، لكن بدُون أنْ يلتزما بالزَّواج. حيث تقدَّم لخُطبتها، فذكَّرته «سيمُون» بأنَّه قد وصف الزَّواج بـــ «المُؤسَّسة البُرجُوازيَّة الفاشلة». لم تكن علاقتُها برفيقها «سارتر» علاقة حُبّ وحسب بل علاقة تبادل فيها الاثنان التَّأثير الفكري والدَّعم الثَّقافي بين أبناء جيلهما.
كان من انجازات «سيمُون» المُهمَّة مُشاركتها في تأسيس مجلَّة «الأزمنة الحديثة» التي أسَّستها مع «سارتر»، ونُخبة من المُثقَّفين الفرنسيِّين لتتحوَّل في سنوات ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية إلى منارةٍ للفكر المُتحرِّر ومنبر للمُناقشات الفلسفيَّة العميقة.
وفي يوم 14 أبريل عام 1986م قبل يوم واحد من الذِّكري السَّادسة لوفاة «سارتر» تُوُفِّيت «سيمُون دي بُوفوار» عن عُمْر يُناهز (78) عامًا في إحدى مُستشفيات باريس إثر صراع مع أمراض الدَّورة الدَّمويَّة. ودُفنت في باريس إلى جوار رفيقها «سارتر»، ليجمعهُما قبرًا واحدًا حسب وصيَّتها.
أثَّرت «سيمُون دي بُوفوار» بشكلٍ كبيرٍ في تشكيل وعي ثقافي جديد بقضيَّة المرأة، يتجلَّى هذا في مُؤلَّفها «الجنس الثَّاني» الصَّادر في عام 1949م، والذي يُعتبر من أهم إصداراتها، حيث تحوَّل بمُرُور الوقت إلى دُستُور للحركة النِّسويَّة في العالم.
وفي عام 1954م حصلت على جائزة «جُونكُور» عن روايتها «المُثقَّفون»، وهي أعلى الجوائز الأدبيَّة في فرنسا. الرِّواية تزخر بالحوارات الفلسفيَّة، ولقد رأى فيها النُقَّاد أنَّها تعجُّ بالصُّور التَّنكُّريَّة التي ترمُز إلى شخصيَّاتٍ حقيقيَّةٍ، مثل: «سارتر»، و«ألبير كامي». كما روت فيها أيضًا ذكرياتها عن العلاقة العاطفيَّة التي ربطتها بالرِّوائي الأمريكي «نيلسُون سألجرين». وتأتي أهمِّيَّة الرِّواية من النَّاحية الأدبيَّة في قُدرة الكاتبة على التَّغلغُل في أعماق الوسط الثَّقافي الفرنسي، وتمكَّنها في أنْ تجعل من هذه الرِّواية صرحًا يُخلِّد الحياة الثَّقافيَّة في حقبة ما بعد الحرب في فرنسا، كما تعكس الصِّراع بين أبراج المُثقَّفين العاجيَّة وبين الحاجة إلى مُشاركةٍ فعَّالةٍ من جهتهم في النِّضال السِّياسي.
وفي كتابها «مُذكِّرات ابنة مُطيعة» الذي صدر في عام 1958م تقدُّم «سيمُون» وصفًا نابضًا بالحياة لمسيرة تفتُّحها ونشأتها كأُنثى ضمن حماية أُسرة بُرجُوازية مهيبة في بدايات القرن العشرين، كما تصف أيضًا التَّحوُّلات الَّنفسيَّة والثَّقافيَّة، التي طرأت علي ابنة العائلة الكاثُوليكيَّة المُحافظة وهي تتعرَّض لتأثيرات العصر الجديد.
وفي عام 1960م صدر لها كتاب بعُنوان: «قُوَّة العُمْر» تُغطِّي فيه الكاتبة الفترة الأولى من علاقتها مع «سارتر»، كما تقدَّم مُعايشة حيَّة لسنوات الحرب العالميَّة الثَّانية. والكتاب سجل حافل لتلك الفترة في نفس الوقت الذي يُعتبر فيه تصويرًا حميمًا للعلاقة التي ربطتها مع «سارتر»، أمَّا ما تفرُّد به الكتاب فهُو وصفُه للحياة الفرنسيَّة تحت الاحتلال النَّازي ومشاهد النُّزُوح عن باريس ثُمَّ العودة إليها سيرًا على الأقدام.
وفي كتاب «سيمُون دي بُوفوار» المُعنون: «قُوَّة الأشياء» الصَّادر في عام 1963م، تتحدَّث الكاتبة عن وضعيَّة المرأة، إذ تقُول: «رغبة مني في الحديث عن نفسي، أرى أنَّه ينبغي لي وصف الوضعيَّة النسائيَّة». وقد انطلقت «سيمُون» عند تشخيصها لوضعيَّة النِّساء من تساؤُل مشرُوع هُو: مَنْ هي المرأة لتُحدِّد هُوِيَّتها التي وجدتها هُوِيَّة مُسْتَلبةٌ ؟!
وفي كتابها المُعنون: «كُلّ شيء قيل وحدث» الصَّادر في عام 1972م، تُناقش الكاتبة الاختيارات الوُجُوديَّة التي تطرحُها الحياة على المرء، وتستعرض علاقاتها المُركَّبة مع «سارتر» وبقية أُسرة مجلَّة «الأزمنة الحديثة» وكبار المُثقَّفين الوُجُوديِّين واليساريِّين في فرنسا.
اكتشفت «سيمُون دي بُوفوار» في السِّتينيَّات من القرن المُنصرم فقر ومذلَّة كِبر السِّن بالنَّسبة لها وبالنِّسبة للآخرين، فأصدرت كتابها «المرأة العجُوز» في عام 1970م، وقد أعطت فيه للشَّيخُوخة ما سبق أنْ أعطته للنِّساء في كتابها «الجنس الثَّاني». وهذا الكتاب يعتبر من الكُتُب المُهمَّة والجادَّة ليكسر حاجز الصَّمت المفرُوض على هذا الجانب مع المُعاناة الإنسانيَّة، حيث تقول: «كِبر السِّن.. وليس الموت هُو الذي يجب أنْ يُقارن بالحياة»، وتقُول، في موضعٍ آخر: «كِبر السِّن هًو مُحاكاة ساخرة للموت.. بينما الموت هُو الذي يحُول الحياة إلى مصير».
وبعد وفاة « سارتر» وفي عام 1981م، أصدرت كتابها: «وداعًا سارتر»، وهو مُلخص لحياته، وفيه كشفت تفاصيل كثيرة وعُيُوب شخصيَّة لـه، ممَّا أثار عليها ضجَّة كبيرة. كما كتبت في هذا الكتاب عن الرِّجال الذين أحبَّتهم في أثناء علاقتها بــ «سارتر»، ونشرت الرَّسائل المُتبادلة بينها وبينهُم، وهذا ما أعدَّه البعض بمثابة تصفية حساب معه خاصَّة أنَّه لم يترُك لها الوصاية – كمَّا هُو متوقَّع – على أعماله الأدبيَّة والفلسفيَّة بمَّا فيها خطاباته لها، بل عهد بها إلى فتاةٍ يهُوديَّةٍ من أصل جزائري تَدَّعي «آريت»، كان قد ارتبط بها بعلاقةٍ استمرَّت سنوات.
«سيمُون» رفضت جميع الانتقادات التي وُجِّهت إليها، وقد قالت: «إنَّ هذا الكتاب هُو من أجل سارتر وليس عنه، لقد حاولت أنْ أُضئ بعض المشاهد غير المعرُوفة في حياته»، وقالت أيضًا: «لقد كان سارتر رجُلًا حقيقيًّا، يعرف كيف ينتمي إلى الحقيقة، وكيف يبحث عنها، وعندما وضعت كتابي كُنت واثقة أنَّ هذا أفضل ما يُمكن أنْ يُقدّم لرجُلٍ لا يزال حيًّا».
لقد عاشت «سيمُون دي بُوفوار» هاجسًا استحكم نشاطُها الفكري وهُو هاجس الحُرِّيَّة والمُساواة، كانت في كتاباتها تُؤكِّد على حُرِّيَّة المرأة، لذا فلا غرابة أنْ ترفُض الخُضُوع لمصيرها المرسُوم – سلفًا – كأُمٍّ وزوجة !!
وهي لم تتوقَّف طوال حياتها أو خلال مسيرتها الأدبيَّة والفكريَّة عن الابتكار والإبداع، مُنذ أنْ كانت تُقيم في جبال مُقاطعة مرسيليا، مُنتحلة صندلًا، وباحثة دومًا عمَّا يُثير إعجابُها أو يجذبُها إلى المعرفة. كانت تكتُب مشاعرها وتصُبُّها على الورق وراء مسحة من بُرُودٍ وجُمُودٍ، وترفُض بشدَّةٍ أنْ تخرُج منها صيحة دهشة أمام شيء جميل، فبالنِّسبة لها الدَّهشة في مغزاها :غباءٌ !!
وهي مُلتزمةٌ فيما تكتُبُه، فهي دائمة الخوف من حُكم القُرَّاء عليها خشية أنْ يقُولُوا إنَّ كتاباتها تُثير فيهم الضَّجر والملل، وفي الوقت نفسه فإنَّها تتَّخذ من هؤلاء موقف الأستاذيَّة.
وتقُول «دانييل ساليناف» مُؤلَّفة أهمّ سيرة ذاتيَّة عن «سيمُون»: «كانت حياتُها بمثابة الحرب، أرادت أنْ تعرف كُلّ شيء.. وفي حياتها الشَّخصيَّة مع سارتر كانت تُريد دومًا أنْ تكُون على مُستوى الحدث.. كانت تتذوَّق الحياة بشكلٍ لا يُصدق.. ولكنَّها في الوقت نفسه كانت تعيش دومًا رُعب الفناء.. وقد أعطاها هذا قُوَّة لا مثيل لها.. كانت سيمُون تُحارب نفسها»
الكاتب والباحث وفيق صفوت مختار