(رواية متميزة على صعيد الشكل والفنية الأدبية،وعلى صعيد الموضوع والمضمون.)
***
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الأدب الفلسطيني على مر التاريخ واكب الأحداث، وعمل على (توثيق) ما يجري أدبيا، من وهنا نجد التاريخ الفلسطيني المعاصر حاضرا في الأدب، إن كان شعرا، أم قصصا، أم مسرحية، أم رواية.
وبما أننا أمام حدث عظيم ومصيري بالنسبة لنا كفلسطينيين وكمحور مقاوم للإمبريالية الغربية ووليدتها دولة الكيان الصهيوني، فكان لا بد من تناول معركة طوفان الأقصى، وهذا ما فعلته الروائية الفلسطينية نزهة الرملاوي في رواية “تراتيل في سفر روزانا” حيث كانت أول رواية تتناول ما يجري في معركة طوفان الأقصى، وها هو الروائي والشاعر “المتوكل طه” يكتب رواية من ألفها إلى يائها متعلقة بمعركة طوفان الأقصى، وهذا يحسب له، حيث أنه أول روائي كتب رواية كاملة عن معركة طوفان الأقصى، أما عربيا فقد كتب ايمن العتوم روايته “الرعب”. هذه هي الأعمال الروائية التي تناولت ما يجري الآن في غزة.
قبل الدخول إلى الرواية أنوه إلى أن الأحداث دامية وموجعة ومؤلمة، فحجم الوحشية الصهيونية في غزة لا يمكن تصورها من أي عقل إنساني، فنحن أمام مجموعة من القتلة تعود بعقليتها إلى ما قبل التاريخ، وهذا ما صعّب العمل على السارد الذي كان عليه رصد الجرائم والوحشية الصهيونية من جهة، وتقديمها بصورة وشكل أدبي جاذب للقارئ.
وهنا لابد أن نتوقف قليلا عند الشكل والطريقة التي قدمت بها الرواية، فرغم دموية أحداثها وحجم الألم الذي يعانيها شخوصها، إلا أنها تقرأ على جلسة واحدة، رغم أنها رواية كبيرة، وهذا يحسب للسارد الذي استطاع أن يمرر هذا الوحشية والدموية الصهيونية بشكل وصيغة أدبية روائية لافتة.
فهناك الفانتازيا التي أوجدها من خلال حصانه “الأجدل” حيث سار به إلى أماكن خطرة ما كان ليكون فيها دون “الأجدل” وما كنا لنستطيع أو نعرف ما يجري مع أهل غزة دون هذا الحصان، كما أنه استخدم السخرية في بعض المواضع، مما أسهم في التخفيف من حدة الألم الكامن في الرواية،
كما أن هناك قصص وأحداث جاءت بصورة أكبر من العقل (المنطق) مثل جثث الشهداء التي بقيت سالمة رغم مرور أيام على استشهاد أصحابها، مما جعل الرواية تخدم فكرة نبل المقاوم وإيمانه بما يقوم به من مواجهة لعدو مجرم وتتريّ.
ونلاحظ أن السارد/الكاتب تدخل مباشرة في الأحداث وأوجد لنفسه مساحة ليتحدث بها عن نفسه ككتاب وكشاعر،ما أضفى لمسة جمالية على سرد الروائي، فكان بهذا التدخل يؤكد دور المثقف في الحروب المصيرية، من هنا نجده يستحضر مجموعة كبيرة من الكتاب والفنانين العالميين والعرب والفلسطينيين، حتى أنه ينقل لنا بعض الأقوال المأثورة لهم، كما هو الحال عندما تحدث عن فرانتز فانون.
وإذا علمنا أن السارد وزّع الأحداث بين ما يتعرض له في المعتقل من تعذيب وحشي، وبين واقع الناس أثناء العدوان الصهيوني، وبين تناول حالات أفراد بعينها، حتى أنه تحدث عن الزواج والولادة وقضاء الحاجة، كل هذا جعلها رواية شاملة وكاملة ترصد جرائم المحتل في غزة خاصة وفي فلسطين عامة.
وللأمانة الأدبية يتوقف السارد عن بعض الشخصيات اليهودية المعادية للصهيونية، مثل جدعون ليفي وبابية، وهذا يشير إلى الموضوعية الروائية، فهي لا تتحدث عن المحتلين إلا كما هم، حتى أنه يتحدث عن الطبيب الذي يسعف مجموعة من الجنود، فيأتي بعد زمن أحد هؤلاء الجنود حاملا باقة ورد، كرد جميل لما قام به، لكن الطبيب يرفض استقباله، لأنه جاء بلباسه العسكري وبجبّ عسكري، وطلب منه أذا أراد أن يحضر كضيف أن يأتي بسيارته الخاصة وبلباسه المدني، وليس بواسطة جب عسكري.
وإذا علمنا أن السارد يجري حوارات عديدة مع الكثير من الشخصيات، إلا أن التركيز كان على حواره مع السجّان أو المحقق الصهيوني، حتى أنه تفوق حجما ونوعا على بقية الحوارات الأخرى، ما أعطى القارئ فكرة أن أي تباين/خلاف/تعارض فلسطيني فلسطيني يبقى هامشيا، ويبقى التعارض الأساسي مع المحتل، من هنا نجده يمر سريعا على الحوارات الفلسطينية ـ حتى تلك المتعلقة بوجود السلطة، وتلك الدوافع التي دفعت قادة المقاومة ليقوموا بمعركة طوفان الأقصى ـ بينما كان حواره مفصلا وواضحا مع المحقق، بحيث أوصل للقارئ حقيقة الفكر الصهيوني القائم على إلغاء كل ما هو فلسطيني وحتى عربي.
وبهذا الحوارات أوصل السارد بطريقة غير مباشرة فكرة أن التباين/الخلاف الفلسطيني يمثل حالة صحية وصحيحة، وأن تناقضنا الأساسي يبقى مع دولة الاحتلال.
كل هذا يجعلنا نقول إن رواية “أخبار نصف جيدة” رواية متميزة على صعيد الشكل والفنية الأدبية، وعلى صعيد الموضوع والمضمون.
كتابة الرواية
قبل الدخول إلى أحداث الرواية، سنتوقف قليلا عند الفنية التي جاءت بها، فالكاتب يدخل مباشرة إلى السرد الروائي ويتحدث عما يريده من وراء رواية “أخبار نصف جيدة” يقول: ” وأريد أن أكون، باعتباري كاتباً، جزءاً من كتلة صلبة ذات وعي جماعي متماسك، حتى تحدث الطاقة المطلوبة لإحداث فعل إيجابي.
… ..فلربّما أعثر على ضالّتي، وأجترح نصّاً يضيء المذبحة، وتكون هذه الرواية جهداً مشتركا، لا فضل لي فيها سوى الصياغة والرّصف والتقديم،” نلاحظ الجانب الأخلاقي والمهني عند السارد/الكاتب، فهو يرى من واجبه الوطني والقومي والإنساني أن يكشف حقيقة المجازر التي يقترفها العدو بحق شعبه، وهو بهذا يمارس دوره ككاتب في الحرب.
أما عن الأحداث وطبيعية الشخصيات الروائية التي جاءت في الرواية، فيحدثنا عنها بوضوح بقوله: “وما مكالماتي مع أهلي الأصدقاء في غزة، المتقطّعة والحزينة والمليئة بالفجائع والدموع، إلا مياهي الجوفيّة التي سأنهل منها، لأجد ما أبحث عنه، وراء ما يقولونه بين أنفاسهم المحمومة والرجراجة.” هذا الموضوعية تحسب للكاتب/للسارد الذي يؤكد (واقعية الأحداث وحتى الشخصيات) وهو بهذا يقوم بما كان يقوم به الأديب الروسي في الحرب العالمية الثانية، فتم توثيق المعارك والبطولات وهول الحرب من خلال الروايات والقصص، ففي المعركة لا مكان للأديب إلا أن يكون فيها مشاركا وراصدا وموثقا.
لم تقتصر المشاركة في المعركة على الكاتب/السارد فقط، بل طالت أيضا من يديرون دور النشر: “وسأُلبّي طلب صديقي طارق صاحب دار النشر، الذي يحثّني دائما على كتابة “ما يجري في غزة” حتى لا تضيع الدماء والأحداث..” وهنا يكون السارد قد تحدث بموضوعية وواقعية عن دور المثقف الفلسطيني، فهو منتمٍ لقضايا شعبه وأمته، ويحرص عليها وعلى تدورينها ونشرها وتوزيعها، ليعلم الجميع حقيقة ما يجري في فلسطين.
ولا يكتفي الكاتب/السارد بهذه الإشارة إلى واقعية الرواية، بل أنه تحدث عن إتمامها وكيف وتم إنجازها وإخراجها للحياة: “يرنّ هاتفي المحمول، إنه صوت الصديق طارق صاحب دار النشر: أهلاً، كيفك…هل أنهيت الرواية؟
وأجيب: نعم، وسنبقى، معاً، بوجوهنا الحقيقية، في هذه الحفلة التنكّريّة.” في الحرب لا بد من تناول ما هو حقيقي واقعي، وهذا قد يزعج بعض القراء الذين يهتمون ويركزون على الفنية الأدبية أكثر من الموضوعية والمضمون، لكن، ورغم هذه (المباشرة/الواقعية) إلا أن السارد كسر وتيرة هذه الواقعية والموضوعية من خلال الفانتازيا التي أضفت لسمة ناعمة على الرواية، وجعلت أحداثها سهلة التناول: “لدى الصوفية مفهوم يُسمّى “البروز” وهو أن الشخص يمكن أن يكون في أكثر من مكان في ذات الوقت! فهل أنا الكاتب في رام الله، أم السجين في تلك الزنزانة، أم ابن بيت لاهيا صاحب الحصان الأجدل؟ وهل الحصان رمزاً أُضيفه إلى رموز الصوفية؟
لا أدري. غير أني على يقين بأنني في السجن، وبأنني الكاتب من قلقيلية وأسكن رام الله، أما أنني من غزة فهذا الأكيد الذي لا يرقى إليه الشك”
هذه (اللخبطة/التيه) الذي يضعنا فيه السارد هو ما يميز الروية، فهي تجمع أكثر من شكل ومدرسة أدبية، وكأن هذا الخلط الأدبي، هو صورة عما يجري في غزة، فرغم الدمار والقتل والمجازر ووحشية المحتل، إلا أننا نرى حياة الناس وإصرارهم على البقاء، ونرى صورة تقديم أدبية، تليق بالرواية، فكان الشكل والطريقة التي قدمت بها الرواية مماثلة لأحداثها، فهناك ما هو قبيح/المحتل، وهناك ما هو جميل/الفلسطيني.
ونلاحظ أن هناك أكثر من مكان ينتمي له الكاتب/السارد: “قلقيلية، رام الله، غزة” فتعدد الأمكنة يشير إلى وحدة الجغرافيا الفلسطينية، وأن الفلسطيني يرى في كل المدن والقرى بعين المنظار، ولا فرق بينها، وهو بهذا يؤكد أن فلسطين كل فلسطين وحدة واحدة، هكذا يراها “المتوكل طه” الفلسطيني ابن قلقيلية الذي كتب عن غزة وهو يسكن رام الله، أليست هذه معجزة فلسطينية تضاف إلى معركة طوفان الأقصى!
الكاتب والناقد رائد الحواري