ظلام غير حالك

نزلتُ من سيارة صديقي قرب باب المدرسة ، كانت الأجواء ثقيلة كعادتها منذ بداية الحرب على غزة وزاد من ثقلها غابة الاسمنت التي تحجب الشمس في بلدة كفر عقب شمال القدس ، في واقع الامر وصلت الى المكان بشعور من خرج لتوه من متاهة ، لاشىء كان يبشر بيوم جيد ولكن كان ينبغي علي التقدم بخطوة الى الامام تماما مثلما أفعل منذ بداية الحرب ، أرغم نفسي على الحركة والحياة .

تلقيتُ قبل أيام دعوة من إحدى مدارس ضواحي القدس للمشاركة في يوم اللغة العربية من خلال الحديث عن تجربتي ككاتب ، دائما كان التواصل مع الطلاب والاجيال الشابة يبعث في روحي الأمل ويجدد النشاط ، ولكن هذه المرة ترددت كثيرا فمثلي مثل معظم الكتّاب الفلسطينيين اصابتنا الحرب بصدمة كبيرة ، فروح الكاتب لا تحتمل مشاهد الموت والدمار، وغالبا في الحروب يكون هناك دمار وركام وجثث كثيرة متكومة في صدور الكُتّاب ، لكن الاستسلام لتلك الحالة يعني الموت وهو موت لن يفيد أحدا ، لذلك جاهدت طيلة أيام الحرب لمقاومة الحزن والشلل والعودة الى الكتابة ، واعتبرت دعوة المدرسة دَفعة إجبارية الى الأمام .

وراء الباب فاجأتني حديقة صغيرة منسقة بعناية وسط الجدران ، كانت إشارة جيدة لانبعاث الحياة والألوان من وسط الموت والرماد حتى اني شعرت بوجود جنيات مرحات يحملن الوانا بهيجة ويقمن بتلوين الهواء والرقص تحت اشعة الشمس النادرة في المكان .

” هل تريد قهوة يا أستاذ ؟ “

” يبدو انك لم تشرب شيئا منذ الصباح “

سألتني المديرة

يبدو ان مظهري كان فظيعا لتلك الدرجة !

طردت الأفكار السيئة التي حامت في رأسي كالذباب وطلبت فنجانا من القهوة .

جاؤوني بقهوة تركية شربتها بسرعة وتوجهت الى غرفة الصف التاسع الأساسي .

فور دخولي لاحقتني نظرات الدهشة من البنات ، كن يعتقدن ان الادباء والكتاب كلهم ماتوا لأن

النصوص الموجودة في الكتب المدرسية كلها لأدباء عرب انتقلوا الى العالم الاخر ، وبعد اقناعهن بأنني

حي واجهت أسئلة لذيذة ، لذيذة لانها حقيقية وذكية ومن قلوب التلميذات ولم تكتبها معلمة اللغة العربية .

مع كل سؤال ومع كل نظرة من عين يافعة تلمع بالذكاء كنت أشعر بروحي المعنوية ترتفع وترتفع ، هذا الشغف بالحياة والقراءة هو أملنا بأننا منتصرون على الموت لا محالة .

المدرسة تابعة لبلدية الاحتلال في القدس وليس لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية بسبب وقوعها ضمن نفوذ بلدية الاحتلال ، ومع ذلك فان مساحة الحرية الممنوحة للطالبات وقلة القيود الموضوعة على عقولهن جعلتها مساحة حرة اكثر من مدارس كثيرة اعرفها تابعة لوزارة التعليم الفلسطينية . ما يخافه الطغاة دائما هو حرية التفكير لأنه سوف يقود في نهاية الامر الى إسقاطهم .

عرَّفتني معلمة اللغة العربية الى بعض الطالبات اللواتي أصابهن الحزن بسبب مشاهد جرائم الوحش في غزة ، قلت لهن أن مهمة الطالب ان يتعلم ومهمة الطبيب أن يعالج ومهمة المعلم أن يعلم ومهمة الكاتب أن يكتب ومهمة المقاوم أن يقاوم ولا ينبغي ابدا ان نخجل من كوننا أحياء نمارس رسالتنا وحقنا في الحياة ،

مهما حصل يجب أن نحاول ونحاول ونحاول

من أجمل الأمور التي حدثت لي في تلك الزيارة ان اقتربت مني بنت في الثانية عشرة من عمرها ترتدي نظارات كبيرة وتحمل حقيبة مليئة بالروايات ، بعضها كان اكبر من سنها ، اعطتني قائمة بما قرأَت خلال عام 2023 خمسة وعشرون كتابا .

حيوات كثيرة كانت تحملها تلك الفتاة في حقيبتها المدرسية .

عندما غادرت المدرسة كتبت منشورا قصيرا على الفيس بوك :

” الظلام غير حالك … في أمل “

تساءلت إحدى الصديقات أين يوجد الامل ؟

أجبتها :في حقيبة بنت مليئة بالكتب والروايات .

الكاتب خليل ناصيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *