يقول الأديب جبران خليل جبران في هذا الحوار الشيق الذي يتمحور حول صراع بين طرفين تجمع بينهما أواصر جغرافية، في إطار مجتمع مركب، فضلاً عن عادات وتقاليد أحاطها المجتمع بهالة من الرمزية والقداسة، قد تتجاوز أحيانًا حد المعقول. فهي تهوي على الفرد دِراكا، وعليه يحار: أيها يأخذ؟ وأيها يسلك؟ وأيها يدع؟
هذا الأمر يجعل المرء يهيم في سراديب مظلمة وأغوار دقيقة لم يكن يعرفها. فإن أراد أن يعود القهقرى، فلا سبيل له، لأن ضغط المجتمع قوي جدًا. العوائد هي عبارة عن عدو للإحساس النقدي؛ فهي كسمّ الثعبان تخدّر فريستها وتشّل حركتها. وأحيانًا أخرى، تحول حياة الفرد إلى جحيم.
الحوار عميق بين الرغبة والرفض، بين الإقناع والتعنّت، بين الحاضر والماضي. من له الحق؟ ومن لا يرغب فيه؟ مع التشبث بأن ما عليه المجتمع هو الصواب، ولو كان دون ذلك. فهناك سلوكيات صدئة رانَت عليه، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال المزاوجة بين النقيضين. هذا الأمر، في الحقيقة، مدعاة للنظر.
يقول لك الوالد:
“أنت عاق إذا كنت لا تفعل مثلي”.
ويقول لك الكاهن:
“أنت كافر إذا كنت لا تصلي صلاتي”.
وتقول لك المحكمة:
“أنت مجرم إذا كنت لا تتبع شرائعي”.
فتجيبهم: ولماذا؟
فيقولون: لأن جميع الناس يفعلون ذلك.
فتصرخ متوجعًا: ولكن جميع الناس تعساء، وأنا أريد أن أكون سعيدًا.
فيقولون لك: كن مثل جميع الناس، لأنك لست أفضل منهم.
وهكذا يظل البشر على قيد الحياة، وأشباح أجدادهم حية في أجسادهم.
تحليل النص:
نستخلص من الحوار أعلاه مدى طغيان النمط العام في حياة العالم العربي، بما فيه من عادات وسلوكيات، رسمت أخاديدها على حياة مجتمعات هذا العالم. تمكن هذا النمط من مريديه، فتحول بقدرة قادر إلى واقع حقيقي قطعي يتقمصه الفرد والمجتمع.
من يحاول الخروج على هذا النظام يعتبر متمردًا على عادات وسلوكيات مجتمعية تحظى، في عرف المجتمع، بمكانة مقدسة. الأمر الذي يترتب عليه أن المخالف لهذه القواعد، التي تستمد قوتها من المجتمع، عاق، ويستوجب وضعه ضمن خانة المطرودين من رضا هذا المجتمع.
واقع مجتمعاتنا:
إن واقع مجتمعات العالم العربي به من التشنج والانحراف السلوكي والذوقي ما يستدعي إعادة النظر. هذا كطريقة من طرق الطعن في قواعد هذه المنظومة التي لا سند شرعي لها، ولا قانوني. إذ يتم توارثها قسرًا لكي تصبح جزءًا من نمط الحياة، وكأنها نظام داخلي محظور الخروج عن زوايا محرابه.
ترى القوم في هذه المجتمعات صرعى، كأنهم أشجار نخل اقتُلعت من جذورها العميقة، وقُذف بها خاوية تسير وسط قطيع آخر، فاقدًا أحيانًا لهويته وحريته. يعيش الفرد فيها صراعًا داخليًا بين جناح جذب العادات والتقاليد، التي أراد المجتمع من خلالها تطويع كل أفراده، وجاذبية أخرى تواقة إلى الطيران خارج السرب والمجال.
هذا الوضع الشاذ يخلق ارتباكات مجتمعية، آثارها السلبية شديدة على الإطار العام للمجتمع.
الخاتمة:
أختم هذا البحث بما قاله جان جاك روسو:
“نمضي نصف أعمارنا دون أن نعرف كيف نحيا الحياة، والنصف الثاني، وقد تعلمنا الحياة، دون أن نقدر أن نعيشها”.
الكاتب عبدالسلام اضريف