عامٌ على حرب غزّة تجلّيات الاستشراق في الخطاب الإعلامي الغربي ل د. يوسف حطّيني


على الرغم من كون الاستشراق مصطلحاً مستقرّاً فإنّ دلالاته ما زالت تتنافر بين قطبين: قطبٍ يرى فيه جهوداً غربية محمودة، تحاول أن تفهم ثقافة الشرق من خلال دراسته، ومحاورته ثقافياً، في مقابل قطب آخر يرى فيه سعياً لمعرفة الشرق من أجل استغلاله واستعماره اقتصادياً وسياسياً ومعرفياً، ناهيك عن مواقف متباينة ومتدرجة تنوس بينهما. وكان إدوارد سعيد واحداً من أبرز الذين كتبوا عن الاستشراق، وشكّكوا في مقاصده المعلنة، إذ “خاطب الغرب بلغته ومنهجه العلمي الحديث، فكشف الغطاء عمّا يتخفّى بقناع الثقافة والدراسة العلمية من مواقف لا تهدف إلا إلى تحقيق مطامع أو مصالح مادية صرفة “. وعلى الرغم من الضبط المنهجي الصارم لكتاب “الاستشراق ـ المفاهيم الغربية للشرق”، وعلى الرغم من التعريفات المتعددة التي يقدمها سعيد لهذا المصطلح، فقد رأى فيه أسلوباً غربياً “للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه، والتسلّط عليه “. ورأى أن خطابه يمتلك تماسكاً وتنظيماً وروابط مؤسسية “تمنحه القوة، وقدرته الفائقة على الاستمرار “.
وبناء على هذا الفهم الحذر والمتشكك الذي نميل إليه تغدو المعرفة الاستشراقية متّكأً أساسياً من متكآت التعامل مع الشرق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً. ويتخذ الإعلام أهمية متعاظمة، تسعى إلى تحويل التفوق الغربي والدونية الشرقية أمراً واقعاً من خلال معرفة الشرق؛ فالمعرفة حسب كرومر “تأتي بالسلطة، وزيادة السلطة تتطلب زيادة المعرفة “.


وسوف نحاول في هذه الصفحات أن نبحث عن تجليات الاستشراق في الخطاب الإعلامي الغربي من خلال نموذج حرب غزّة ـ 2023ـ 2024؛ لأننا نرى أن هذا الخطاب يبنى بشكل أساسي على مرجعيات استشراقية تمّ التنظير لها منذ عهد بعيد.


(2)
إذا كان الإعلام يقوم قديماً بوظيفة أساسية هي نقل الخبر مشافهة أو كتابة، فإن الإعلام المعاصر انتقل إلى “استخدام التكنولوجيا الرقمية، وتطبيقات النشر والبث الإلكترونية، متيحاً المشاركة للجميع كمنتجين ومتلقين للمادة الإعلامية ووسطاء لتداولها والتفاعل معها بحرية ومرونة “، ما يجعله شديد الأهمية والخطورة؛ إذ لم يعد نقل الخبر سوى وظيفة من وظائف أخرى كالتسلية وتوجيه الرأي العام، إضافة إلى التزييف والتضليل والخديعة والدفاع عن الأنظمة الراعية للمؤسسات الإعلامية مهما بلغت درجة فسادها.
وقد بلغ الخطاب الإعلامي الغربي، خاصة في الأيام الأولى التي تلت السابع من أوكتوبر عام 2023 درجة عالية من الانحياز، والخروج عن كل ما تتطلبه مهنة الإعلام من مصداقية واستقلالية، ضارباً عُرض الحائط بما جاء في إعلان بوردو 1954 الذي يعدّ وثيقة مهمة تتناول أخلاقيات الممارسة الإعلامية، وتحث على “بذل الجهد في تصحيح أية معلومات غير دقيقة، سواء كانت منشورة أو معدة للنشر “، ليكتشف الشرقُ أن التشكيك بالمحرقة ليس الأمر الوحيد الذي لا تمكن مناقشته، بل إنّ أي محاولة لتغيير صورة الغرب المشرق المنير، بما فيه دولة الكيان، مرفوضة تماماً، وتستحق من وجهة نظر الغرب أن تُحشد لها الأساطيل الإعلامية إلى جانب الأساطيل العسكرية.
وهنا ينهض سؤالان مهمان:
هل تنكّر الإعلام الغربي لمبادئه التي نظّر لها؟
وهل تنكّر لمرجعياته التي تحكم نظرته للشرق؟
نشير بداية إلى أن الغرب عامة (الولايات المتحدة وأوروبا) لا ينظر إلى الشرقي مباشرةً، بل إلى صورة الشرقي التي رسمها المستشرقون لرجال متوحشين مهووسين بالجنس، ونساء مبتذلات ينتمين إلى عالم كتاب “ألف ليلة وليلة” أكثر مما ينتمين إلى واقع الحياة. وهذه النظرة الاستشراقية ما زالت تغمر الصحافة؛ “إذ يُظنّ أن العرب قوم يركبون الجمال، إرهابيون، أنوفهم معقوفة، فاسقون مرتشون، وأنّ ثروتهم التي لا يستحقونها إهانة للحضارة الحقيقية. وخلف ذلك دائماً ما يختبئ افتراض أنه رغم انتماء المستهلكين الغربيين إلى أقلية عددية في العالم فإنّ حقهم أن يمتلكوا أو ينفقوا (أو أن يمتلكوا وينفقوا معاً) غالبية موارد العالم. لماذا؟ لأن المستهلك الغربي، بخلاف الشرقي، إنسان حقيقي . وهذه الصورة تلتصق بالمخيلة الجمعية، ويصعب تغييرها، في عصر تميل فيه كفة الميزان الإعلامي، مثل كثير من الموازين الأخرى لصالح الغرب وربيبته المدللة “إسرائيل”، فتتشكل إثر ذلك صورة ذهنية للشرقي في أذهان رجال الإعلام، والمحررين الصحفيين؛ إذ “يُعتبر ما تكوّنَ في أذهان الناس عن الجماعات العرقية والدينية والسياسية له دور كبير في تشكيل الصورة الذهنية للصحفي حول موضوع ما، مما يجعل هذه الصورة عاملاً مؤثراً في الموضوعية “.
أضف إلى ذلك أن الامبراطوريات الإعلامية (من مثل إمبراطورية روبرت مردوخ) مارست وتمارس دورها في تشويه صورة الشرق، وفقاً لأجندات مدروسة، وإثر ذلك أصبحت اللوائح الإرشادية للصحفيين حبراً على ورق. وربما من المناسب أن نذكر هنا أن الاتحاد القومي للإذاعيين الأمريكيين وضع لائحة إرشادية للمواد الإخبارية والإعلانية المقروءة والمسموعة والمرئية، ومنها: “أن تتسم التغطية الإخبارية بالحقيقة والعدالة وعدم التحيّز “، ولنا أن نتابع الإعلام الغربي لنرى مظاهر التحيّز الصارخ لصالح دولة الكيان، دون أن تحلم الضحية حتى في أن تتساوى مع الجلاد. ولا يأتي هذا التحيّز (وخاصة التحيّز الأمريكي) خارج السياق؛ فالحكومات الأمريكية المتعاقبة لا تعترف بحقّ الشعوب في مقاومة مستعمريها، لأنها في الأساس أقامت دولتها على أنقاض حضارة الهنود الحمر. ففي حوار لنعوم تشومسكي مع هاري كرايسلر يبيّنُ تشومسكي حرص أمريكا (وإسرائيل أيضاً) على عدم تشريع مقاومة الاستعمار، فيقول: “إذا ألقيتَ نظرة فستجد أن هناك قرارات رئيسية للأمم المتحدة بِشأن الإرهاب صدرت في عام 1987 تدين كارثة الإرهاب الدولي، و تدعو كل الناس لفعل شيء ما لإيقاف ذلك. و قد مرّت القرارات مع صوتين معارضين هما إسرائيل و الولايات المتحدة. وكان السبب بالضبط هو أن تلك القرارات قد نصت على أنه (لا شيء في هذا القرار سوف ينال من حق الناس في الكفاح من أجل الاستقلال وضد الأنظمة العنصرية والاستعمارية والاحتلال العسكري الأجنبي) “.
ويبدو هذا التقارب الأمريكي الإسرائيلي منطقياً، لأن العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” قائمة على تشابه النشأة، فالمهاجرون إلى فلسطين المحتلة والقارة الجديدة كانوا يؤمنون أنهم شعب الله المختار الذي جاء ليعمّر الأرض الجديدة ويغمرها بالنور والحضارة، وينقذ أهلها من التخلف، وقد أشار الدكتور عبد النبي اصطيف إلى هذا التماهي الذي يسوّغ عمق العلاقة الاستراتيجية القائمة بينهما .
وما دام الغرب قد أسس بوعي استشراقي واضح لأجندته السياسية، فليس لنا الحقّ في أن نلومه، بل علينا نحن الشرقيين، والعرب خاصة، أن نلوم أنفسنا لأننا لا نحسن تمثيل أنفسنا، والذين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، لا بدّ أن يمثّلهم أحد ما، كما يشير ماركس . وحين وجد الغرب فراغاً لدى الشرقيين على صعيد تمثيل النفس بشكل لائق قرّر أن يملأ الفراغ بشكل نظري يمهّد لمشاريعه الاستعمارية، إنه يخلق المادة المناسبة التي سيؤسس عليها الوعي اللاحق المنشود، بمعنى أنه يدرس مشاريعه ثم يختلق أفكاراً يروّج لها أدبياً وفكرياً وإعلامياً. وحين يأتي دور التنفيذ تكون الفكرة قد نضجت لدى العامة. وهذا الأمر ينطبق على كل المشاريع الاستعمارية، فحين يُراد ضرب العراق يقوم الإعلام الاستشراقي باختراع سبب زائف أولاً، وحين يُراد ضرب قوى المقاومة تُشوَّهُ صورتها، وتُلصَق بها تهم الإرهاب والتطرف تمهيداً لضربها، وحين يُراد احتلال فلسطين يخترع ذلك الإعلام نظرية أرض بلا شعب، ما يستلزم تأطيراً نظرياً قد يستغرق عقوداً لهذا المشروع الاستعماري؛ ففكرة “أرض بلا شعب”، وفكرة “أرض الميعاد” فكرتان غير قديمتين، بدليل أنّ فلسطين لم تكن المرشّحة الوحيدة لقيام الدولة اليهودية. وبعد اتخاذ القرار السياسي تم نبش الكتب المقدسة بحثاً عن مسوغات إيديولوجية، مثلما تم تحشيد الفن الفكر والاقتصاد والأدب خدمة لهذه المشاريع المترابطة.


(3)
هنا كان على الإعلام الغربي أن يستمرّ في أداء وظيفته التشويهية الممهِّدة للفعل الاستعماري، تلك الوظيفة التي ظهرت في الفنون الأوروبية المختلفة قديماً وحديثاً، وثمة أمثلة كثيرة تدلل على ذلك. فعلى الرغم من التقدير الذي حظي به ابن رشد قديماً عند الغربيين، حتى إنهم سمّوه (المعلّم الكبير)، مارست المؤسسة الاستشراقية ومن يتبعها دوراً مخالفاً، فليس غريباً أن نجد لوحة لرفائيل تصّور ابن رشد وهو يسترق السمع، وليس غريباً، في العصر الحديث، أن يفرِّغ فيلمُ ملكوت السماء شخصيةَ صلاح الدين (التي أداها الممثل السوري غسان مسعود) من محتواها، عند الإلماح إلى أن فتح القدس تمَّ بفضل بيلين الذي نزل صلاح الدين عند رأيه . وينطبق هذا على السينما الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية، ويُذكر هنا أنه “تم إنتاج مئات الأفلام التي تمجد اليهود والمستوطنين بمساعدة من المنظمة الصهيونية العالمية والهستدروت وجهات حكومية، وتشويه صورة العرب واتهامهم بالجبن “، وما زالت السينما الإسرائيلية (التي هي جزء من الإعلام الغربي بحكم بُنيتها لا بحكم موقعها)، تحاول “تصوير الشعب اليهودي بأنه شعب مقاوم وصامد ضد كل آلة القتل والإرهاب والإبادة العربية، وأن “إسرائيل” جاءت لإنقاذ العالم والكرة الأرضية من توحش الإرهاب العربي والإسلامي “.
فإذا انتقلنا إلى تاريخ الأدب نرى أن فلوبير عرض صوراً للمجتمع الشرقي المهووس بالجنس ، بينما سوّغ رديارد كيبلنغ الاستعمار الغربي تسويغاً شعرياً داعياً الغرب الاستعماري إلى التكاتف لا إلى التنافس:
“والآن، هذا هو الطريق الذي يسلكه الرجال البيضُ
عندما يذهبون لتطهير أرض ما
(…) لسوف تسعد الدنيا إذا خطا الرجال البيضُ
في ذاك الطريق، في تكاتفٍ متجاورين “.
لقد مهّد الغرب دائماً لأفعاله الاستعمارية باستخدام تأثير القوة الناعمة؛ إذ عمل على جعل نموذج الدولة الغربي يُحاذى في الشرق، من خلال “قوة الدولة الناجمة عن جاذبية مسلسلاتها وأفلامها، وموسيقاها ورواياتها وأدبها، ورياضاتها ومطبخها وأكلاتها وسلاسل مطاعمها، وأزيائها وصيحات ملابسها، وغيرها من أعمالها الفنية وعناصر ثقافتها الشعبية أو الجماهيرية (Pop culture) التي تُذاع وتنتشر عبر الحدود بين الجماهير العادية أو النّخب على حدّ سواء “. ولم يقصّر اليهودُ أنفسُهم في نشر الرؤية الإعلامية تجاه مختلف القضايا، واحتكارها في كثير من الأحيان، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ إذ سعت الدعاية الإسرائيلية “منذ بداية تأسيس المشروع الاستيطاني في فلسطين للسيطرة على بعض النواحي المهمة في مجالات الفنون التشكيلية، فسيطر اليهود عالمياً على أهم دور النشر والمطبوعات الفنية في أوروبا والولايات المتحدة “. كما سيطر الإعلام الصهيوني على كثير من المؤسسات الإعلامية شرقاً وغرباً .
وهكذا أصبح بإمكان القوى الاستعمارية أن تستعمر من تشاء، اعتماداً على تأطيرات ذهنية استشراقية يتم استثمارها في كل زمان ومكان، وصار بإمكان تلك القوى أن تحصل على مباركة من مرجعيات قامت بإنشائها على مدى عقود، مثلما صار بإمكان الجيش الإسرائيلي أن يقصف المستشفيات ويقتحمها (مستشفى الشفاء في غزة 15/ 11/ 2023)؛ لأن “مقرات قيادة المقاومة تحتها”، ولأن “مخازن السلاح موجودة فيها”، ولا فرق بعد القصف إن أثبت القتيل كذب القاتل الذي سبق أن مارس كذبة مشابهة حين تحدّث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق (كولن باول 5/ 2/ 2003).
وهنا لا يهم السياسة الإعلامية أن تتهم بالتزييف، ما دامت الدعاية ستحقق هدفها الوحيد، فـ “ليس هناك قواعد للدعاية. إنّ لها هدفاً وحيداً هو إقناع الجماهير “، كما يقول غوبلز، حتى إنّ التزييف حين يتم فضحه لن يؤثر على من قام به لأنه الأقوى في عالم شريعة الغاب، فهذه السياسة الإعلامية تصنّف في إطار “المعرفة القابلة للفناء”، التي تعني إنتاج المعرفة المزيفة، واستثمارها، ثم الاستغناء عنها، دون أدنى شعور بالالتزام الأخلاقي، فقد “كانت الكذبة الأولى التي ادّعاها بوش وقادته العسكريون وإعلاميوه الببغاويون أن الحرب على العراق كانت لامتلاكه أسلحة دمار شامل، بل إن بلير كذب كذبة تاريخية لم نعرف كيف صبر عليه بعد افتضاحها نظامه الديمقراطي. هذه الكذبة في قوله إن العراق يستطيع خلال خمس وأربعين دقيقة أن يقصف بأسلحة الدمار الشامل ما يشاء من أهداف “. وبالطبع فليس هناك من يستطيع محاسبة الكاذب على كذبة راح ضحيتها الملايين، وانهار بلد كامل بالاستناد إليها. ومثل هذه المعرفة القابلة للفناء تمت ممارستها مرات متعددة في حرب غزة 2023؛ فقد “عمدت التقارير الإعلامية الإسرائيلية إلى تبرير قتل الأطفال والنساء والشيوخ وحتى الحيوانات وقصف المنازل بشكل عشوائي بدعوى أن المقاومين الفلسطينيين ينطلقون من تلك المواقع أو يتحصنون فيها “، وفي صورة فاضحة لتلك المعرفة “زعمت إسرائيل أنّ هناك مركز قيادة وتحكم لحماس تحت مستشفى الشفاء في غزة. وردّدت وسائل الإعلام الأمريكيّة هذه الادّعاءات. وحين اتّضح أنّها غير صحيحة، مضى الجميع بحياتهم. مات فلسطينيون على أساس هذه الأكاذيب، بمن فيهم مرضى في قسم العناية الفائقة”.


(4)
أما على صعيد المصطلح فقد أوجد الإعلام الغربي مصطلحات ملتبسة، ولا تثريب على الغرب ما دام هو الذي يخترع المصطلحات، وهو الذي يروّج دلالاتها، كيف لا؟ وهو الذي سرق قارة الهنود الحمر من أهلها، وسمّى الأمر “اكتشاف أمريكا”، وفرض المصطلح على الجميع، مثلما فرض مصطلحات اقتصادية شرسة بالقوة الناعمة. ومن أشهر هذه المصطلحات مصطلح العولمة، الذي يريد أن يقنعنا أن العالم عائلة صغيرة تقوم العلاقات بين أفرادها على الإنسانية والتبادل الثقافي وتبادل المصالح، في حين أنها أصبحت “أشدّ ضراوة ونهباً من الاستعمار القديم. ولكن بطرق جديدة غاية في الذكاء والدهاء “، كونها تسعى إلى تذويب الكيانات الصغيرة داخل الكيانات الكبيرة في عالم يرفع شعار: “البقاء للأقوى”. وقد أبدى كثير من الباحثين تحفظاتهم على مصطلح العولمة، فالدكتور عبد النبي اصطيف يشير إلى أنّ “الخوف كل الخوف يكمن في هيمنة العالمي على المحلي. وأخشى ما يمكن أن يخشاه المرء أن يكون هذا العالمي مجرّد وصف برّاق جذّاب لشيء أكثر خطراً على المدى البعيد هو القوى التي تقف وراء ظاهرة العولمة والتي تفيد منها “، ويؤكد أنّ “المحلّي لن يكون في نهاية المطاف غير طرف منفعل في هذه العلاقة، وأن الطرف الفاعل لن يكون غير القوة العظمى الوحيدة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية “، وهكذا تنتفي صفة الإنسانية الكونية عن العولمة، وتتغلب عليها صفة المنفعة التي لن تجنيها سوى الاقتصادات القوية، فالعالم “لا يزال أبعد عن أن يكون “كونياً” بحق، كما يعترف بذلك بعض غلاة أنصار العولمة، بل الواقع إن تدفقات التجارة والاستثمار والأموال تتركز في ثلاثي أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية، وإن هذه السمة الطاغية تبدو نزّاعة إلى الاستمرار “.
ولا يختلف اللعب في المصطلحات الاقتصادية عن اللعب في مصطلحات السياسة، حتى إن مصطلح “الاستعمار” الذي نستخدمه هو مصطلح غربي يعني أن هذا المحتل جاء ليعمّر البلاد التي احتلّها (اسم فاعل من استعمَر: طَلبَ الإعمار)، وهو ما يتّسق مع الرؤية الغربية التي تجعل المستعمر قمراً مضيئاً في ليل الشرق الحالك.
وقد امتدّت تلك المصطلحات السياسية إلى القضية الفلسطينية، وعملت على تشويهها على نطاق واسع في الغرب، وفي الكيان الإسرائيلي الغاصب خاصة بعد 7/ 10/ 2023؛ ويمكن لنا أن نأخذ مثالاً على ذلك المصطلحات الإسرائيلية (والغربية طبعاً) التي صارت تربط بين المقاومة وداعش، وتُغفل السياق التاريخي للاستيطان والقمع الإسرائيلي، محاوِلةً إقناع الدنيا بأسرها أن العالم بدأ في السابع من أوكتوبر 2023. وقد شهد هذا الإعلام لعباً على الكلمات، بعد أن استخدم لفترات طويلة مصطلحات كالجدار العازل (لجدار الفصل العنصري) والخط الأخضر (الذي يفصل بين الحضارة “الإسرائيلية” والهمجيين العرب) والمخربين للأبطال الذين قاوموا الاحتلال مع عائلاتهم .
وتمكن الإشارة إلى مصطلحات يتم التركيز عليها في الإعلام الغربي فـ”القتلى الفلسطينيون” لا صفات لهم، والقتلى الإسرائيليون يُذكرون بصفاتهم. ويشير لؤي فوزي إلى تغطية بي بي سي للحرب الأخيرة في غزة، فيذكر أن مراسليها “غالباً ما يعمدون لاستخدام أوصاف مُجهّلة أثناء تغطية أخبارهم، مثل “أناس” أو “أشخاص”، على غرار “150 ماتوا اليوم في غزة جرّاء العمليات الإسرائيلية العسكرية”، بينما يُقدَّم القتلى الإسرائيليون بأوصاف علاقاتهم الأسرية والاجتماعية على غرار “أمّ” و”جدّة” و”صديق” و”أخ” و”ابن” و”حفيدة”
كما يشير إلى لغة الإعلام الغربي حول الأطفال، فالأطفال الإسرائيليون هم أطفال طبعاً، بينما الأطفال الفلسطينيون هم “أناس تحت سن الثامنة عشرة” (People under 18) أو “قُصَّر” (Minors)؛ في محاولة شيطانية للالتفاف على حقيقة أنهم -صدِّق أو لا تُصدِّق- أطفال فعلاً، ويُعد المصطلح الأول -“أناس تحت سن الثامنة عشرة”- امتداداً للغة العنصرية ذاتها التي استخدمها آرثر بلفور في إعلانه البغيض منذ مئة عام تقريباً، عندما وصف الأغلبية العربية الفلسطينية في فلسطين التاريخية بـ”الأقليات غير اليهودية “.
لقد ركزت المنابر الإعلامية الغربية إذن بشكل منحاز على لغة عاطفية تصف قتل الإسرائيليين، وتتجاهل مقتل الفلسطينيين، فتجعلهم أعداداً، وتجرّدهم من إنسانيتهم، فكأن موتهم خبر طبيعي يمكن أن تستمع إليه وأنت مسترخٍ أمام التلفاز دون أن يرفّ قلبك.
إن شيوع مثل هذه المصطلحات يُعدّ في هذا العصر استعماراً اتصالياً، تسيطر فيه الولايات المتحدة على ثلثي حجم الاتصالات في العالم ، وترسّخ مصطلحاتها، وتبثها من خلال إعلامها الذي يشبه “وزارة الحقيقة” في رواية جورج أورويل 1984، ليقلب الحقائق حول القهر الذي تتعرض له الشعوب المستعمَرة، استناداً إلى رؤية إعلامية استشراقية، تتطور بتطور أدواتها. ولعلّنا نلاحظ أن تأثير حرب غزّة 2023ـ 2024 على الرأي العام العالمي قد بلغ مداه في الولايات المتحدة وأوروبا، وخلخل قناعات راسخة حول مظلومية “الشعب اليهودي المضطَهد الذي يكافح من أجل الاستقلال “، حتى إنّ خلخلة تلك القناعات لصالح الشعب العربي الفلسطيني وصل إلى الجامعات الأكثر تأثيراً. غير أن الخطورة تكمن في أنّ الغرب، والولايات المتحدة خاصة، يرى أن الصورة قابلة للترميم بسرعة لأن العالم سينسى، وسيخضع للعبة الإعلامية الكبرى من جديد. وهو يحشد خطابه الإعلامي المدجّج بنظرة استعلائية منحازة للقوة، لا للحق، في مقابل إعلام عربي هش ليست لديه مصطلحات موحّدة، ولا خطة موحّدة تجاه أيّ من القضايا المصيرية.


(5)
وكما جرى في حرب غزة عام 2009، حيث “وزعت وزارة الخارجية الإسرائيلية كراساً وصف بالكراس الإلزامي على جميع المتحدثين الصهاينة “، وكما يجري في كل الحروب استُنفرت الآلة الإعلامية الغربية والإسرائيلية، لتعزف سيمفونية واحدة، فعندما “تناثرت جثة الطفلة الفلسطينية الغزية في ساحة بيتها، والتهمتها الكلاب، لم تتحرك مشاعر الصحافة الإسرائيلية، ولم تتحلَّ حتى بالحد الأدنى من الصدقية والمهنية، واختارت في اليوم التالي صور أطفال ومسنين يهود من عسقلان يجلسون داخل الملاجئ في حالة رعب لتسطَّر عناوين تشجع على الحرب، وتدفع نحو القضاء على “الإرهاب الفلسطيني” عبر عملية “الرصاص المصبوب “”.
وعندما استيقظ “العالم المتحضّر” صباح 7 أوكتوبر “لم ينتبه” إلى ثلاثة أرباع القرن من القهر الذي دفع المقهورين إلى الدفاع عن أنفسهم، وليس البدء بالهجوم الذي كان قد وقع، وتمّ تجاهل مسبباته عبر عقود؛ فعندما تصف وسائل الإعلام الغربية ما جرى يوم 7 أوكتوبر بالهجوم غير المبرر “تكون قد أغفلت 75 عاماً من الغزو الإسرائيلي لفلسطين و56 عاماً من الاحتلال العسكري ومعاناة الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي. هذا يعني أنّ الرأي العام الغربي، الذي يملك معظمه معرفةً محدودة بهذه الخلفيّة التاريخيّة، يفتقر إلى السياق الضروري لفهم الوضع الحالي.
لقد صنّفت وسائل الإعلام الغربية السابع من أكتوبر كـ “هجوم إرهابي” بشكلٍ قاطع، وصوّرت الهجوم الإسرائيلي على غزة، الذي خلّفَ بعد عام من الحرب نحو اثنين وأربعين ألف شهيد مدني، ونحو مئة ألف جريح، على أنه دفاع مشروع عن النفس، وسألتْ كلّ ضيوف المحطات الإعلامية العرب “هل تدين حماس؟” في حين لا يُطلب من الضيوف الغربيين أو الإسرائيليين أبداً على المحطات الإذاعية نفسها إدانة عمليات القتل الإسرائيليّة في غزة .
وقد عملت وسائل الإعلام الغربية، وعلى رأسها وسائل الإعلام الأمريكية، على خداع الرأي العام العالمي، وصدّرت بيانات تحثّ على “إيصال الماء والغذاء” إلى السكان المدنيين، دون أن تقوم بأي خطوة عملية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي لإجباره على ذلك، أو دون أن تقوم بأية خطوة لوقف الحرب الظالمة على الغزّاويين، فيما استمرّ تدفق الأسلحة إلى الكيان الغاصب، وتمّ الدفاع عنه في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية حتى ينجو من العقاب.
كما عمل الإعلام الغربي على كم الأفواه الصحفية التي تبدي تعاطفاً مع الرؤية الفلسطينية، فقد تم إيقاف ستة من الصحفيين في هيئة الإذاعة البريطانية على ذمة التحقيق في بداية الحرب على غزة، كما تم إبعاد ثلاثة مذيعين من شبكة (إم إس إن بي سي) الأمريكية، بينما أقالت صحيفة الغارديان رساماً كاريكاتورياً رسم صورة لنتنياهو يلبس قفازات الملاكمة ويطلب الرحيل من سكان غزة قبل أن تتم الحرب يومها العاشر. أما التهم الموجهة لجميع من يبدي التعاطف مع الفلسطينيين، أو يحزن لما أصابهم، أو يدافع عن إنسانيتهم، فهي تهم جاهزة يمكن اختصارها جميعاً بتعويذة “معاداة السامية”. أمّا الإعلام الإسرائيلي، فهو مصدّق في الإعلام الغربي رغم كذبه، وهو إعلام يُراد منه إحداث الصدمة رغم انكشاف زيف الأخبار التي يبثها، ونشير هنا إلى أن مراسلة قناة I24 الإسرائيلية نيكول زيديك نقلت “تصريحات عن مسؤولين إسرائيليين جاء فيها أنّهم عثروا على جثث لأربعين رضيعاً برؤوس مقطوعة في مستوطنة كفار عزا “، وقد انتشر هذا الخبر الملفّق انتشار النار في الهشيم، ونشرته الديلي ميل والتايمز؛ ليتبيّن فيما بعد أنه خبر يسعى إلى تشويه صورة المقاتلين الفلسطينيين.
لم تتردّد الديلي ميل أن تعنون غلافها: “أطفال بُترت رؤوسهم: 40 طفلاً قتلوا رمياً بالرصاص”، ولم تتردد ذا تايمز البريطانية، أن تكتب على صفحتها الأولى، “حماس تذبح حناجر الرضع”، لأنّ هذا الخبر الذي لا صورة تدعمه يرسّخ الصورة الاستشراقية للعربي الهمجي الذي لا علاقة له بالحضارة. ولم يخجل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يعرض كذبته على الرئيس الأميركي جو بايدن الذي تحدث سريعاً أمام قيادات للجالية اليهودية في الولايات المتحدة، مؤكدًا لهم صدمته من المشاهد التي رآها (!!)، ليخرج البيت الأبيض بعد ساعات فقط، نافيًا الخبر من أساسه .
ولعل من أبرز الأسباب التي توضح سبب هذا الانحياز سيطرةَ الصهيونية على الإعلام الغربي، وهو الأمر الذي أكده آلان ديرشوفيتز، المكلف بالدفاع عن إسرائيل في القضية التي رفعتها ضدها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، عندما قال: “اليهود أقوياء للغاية، نحن أغنياء جدّاً، نحن نسيطر على وسائل الإعلام، لن نعتذر أبداً عن استخدام قوتنا ونفوذنا، ولن يتحقق السلام للشعب اليهودي والأمة اليهودية إلا بالقوة” .
وكانت صحيفة معاريف قد دعت في عام 2006 إلى استخدام تفوق القوة الذي “يحقق السلام للشعب اليهودي”، في بداية حرب لبنان 2006، فقال أمنون دنكنر رئيس التحرير ودان مرغريت أحد كبار المحررين فيها: “يجب أن نستخدم أولاً تفوقنا الهائل في استخدام وتفعيل نيران المدفعية والجو، بحيث لا تبقى أزقة أو بيوت، وحتى تصبح الخنادق والتحصينات مدفونة تحت أنقاض الدمار، لا مكان في هذا الوقت للشفقة والإحساس المرهف “. وهذا ما وجدنا له تكراراً، بل تصعيداً في حرب غزة 2023، فتفوّق القوة (بما فيه القوة النووية) هو الذي يضمن الأمن والسلام، وهو حق من حقوق الغرب (وليس إسرائيل فقط)، لضمان التفوّق، ما دامت الضحية تنتمي إلى الشرق المتوحش الهمجي البعيد عن الحضارة. لذلك دعا عميحاي إلياهو وزير التراث في حكومة نتنياهو يوم 5 نوفمبر 2023 إلى قصف غزة بقنبلة نووية، بينما أكّد السيناتور ليندسي غراهام عضو مجلس الشيوخ الأمريكي في مقابلة مع قناة “إن بي سي نيوز” الأمريكية مساء الأحد 12 مايو 2024، أنه “يحق” لإسرائيل ضرب غزة بقنبلة نووية، كما فعلت بلاده بمدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين لإنهاء الحرب العالمية الثانية (1939ـ1945) .
إنّ مثل هذه التصريحات كان من الممكن أن تقلب الدنيا لو أنها صدرت عن شخصيات غير إسرائيلية أو أمريكية، غير أنه يتمّ تجاهلها وتذويبها بشكل مدروس، مثلما يتم تجاهل أكثر من عشرة آلاف فلسطيني تم اعتقالهم بعد السابع من أكتوبر، إذ لم تطالب أي مؤسسة رسمية، حتى منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها، بالإفراج عنهم، ولا عن نحو عشرة آلاف آخرين كان قد جرى اعتقالهم قبل ذلك التاريخ.
الإعلام الرسمي الغربي إذن، على تفاوتٍ ضئيل في التفاصيل بين دولة وأخرى، يسعى إلى تغيير الصورة بالقوة، والقضاء على أيّ أمل عربي بالتحرر، سواء بالفعل العسكري، أو حتى بالفعل الإعلامي المضاد، وذلك عبر تحرّك الأساطيل (كما رأينا بعد صدمة 7 أوكتوبر) أو عبر القوة الناعمة التي ترفع الديمقراطية شعاراً، لتُسقط الأنظمة التي لم تلتحق بعد بركب النظام العالمي الجديد الذي دعا له جورج بوش الأب عام 1990.
وتنبغي الإشارة إلى أنّ الدعوة لنظام عالمي جديد تحكمه “الديمقراطية” الغربية، ليست جديدة أبداً، فهي مولودة من رحم الرؤية الاسشراقية، وهي ما تتم الدعوة إليها، وما يتم التصريح بها، حتى من قبل الكونغرس الأمريكي دون خجل أو مواربة؛ فهو يريد الضغط على الأنظمة غير الموالية له من خلال خداع شعوبها؛ إذ يرى أنه “يمكننا أن نحقق بعض أهداف سياستنا الخارجية من خلال التعامل المباشر مع شعوب الدول الأجنبية بدلاً من التعامل مع حكوماتها من خلال استخدام أدوات وتقنيات الاتصالات الحديثة. يمكننا اليوم أن نقوم بإعلامهم والتأثير في اتجاهاتهم، بل وممكن في بعض الأحيان أن نجبرهم على سلوك طريق معين، وهذه المجموعات يمكنها بدورها أن تمارس ضغوطاً ملحوظة وحتى حاسمة على حكوماتها “.


(6)
يخلص هذا البحث إلى نتيجة أساسية مفادها أن الإعلام الرسمي الغربي انحاز بشكل فاضح إلى جانب المجرم على حساب الضحية في الحرب الدائرة على غزة منذ عام، وأنّ هذا الانحياز هو امتداد لمرجعية استشراقية موغلة في القدم، ترى العرب (وكثيراً من الشرقيين والجنوبيين) بشراً من الدرجة الثالثة، فهم ينتمون إلى دول العالم الثالث التي لا تستحق سوى فُتات الغذاء والحرية والتمدّن.
إنّ سعي الإعلام الغربي لجعل هؤلاء، ونحن منهم، كالأيتام على موائد اللئام يتطلّب منّا إعلاماً مضاداً ومنظّماً لتحسين صورة الإنسان الشرقي، حتى لا يرسمها غيرنا كما يشاء، وهذه مهمة صعبة بالتأكيد في ظلّ وجود طابور خامس استشراقي مقتنع بدونيته وتقزّمه أمام اكتساح الغرب للمثل والمبادئ التي قامت عليها حضارات الشرق.

د. يوسف حطّيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *