يبدو أن المقاومة الفلسطينية ومنذ بداية معركة طوفان الأقصى قد أدركت الأهميّة القصوى لورقة الأسرى في الصراع مع الكيان الصهيوني؛ لذلك وجدناها ومنذ اليوم الأول لعمليّتها الخاصّة التي شكّلت بداية معركة الطوفان تحرص على الزج بأكبر عدد من الأسرى الإسرائيليين سواء أكانوا مدنيّين أم عسكريين في جيش الاحتلال، إدراكًا من المقاومة على أن ردّ الفعل الصهيوني سيكون كبيرًا وقاسيًا على مثل هذا تطوّر في مجريات الصراع والاشتباك مع العدو الصهيوني، وهذا ما نلاحظه من حجم الدمار الهائل الذي خلّفه قصف وغارات الاحتلال في غزّة، عداك عن العدد الكبير من الشهداء والجرحى.
لقد حاول جيش الاحتلال منذ بداية المعركة أن يغض الطرف عن كل ورقة من شأنها تجعل الكرةَ في ملعب المقاومة ومنها ورقة الأسرى، فلم يهتم بها منذ بداية المعركة على الرّغم من مطالبات الشارع الإسرائيلي لحكومته بأن تُتِم صفقة للأسرى يخرج بموجبها الأسرى الإسرائيليون، ولقد ظلّت الحكومة الإسرائيلية تتجاهل هذا الملف مراهنة على عمليّتها البريّة في غزة، وأنّ هذه العملية هي السبيل الوحيد لتحرير أسراهم، ولكن ما راهن عليه جيش الاحتلال ووراءه حكومته كان رهانًا خاسرًا؛ فقد أدّى هذا الرهان إلى تأليب الرأي العام ضد إسرائيل، وإلى ازدياد تماسك ووحدة محور المقاومة في العراق ولبنان واليمن، والذي رأيناه في ضرب القواعد الأمريكية في العراق وسوريا وضرب الثكنات العسكري في الشمال الفلسطيني المحتل وفي الجنوب اللبناني المحتل، ورأيناه في قصف اليمن لمواقع مختلفة للاحتلال وقد فاجأنا اليمن بعمليته التي أفضت إلى توقيف السفينة الإسرائيلية في عرض البحر الأحمر وجرّها إلى الشواطئ اليمنية، كما أدى هذا الرهان إلى خسائر كبيرة في الاقتصاد الإسرائيلي، وخسائر جسيمة في جيشيه من أفراد وعتاد، ناهيك عن فقدان الشارع الإسرائيلي الثقة بحكومته وجيشه وفقدانه الأمان ما اضطرّه لأن ينزح إلى مراكز إيواء أقامتها حكومة الاحتلال، وقد نُشِر تقرير حول هذه المراكز وما ينتشر فيها من تعاطٍ للمخدّرات والكحول وأحداث تعدٍّ جنسي على الأطفال.
إذن، لم تكن المعركة معركة عسكرية بحتة، بل معركة اقتصادية سياسية شعبية اجتماعية، وفي كل جانب منها كان للاحتلال خسائره فيه، بالمقابل كان هناك نصر للمقاومة في كل جانب فيه.
لن نبالغ بالحديث عن خسائر الاحتلال، وجعله الخاسر الوحيد في هذه المعركة، ففي الجانب الفلسطيني، يخسر الشعب الفلسطيني الكثير من أحبابه والكثير من أحلامه وتطلّعاته، ولكن هو يؤمن أن هذا فاتورة استرداد الأرض واسترجاع الحق. وبسبب هذا الإيمان المطلق من الشعب الفلسطيني وثقته بملكيّته أرضه، فقد شاع في وسائل الإعلام الصهيوني أنّهم يواجهون شعبًا صعبًا، لا يملك ما يخسره، على خلاف الاحتلال الذي يملك ما يخسره، وقد أصبح يخسره رويدًا رويدًا.
تؤكّد معركة طوفان الأقصى أن هذه الاحتلال وهو بكامل جبروته وقوّته وحشٌ من ورق، أو قل أسد من سراب، وليس أدلَّ على ذلك من شجاعة المقاومين وذهابهم لآليات جيش الاحتلال وإلصاق عبوة العمل الفدائي فيها، والجندي مختبئ داخلها، فأين هذا الجيش الذي اختبأ أمام فدائي يلبس زيَّه اليومي الذي قد يكون ينام فيه، بلا أي بسطار ولا أي درع أو خوذة، وبلا أي تكنولوجيا يحملها سوى ساعة يده التي تدلّه إلى ساعة الصفر، ليقترب من جيش الاحتلال إلى ما بعد مسافة الصفر.
إنّه رغم كل ما استخدمه جيشُ الاحتلال من سلاح وعتاد وخبرات استخباراتية لم يستطع إلى الآن أن يحقّق إنجازًا عسكريًّا واحدًا، فصواريخ المقاومة ما زالت تحلّق وبغزارتها الأولى، ورجال المقاومة ما زالوا يشتبكون ويخرجون ويختبئون ويدمّرون وينسحبون بسلام، وقادة المقاومة ما زالوا يعملون دون أن يصل جيش الاحتلال إلى أيٍّ منهم، ولكن لم يحقّق هذا الاحتلال سوى إنجاز واحد، هو تدمير غزّة، وبناء جيل جديد من المقاومة، سيخوض غدًا معاركَ أخرى أشد ضراوة من الطوفان.
على أية حال، فإن صفقة التبادل التي أفضت إلى هدنة إنسانية مؤقّتة في غزّة وإدخال مساعدات إنسانية إليها، مقابل إخراج عدد من الأسرى الإسرائيليين وعدد من الأسرى الفلسطينيين على دفعات ماذا تعني؟
تعني أنّ المقاومة استطاعت أن تدير مجريات المعركة، واستطاعت أن تحافظ على ذاتها ومن الحفاظ على الأسرى قدر الإمكان، فلم يستطع الاحتلال أن يحرّر أسيرًا واحدًا عن طريق قوّته، ما يدلّ على أن جيشه فشل في أول هدف من توغله وهو تحرير الأسرى. كما أدّت هذه الصفقة إلى حدوث اضطرابات في الأوساط السياسية الإسرائيلية وخصوصاً في اليمين المتطرّف الذي عارض وبشدّة هذه الصفقة، وهذا له ما له في مستقبل الحياة السياسية في إسرائيل وهذا ما نلمسه من غرف التحليل السياسي في الإعلام الإسرائيلي والذي أكّد أن هذه الصفقة ليست جيدة لإسرائيل، إذ إنها تدلّ على أنّ العمل العسكري لم ينجح، ولم يجعل المقاومة تقول كفى فيعلنون استسلامهم، بل ما حدث العكس، خضعت إسرائيل لشروط المقاومة، فبهذا تتحقّق هزيمة جديدة لإسرائيل في معركة طوفان الأقصى.
الباحث سعيد نواف بشتاوي