تصفحت الانترنت مرارًا لمعرفة المدة التي يستغرقها المرء بين الشهيق والزفير، فلم أجدها إلا بضع ثوانٍ ينتهي عدها عند بدايته، مما جعلني في حيرة من أمري أكثر من تلك التي كانت قبل البحث، فقد طالت المدة بين الشهيق الذي أخذته عندما خلع جنود الاحتلال الاسرائيلي بيتنا باحثين عني، قيدوني واقتادوني إلى الزنازين.
أربعةُ جدرانٍ، يأكلُ منها العفنُ والشرخُ مفصلاً، كُتِبَ عليها أسماءُ وتواريخُ عديدة، ربما تعودُ لأناسٍ مرّوا من هنا، أربعٌ من الجدرانِ، كلّ جدارٍ لهُ حكايةُ روحٍ عانت هنا، خُلِعَ منها عيشها وحياتها، ونوافذُ مغلقة، وأبوابُ ههنا لا غايةَ من وجودها! حمامٌ من الغرابةِ قاتم، وصنبورُ مياهٍ آسنٍ كآخرِ ما يمكنُ الوصول إليهِ، ولا “شامبو” أو منشفة.
زنزانةٌ تفقئُ العينَ بظلامها، يستحكمُ فيها الأرقُ موضعاً، يلتفُ في أنحائها ما استطاعَ من ضجرٍ وسأم، ولكنها تحفظ أسماءنا السرية كلنا، تعرفُ أرقامنا كما نعرفها، وتخزنُ رائحةَ ملابسنا، هذي الملابسَ التي لا نستطيعُ، إلّا أن نحميها، كما نحمي أرواحنا.
دقائق كثيرة، ساعة تلو الأخرى، وأنا داخل غرفةٍ، يحكمها الصقيع، على جدرانها لوحٌ تسجلت فيه تفاصيل حياتي لأظل عالقة بما كنت وأكون وحاسوب أمامي، بينما أجلسُ مقيدة على كرسيٍّ ثابت الأقدام وطاولة صغيرة تحمل المأكولات المختلفة ومحققٌ إلى جوارها صارخًا أن أعترف بما لست أعرف، وكطفلةٍ ضائعة أنتظرُ خروجي، عودتي إلى بيتي، أمي وأخوتي.
في غرفة التحقيقِ أنتَ بينَ سوئينِ: أن توقع ورقةً دونَ عناءٍ وألم، جهزهتها لك دولةُ الديموقراطيةِ، أو تفرط في عنادكَ متمسكًا ب(لا) تحت وطأة المرارة، وستفهم أنك الآن أسيرٌ كامل، دون أن تفلت منك قطعة واحدة.
التحقيق يستمر.. وبينَ السؤال والآخر، ناظرًا إليَّ في حدةٍ، يزداد شعوري بالتهديد، لكنّي لا أُجيب وأنا في اعتقاده مخربة! يرفع سماعة الهاتف ثم ينزلها إذ بأربع جنودٍ يدخلون يرمقونني وجندية من بلادٍ بعيدة تقهقهُ في أُذني وجميعهم يسألونني، فربما هذا نوعٌ من أساليبِ أن أُقر بتهمتي.
أحدهم يأخذُ كرسيًا يجلس أمامي وركبتهُ ملاصقة ركبتي، وكلماتهُ بصوتٍ خافتٍ في أذني: “قرارُ سجنكِ قد صدر، خمسٌ من سنينِ عمرك”. أصابني الذعرُ، ذعرُ الخوفِ مما سيكونُ ولكنّهُ كما يدعي سيخففُ من حكمي إذا أخبرتُ بما أراد، ولكنّ السكونَ استمرَ فيّ غيرَ قادرةٍ أن أجيب.
دخلتُ سجنَ (الدامون) مكبلة القدمينِ والرسغين، فكّت السجانةُ الأسوارَ الحديديةَ، وأدخلتني بابًا مرقمًا بالعبريةِ والإنجليزيةِ برقمِ (3)، بابًا رماديًا قاتمَ الإنشاءِ، تلوكُ منهُ الأقفالُ معظمه، وَضَعَت جهازاً على جسدي، جهازاً للتفتيشِ، يكشفُ عن نواياي، ربما.. (ضحكة).
رأيتُ نساءً، كُثُراً، يمشينَ في ساحةٍ صغيرةٍ، ملأى بالكاميرات، وغرفٍ عديدةٍ، لها أيضاً أرقامها، سياجٌ هنا وهناك، والسماءُ لوهلةٍ شعرتها لا تُحبُّ أن تكونَ سماءً كاملةً فوقنا!
رائحةُ الرطوبةِ تعششُ في الأبدانِ، والشمسُ المسكينةُ لا فراغَ لتسكنهُ في أعيننا، مناشِرُ غسيلٍ يتكررُ نوعُ القماشِ عليها، وصوتٌ بعيدٌ يقول: “جاءنا رقمٌ جديد”.. يأتينَ ليتعرفنَ إليّ، يربتنَ على خوفي وفزعي، أتعرفُ إليهن، أتذكرُ هذي وتلك، من سمعتُ عنهن، خارجَ الأسوارِ، قبلاً.
ألوجُ إحدى الحجرات، أرتمي للسريرِ المُشبعِ بحديدٍ بارد، أعتلي فرشتهُ، يا لِبُنيّتِها، ويا لدلالةٍ عليها “אבטחה – أمني”، ومن جيدِ حظي، أنّ الأسيرات وضعنَ لحافاً رقيقاً غطينَ بهِ هذهِ العبارةَ البشعة.
كنتُ محملةً بجبالٍ من التعب، فنمتُ كما تنامُ الدابّةُ المثقلةُ بأوجاعِ النهار! لأستيقظَ على صياحِ السجانِ، قائلاً: “عدد”.. أحسستُ بالسَقَمِ مغروساً في أنحاءِ جسمي لأعرفَ لاحقاً، ما رمزيةُ “العددِ”، غمسونا بما نحملُ من قهرٍ، في أرقامَ تزدادُ يوماً بعد يوم.
وقفتُ كبقيةِ أخواتي لتهمسَ لي أختٌ من زمنٍ آخرَ عني، قولي اسمكِ وكنيتك ولم أكن أعرفُ أنّ اسمي وكنيتي لهما نفسُ المقامِ في اعتباراتِ عدوي.. ولم يكن السجانُ، ليخرجَ إلّا بتلفظي باسمِ عائلتي، وبقيتُ أعيدُ المشهدَ خمسَ مراتٍ، كلّ يومٍ حتى أتتني حريتي التي ما زلتُ أستغربها حتى بعدَ انقطاعِ السلاسلِ عن يدي.
الأسيرة المحررة الإعلامية دينا جرادات