بداية ما هو مفهوم الشِّعار؟ الشِّعار هو كما حدّده المؤلِّفان مجدي وهبي وكامل المهندس في كتابهما المشترك “معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب” الصادر في العام 1984 :” كلمة أو مجموعة من الكلمات أو عبارة أو فقرة تستعمل عادة لأغراض سياسية أو دينية أو إقتصادية للدلالة على فكرة أو هدف أو غاية. وتختلف الشعارات في نمطها، فقد تكون مكتوبة أو مرئية أو محكية، لكنها تتشابه فيما بينها بكونها مباشرة وذات دلالة قوية وتوصل المعنى المطلوب بسرعة ولا تحتاج للكثير من الشرح والتوضيح”.
والشعار كمصطلح دلالي سياسي، عرفته البلاد العربية، منذ خمسينات القرن الماضي أي القرن العشرين، حيث شهدت هذه البلاد تحركات للنضال والمقاومة من أجل تحرير فلسطين ودحْر العدوّ الاسرائيلي عن هذه الارض المقدّسة، أرض الانبياء وأرض المسجد الاقصى الذي يُعدّ- وفق ما ورد في علوم الفقه الاسلامي- ثاني بناء بُنيَ على الارض بعد بناء الكعبة المشرّفة، بأربعين سنة. وقد توالت الخطابات والشعارات المرفوعة مثل شعار ” فلسطين عربية” “القومية العربية”، “الوطن العربي”، “الوحدة العربية”، و”أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”. حيث استمرّ رفع كل شعار وفق الحدث وتداعياته، مُرورا بحرب ال 67 وانتكاسة مصر وسوريا ولبنان بعد احتلال جيش العدو الاسرائيلي لسيناء المصرية، والجولان السورية، وأجزاء من الجنوب اللبناني. وبمقابل الشعار الذي أطلقه الكيان الاسرائيلي المحتل على جيشه بأنه ” جيش لا يُقهر”، أطلقت مصر على لسان رئيسها جمال عبد الناصر شعار” ما أُخذ بالقوة لا يُستردُّ بغير القوة”.
وبالفعل، وتحت المفعول التأثيري الحماسي لشعار عبد الناصر، إتحد الجيشان المصري والسوري وخاضا حربا ضد الكيان الصهيوني في 7 أكتوبر من العام 1973 واستطاعا أن يستردا جزءا من أراضيهما المحتلة بمعركة إستمر صداها التاريخي والوجداني الجماهيري، إلى يومنا هذا.
إلاّ أنّ المسار الذي إتخذه الرئيس محمد أنور السادات بعد وفاة عبد الناصر، ذهب في اتجاه إنتكاسي معاكس تماما، حمل شعار”المبادرة العربية للسلام” حيث قام السادات بزيارته الشهيرة إلى الكنيست الاسرائيلي في العام 1977 وهي زيارة صدمت شعوب الامة العربية وأحبطت آمالها ووصفتها بالخذلان الكبير وبالانتكاسة الوجدانية الاصعب.
واستمرت الشعارات العربية بدءا من هذه الزيارة، تنحو منحى التخاذل الانتكاسي، فدخل العرب في أجواء مصطلحات التطبيع وانقسمت الآراء والشعارات المرفوعة آنذاك مثل” سلام الشجعان” الذي أطلقه الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد في المفاوضات غير المباشرة التي انطلقت مع المسؤولين الاسرائيليين” ومثل شعاريّ” مناهضة التطبيع” “والتطبيع خيانة” اللذين أطلقتهما هيئات فكرية وسياسية وجامعية، ومؤسسات قامت وتقوم على رفع شعار القومية العربية، وذلك على مستوى الوطن العربي كله.
ومنذ تلك المرحلة بدءًا من منتصف السبعينات، إستمرت خطوات التدحرج العربي نحو الخنوع والاعتراف بالكيان الصهيوني والقبول بتكريس العلاقات الرسمية معه وفتْح السفارات المتبادلة بين الدولة الصهيونية الغاصبة وبين عدد من البلدان العربية وأشهرها آنذاك، مصر والاردن.
وكان للشعارات التي يؤمن بها لبنان المقاوم المعاند الذي تعرّض لسلسلة من الإجتياحات الإسرائيلية، وذلك منذ ستينات القرن الماضي حتى الالفية الثانية من هذا القرن، صدقيّتها على أرض الواقع، حيث تم إفشال تنفيذ اتفاقيات السلام الإسرائيلية- اللبنانية في العام 1983، تحت شعار لا للتطبيع مع العدو ولا للسلام، بل جرى رفع شعار” يا قدس نحن قادمون”، وشعار “زحفًا زحفًا نحو القدس”.
وجرى في مطلع التسعينات المزيد من المعاهدات، من قبيل (عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية في العام1991 المستمرة حتى يومنا هذا) ومعاهدة السلام الأردنية- الإسرائيلية في العام 1994، واتفاقيات أبراهام التي تطبّع العلاقات بين الكيان المحتل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب في العام 2020 ، وهي إتفاقيات مستقلة ومختلفة التواريخ. علاوة على ذلك، أقام العديد من أعضاء جامعة الدول العربية علاقات شبه رسمية مع العدوّ بما في ذلك سلطنة عُمان.
عند هذه المسارات الانكفائية للبلاد العربية خفتت أصوات الشعارات التي تنادي بمناهضة التطبيع، ودخلت الشعوب العربية في حروب وانقسامات خارجية وداخلية وتغيير أنظمة وانقلابات، جرّاء التظاهرات الجارفة التي حصلت في تونس ومصر وليبيا وسوريا تحت شعار” الشعب يريد تغيير النظام” وتحت مسمّى “ثورة الياسمين”، مرورا بأيامنا هذه التي تدخل فيها للأسف مصطلحات أكثر تخاذلا في المعنى والمبنى والمغزى، وهي من قبيل الفقر العام في أكثر من بلد عربي، والدخول في انهيارات مالية وإقتصادية حادّة.
إزاء هذه المسارات التي خبرت كل الشعارات المطروحة والمتأرجحة بين الحماسة والانتكاسة، شهدت فلسطين اليوم، ومعها لبنان، شعارين تاريخيين سيحددان مسار ومصير القضية الفلسطينية في القابل من الاعوام. وما لبث هذا الشعاران أن انتشرا على ألسنة الشارع العربي المناصر للفلسطينيين، وهما” طوفان الاقصى” و”على طريق القدس”. وبهذه الشعارين ولى طعم الانتكاسات التي ذاقته الجماهير العربية، وبدأ عصر الاندفاعات والحماسات نحو تحرير فلسطين والجنوب اللبناني، مهما كان الثمن باهظا ومرِّوعًا في الارواح والاراضي والممتلكات.
وبالعودة إلى قراءة دور الشعارات التي تمثل المسارات الحماسية أو الانتكاسية، فقد وضع باحثون كثر مؤلفات ودراسات تعتني بفهم لغة الشعار السياسي والوطني وتحليل مدلولاته اللغوية، ومن بينهم الباحث اللبناني اللغوي د. نادر سراج في كتابه” مصر الثورة وشعارات شبابها-دراسة لسانية في عفوية التعبير”، حيث أكد سراج أنّ ” أهمية موضوع دراسة الشعارات السياسية من وجهة نظر لسانية وظيفية، تكمن في إبراز دور المناهج التحليلية البنيوية والأدوات اللسانية في مقاربة دراسة لغوية تطبيقية، إنْ على مستوى آليات جمع المادة (وسائل إعلام، مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، كتب ومنشورات، مشاهدات عينية… إلخ)، أو تصنيفها، أو على مستوى تفكيك بنى الخطاب الشعاراتي، أو على مستوى دراسة المكوّنات وتحليل المضامين وإبراز الدلالات، في ضوء التبدلات الحاصلة لجهة منشئي الشعار، إنتماؤهم السياسي، أعمارهم، إنشغالاتهم) وظروف إنتاجه وتداوله ورواجه وتعديله”.
وقد اعتمدت دراسة سراج التي نفّذها مع فريق عمل لبناني- مصري، مؤلف من خمسة باحثين مساعدين، في 12 شهراً (من آذار/ مارس 2012 إلى آذار/ مارس 2013)، على مدوّنة من 1700 شعار شكّلت «قاعدة المعلومات»، واشتملت على ثلاثة أقسام: يتناول الأول التراكيب واستخدام الضمائر، ويعالج الثاني قضايا البلاغة من خبر وإنشاء وخروج اللفظ عن مقتضى الظاهر، ويتطرق الثالث إلى الدراسة السيميائية لرموز المظهر والملبس والمأكل وغيرها. وبغية توثيق منطلقات الثورة المصرية ومراحلها والإحاطة بمنظومة الشعارات والهتافات والتعليقات التي واكبت مختلف تحركات القائمين بها أو مناوئيها، في القاهرة والمحافظات، اعتمدنا مجموعة من المصادر والمراجع (مطبوعة ومرئية ومسموعة وإلكترونية).
وقِسْ على ذلك، عشرات الكتب التي درست الاسباب والاحداث واللسانيات الشعبية والوطنية والجماهيرية التي انطلقت من بيئاتها رزمة الشعارات، سواء تلك التي انتشرت في أيام الانتكاسة العربية الكبرى، أم تلك التي شاعت وتشيع اليوم في أيام المقاومة الكبرى.
الكاتبة الصحفية غادة كلش